الحداثة في علاقة جدلية تتراوح بين الاستمرار والتقابل مع ما قبلها، في علاقة إقبال وإدبار بعد أن هيمنت إشكالية “النهايات” على الزمن الحديث: نهاية الإنسان، نهاية العقل، نهاية الأخلاق، نهاية الحق، نهاية الدين، نهاية التاريخ، الخ. هذه النهايات التي صدَرت عن نزعة عدمية عميقة تكشف عن مدى الأزمة الفكرية والروحية التي يعاني منها الغرب اليوم.
تميزت الحداثة بانقلابها على الفلسفة النظرية عن طريق السياسة، أي تحويل الفلسفة السياسية التأملية إلى “فلسفة سياسية” عملية على يد ماكيافيللي (Niccolo Macchiavelli 1469-1527). فمن المعلوم أن أفلاطون وأرسطو هما اللذان ابتكرا علم السياسة، الأول في محاورة الجمهورية والثاني في كتاب السياسة. لكن قولهما في السياسة كان خاضعا للفلسفة النظرية، أي أنهما، وخصوصا أرسطو، كانا يعتبران علم السياسية جزءً من علم الأخلاق، وكلاهما خاضعان للميتافيزيقا. مهما يكون السياسة هي النظر في “الوجود السياسي” للإنسان وليس في الوجود الأونطولوجي للإنساني (الدازين) كما كان عند هيدغر، ولذلك أضحى السؤال الفلسفي في زمن الحداثة ليس هو ما الوجود أو ما هي الميتافيزيقا، ولكن “ما هي الفلسفة السياسية؟”، كما أن السؤال عن الإنسان لم يعد البحث عن الإنسان في ذاته وإنما عن الإنسان في “مدينته” -دولته، أي عن من هو المواطن.
أولا) مظاهر التوتر والتكامل بين السياسة والفلسفة:
في محاورة الجمهورية لأفلاطون تم التعبير عن التضاد بين السياسة والفلسفة من خلال استعارتين هما “الكهف المظلم” الذي يوجد فيه المواطنون مكبّلين بالآراء والمعتقدات، كناية عن السياسة، و”النور” الذي تنكشف في ضيائه الحقائق المطلقة متحرِّرة من قيد الآراء والظنون والمعتقدات، والذي رَمزَ به للفلسفة المتعالية عن السياسة. نتيجة لهذا التضاد لاحقت المدينة (الدولة) الفلاسفة وضايقتهم لأنهم استخفوا “بآرائها” واعتقاداتها الدينية.
كانت غاية الفلسفة على النقيض من غاية السياسة؛ ذلك أن غاية السياسة هي حفظ نظام الآراء والعقائد والمؤسسات، لكونه يؤَمّن استمرار المدينة ضمن صراع مسموح به في إطار الحدود والقوانين والضوابط المقبولة من لدن الجميع، بينما غاية الفلسفة هي خلخلة هذا النظام بالتشكيك في أصوله توطئة لتقديم بديل أو بدائل أفضل منه.
ويمكن التعبير عن التقابل بين الفلسفة والسياسة بالتقابل بين حب المعرفة وبين حب المناورة والحنكة في تدبير الحُكم؛ إنه تقابل بين الحكمة النظرية والحُكم العملي، بين البحث عن السعادة عن طريق التأمل العقلي، والبحث عن السعادة عن طريق السلطة. لذلك قد ينظر السياسيون إلى الفلاسفة بأنهم ضارّين للسياسية، لأن ما هو صالح في السياسة قد لا يكون صالحا في الفلسفة، والعكس صحيح.
لكن في مقابل ذلك، يمكن الدفاع على أن السياسة شرط لوجود الفلسفة؛ أولا لأن “الحنكة السياسية”، التي هي القدرة على التمييز بين الآراء والظنون والاعتقادات الصحيحة من الفاسدة، هي توطئة ضرورية للانتقال من الآراء العامة إلى المعرفة الفلسفية، فتكون رؤية النور غير منفصلة عن رؤية الظلال في كهف السياسة، أي أن ممارسة الفلسفة غير منفصلة عن ممارسة السياسة. ثانياً، لا سبيل للحياة بطريقة فلسفية، إلا إذا وفّرت لها السياسة-الدولة الشروط الضرورية داخل الفضاء العام للقيام بذلك، ما يعني أن السياسة هي الطريق الوحيد نحو الفلسفة، ولو أنه يبدو من أسطورة الكهف الأفلاطونية أن الشغل الشاغل للفيلسوف هو التمكن من الخروج من كهف السياسة نحو نور الحكمة، أي إلى فضاء الحقيقة البعيد عن المصالح والصراعات.
لكن بعد خروج الفيلسوف من كهف السياسة وتحرره من قيوده، يشعر بضرورة العودة إليها لإصلاحها، لكن دون أن يعني ذلك أن ممارسة الفلسفة تُكسِب الفلاسفة مَلَكة ممارسة السلطة والحكم، أي تأسيس مدينة فاضلة. لهذا تبقى الديمقراطية السياسية هي الطريق الأقرب إلى تحقيق المدينة الفاضلة، لكن ليس فقط بالارتكاز على الحرية، بل وأيضا بالاحتكام إلى الفضيلة، وإلى المواطن المعني بواجباته نحو المدينة.
وإذا كان الواقع السياسي لأي دولة مناوئ لحرية التفكير الفلسفي، فإن هذا الواقع هو بالضبط الذي يحرّض الفيلسوف على الاهتمام بالسياسة، واستعمال كل الأشكال الخطابية لبذر انتقاداته وتوجيه تساؤلاته بكل حرية.
ثانيا) الحداثة والفصل بين الأخلاق والسياسة:
مبدئيا، ألغت الحداثة التضاد بين الفلسفة والسياسة على يدي ماكيافيللي عندما حوّل وجهة “الفلسفة السياسية” من التأمل النظري نحو التفكير العملي. وكان هذا التحويل بمثابة الإعلان الرسمي لميلاد الحداثة السياسية التي بشّرت بقيم الحرية والعدالة والمساواة والتسامح والاعتراف بالإنسان كذات، والاعتراف بالآخر من حيث هو آخر.
لكن الديموقراطية وقيم الحرية قد تستعمل مطية لنسف معناها ومعنى السياسة. فمثلا نعاين هذه الأيام كيف أنه باسم الديمقراطية تُمارس الفاشية الصهيونية أعتى أنواع الإبادة للشعب الفلسطيني وسرقة أرضه وارتكاب شتى المظالم بوحشية لا مثيل لها في التاريخ. هكذا يجري تسخير القيم التنويرية والليبرالية لنسف حق الشعب الفلسطيني في الحياة، ولا أقول في المساواة والعدالة. بالغت القوى الإمبريالية في تأييد سلوك إسرائيل الاستيطاني والعنصري إلى درجة أنها عطلت كل القوانين الدولية والمقررات التي صدرت عن الأمم المتحدة والمنظمات التابعة لخدمة دولة فاشية بدعوى أنها دولة حداثية وديمقراطية!
بهذا النحو تصبح الديمقراطية، أي السياسة، شكلا جديدا للعدمية يقوم على ممارسة كل ضروب الظلم والشر والتنكيل بالآخر كي تصبح حياته مستحيلة، الذي تم التخلي عن الاعتراف به: فما هو ليس منّا، ما هو ليس بغربي (وتدخل إسرائيل ضمن هذا المفهوم باعتبارها من لواحق الغرب) لا حق له في الوجود، بل أصبح الفلسطيني لا وجه له بالنسبة لمفكر غربي (ليفيناس).
هذا الانحطاط في السياسة كان من نتيجة فصل السياسة عن الفضيلة. صحيح، لا يمكن لأحد أن ينكر أن هذا الفصل أدى إلى التأسيس الرسمي لعلم السياسة والاعتراف بكيانه وقوانينه الخاصة به؛ لكن إبعاد السياسة عن الفضيلة آل بدوره إلى أن يصبح كل شيء مباح، وغدت بعض “الإنسانية” ذئبا لأخيه الإنسان.
وبالرغم من أن فصل السياسة عن الأخلاق وطّأ لفصل العقل عن الوحي، والمعرفة عن الإيمان، فإن السياسة كما يمارسها الغرب الإمبريالي ما زالت تقوم بحروب دينية هنا وهناك، وما زال الإنسان الغربي بعيدا عن الشفافية التنويرية، ويبرهن بحروبه وخاصة ضد الشعب الفلسطيني على أنه غارق في الغموض والمفارقة. كل هذا يؤكد أن إعادة النظر في تعريف الإنسان والسياسة على أساس السيطرة والحرية والمعرفة العلمية وجعل الرخاء هو الهدف الأقصى للفلسفة السياسية الحديثة، هو الذي أفضى إلى تشويه الإنسان الغربي، وبالتبعية الإنسان الإسرائيلي.
ثالثا) الفلسفة بين نسيان الوجود ونسيان السياسة:
لكل مفكر حداثته، فمنهم من فسّر أزمة الحداثة بنسيان الوجود (هيدغر) بدل أن يفسرها بنسيان الطبيعة التي جرى تخريبها في الأزمنة الحديثة، ومنهم من فسرها “بموت الإله” (نتشه)، والحق أن مشكلة الحداثة ليست مشكلة وجودية، أو دينية، وإنما هي مشكلة سياسية، وهي نسيان الإنسان للسياسة باعتبارها فضيلة الخدمة المشتركة والمتبادلة بين المواطنين لتحقيق الخير العام والسعادة المشتركة للجميع. من هنا يصبح السؤال الأساسي، كما قال ليو شتراوس، هو ما هو المواطن، وليس ما هو الوجود البشري الذي يعاني من قلقه (الدازين)، والمقصود به أن يصبح الإنسان مواطنا يشارك في الحياة السياسية والأخلاقية المشتركة داخل الدولة.
إننا نعتقد أنه يمكن علاج أزمة الحداثة من داخلها، طالما أن الحداثة لا تمنعنا من الوقوف على المبادئ التي انقلبت عليها الحداثة ونسيتها، لا تمنعنا من ممارسة الفكر التأملي والتساؤل عن ماهية قيم الحق والخير والعدالة، بجانب النظر في صورها التاريخية المتغيرة بتغير سياقاتها ورهاناتها الاجتماعية والسياسية التي انبثقت منها. ومن ثم، إن انتقاد الحداثة بملحقاتها المتعددة (الحرية، الديمقراطية، العلمانية، العقلانية، الفردانية) لا يمنعنا من التعلق بها والدفاع عنها.
التحرر من عقدة “نهاية العقل” ومن العقلانيات النفعية والتقنوية، والأوْبَة إلى العقل الصحيح الذي ينفتح على الحوار والجدل انطلاقا من أساسه البرهاني تمكّننا من الاتصال بالوحي الصحيح، وتحيين فكرة اتصال الحكمة بالشريعة، الذي يمكّن الإنسان والمجتمع الحديث من استعادة الوحدة بين الحق والواجب، مما يفتح الباب أمام “أنوار جديدة” تجمع بين الحقائق والوقائع والقيم”. غير أننا لا نذهب إلى أن الغرض من انفتاح “العقل الصحيح” على “الوحي الصحيح” هو إعادة الغموض إلى الطبيعة والإنسان، وإنما من أجل أن نضفي عليهما الدلالة والمعنى.
وتأتي قوة المنهج الجدلي من اعتراف الإنسان بحدود قدرته على معرفة حقائق الأشياء، مما يجعله قانعا بمحبة الفلسفة، لا بالطمع في معرفتها، وبالبحث عن الحكمة لا بامتلاكها، ما دامت الحقائق ذات طبيعة إشكالية، وبالتالي لا يمكن الجزم في شأنها بشكل نهائي. لذلك، متى اعتقد الفيلسوف أن الإجابة التي قدمها لأسئلته بأنها إجابة نهائية، وليست إجابة إشكالية ومنفتحة، توقف عن أن يكون فيلسوفا.
4) الوضع الهش لوجود الفلسفة في المدينة:
من البيّن بنفسه أن وضع الفلسفة في المدينة-الدولة غالبا ما يكون هشّاً في كافة الأزمنة، أولا لكونها تحرص على تحدّي الأمر القائم، والمناداة بحق الاختلاف، والذود عن حرية التفكير والاستقلال الذاتي للمفكر، حتى من دون الاهتمام بالمشاركة السياسية في تدبير المدينة. والسبب الثاني لهشاشة وضع الفلسفة موضوعي وهو ملاحقة الدولة والدين للفلاسفة والتضييق على حرية فكرهم.
هناك حل قدمه ماكيافيللي لتلافي وضعها الهش هذا، وتأمين ضمانة تحميلها من اضطهاد السياسيين ورقابة رجال الدين، وهو ربط السؤال الفلسفي بالسؤال السياسي، أي عقد تحالف بين الفلسفة وبين الأمير من أجل السيطرة التامة على الطبيعة والمجتمع معا، وتنظيمهما وفق مبادئ العقل العملي النفعي، وتحرير السياسة، وبمعيتها تصور الإنسان للعالم، من طغيان اللاهوتي.
غير أن هذه الضمانة الآمنة للتفلسف قد تشكل خطرا على حقيقة الفلسفة، لأنها قد تقود إلى تسخير قدراتها ومهاراتها النظرية والخطابية لخدمة نظام سياسي أو قضية وطنية أو غاية دينية أو إيديولوجية معينة، مما سيجعلها خادمة لغيرها، كما حدث في الأنظمة الكليانية (التوتاليتارية)، أو حتى في بعض الأنظمة الليبرالية ذات التوجه المحافظ، الأمر الذي يهدد استقلالها وطابعها الإشكالي التشكيكي، فتتحول أسئلتها وتصوراتها ومفاهيمها إلى بديهيات وعقائد مسلّم بها من لدن الجميع.
لتلافي هذا السقوط المدمّر في أحضان أهل الحل والعقد، سيكون على الفلسفة أن تتخلى عن طموحها في أن تصبح قوة عمومية مؤثرة على السياسة والأخلاق والدين، أي أن تتخلى عن “تاريخانيتها” وتعود إلى تعاليها كي تقوم بدورَها الحقيقي ومهمتها الأساسية في تعبئة تيارات النقد والتحول الشامل لشروط الحياة في مجتمعاتها في استقلال عن خصومها. وهذا يقتضي أيضا أن تقوم الفلسفة بنقدها الذاتي بأن تضع نفسها موضع امتحان وتساؤل داخل مدينتها، ودون أن تنسَى بحثها عن الكليات.
هكذا يتضح أن علاقة السياسة بالفلسفة لا يمكن أن تكون إلا إشكالية. فالفلسفة والسياسة بقدر ما يلتقيان في الموضوع والهدف، يختلفان في سبل الوصول إليهما، وبقدر ما يؤسس كل منهما الآخر، يكون كل منهما خطرا على وجود الآخر وهويته واستقلاله. فالسياسة بدون فلسفة مآلها الجمود والطغيان، والفلسفة بدون ملاحقة المدينة لها عاقبتها السقوط في الخمول والرتابة والتقليد الذي تتبناه الجماهير. من أجل هذا كان التوتر بينهما هو أفضل علاقة ممكنة بين الفلسفة والسياسة، إن أرادتا أن تظلا في عنفوانهما المستمر.
بقلم: محمد المصباحي