الغرب المنافق وحركات استقلال فلسطين

أضافت الأحداث الأخيرة في فلسطين برهانا آخر على عقلية الحكام الغربيين اتجاه طفلهم المدلل إسرائيل والمُغتصَبة فلسطين، بل أكدت مختلف المواقف الرسمية في أوروبا المتحدة وأمريكا النفاق الجلي للغرب عامة، فيما يخص مبدأ العدالة الدولية، الذي ينصبه كالثور الذهبي، الذي “يعبده”، أو يريد أن تؤمن به أمم أخرى، خارج فضائه الجغرافي، على الرغم من صنميته، ووعيه أنه هو نفسه لا يؤمن به. فقد انطلق تسونامي إعلامي تضليلي، موجه بالخصوص إلى الرأي العام الغربي، بعد وصول أول شرارات الانتفاضة الفلسطينية الباسلة لساحات المعارك في فلسطين المحتلة.

ما يقوم به الغرب حاليا، على كل الأصعدة، في هذا الملف، يتجاوز كل خيال، بل يوثق للأجيال أن بداية نهاية الغرب قد بدأت بالفعل. لا نعني هنا نهاية قوته وجبروته، بل وقبل كل شيء نهاية ما كان يوهم العالم قبل حين بأنه يؤسس ثقافته وحضارته: ضمان ثقة العالم في أنه متحضر، بالمواصفات التي حددها، وفرضها على العالم. تجلت “حيوانية” الغرب بكل وضوح، بل عرى ثوار فلسطين على الوجه الحقيقي للغرب، المتعطش لدماء ضعفاء العالم والجائع لخيراتهم الطبيعية وسواعد وعقول أبنائه وبناته. فالغرب “القوي” كان بإمكانه التدخل المباشر والفعلي قبل عشرات السنوات لكي لا تصل الأمور إلى ما وصلت إليه، بالاعتراف بحق الفلسطينيين في أرضهم وبناء دولتهم، ككل شعوب الأرض، عوض الاستمرار في سياسة الكيل بمكيالين، ومد إسرائيل بكل الوسائل الممكنة لممارسة الإبادات الجماعية في حق السكان الأصليين والتفنن في سياسة الأبرتهايد واعتبار الفلسطينيين بشرا من الدرجة الثانية، على أكبر تقدير.

في العمق زرع إسرائيل في المنطقة العربية، لأهداف جيو – سياسية واقتصادية، كان ببذور ما يتقن الغرب زرعه: العنصرية والتمييز واحتقار الآخرين. فعندما تظهر المقاومة الفلسطينية، سواء بالحجارة أو بأسلحة تقليدية محلية الصنع، عن عدم رضوخها واستسلامها، وعندما يجرح إسرائيلي، فإنه يصبح بقدرة قادر يهوديا، لتضليل الرأي العام الغربي، وإعادة إحضار صورة اليهودي، الذي اضطهد وأحرق وعذب في أوروبا، ليس فقط في عهد الأنظمة الفاشية الأوروبية، بل أيضا قبلها. وتستغل الصهيونية هذا التضليل لتبرير قتلها للإنسان الفلسطيني، بمناسبة وبدون مناسبة، والتضييق عليه على كل الأصعدة. لو كان الغرب يريد بالفعل “الكفارة” عن “ذنوبه” اتجاه اليهود، لما كان “ورثهم” أرضا ليست لهم، بل “منحت” لهم، أو “أهديت” لهم كغنيمة حرب واحتلاله للشرق الأوسط. لو كان مصير اليهود يعني بحق شيئا بالنسبة للغرب الإمبريالي، لكان ضمن لهم أرض “ميعاد” في أي مقاطعة آمنة في ألمانيا أو فرنسا أو إنجلترا، وعدم الدفع بهم إلى النيابة عنه لبناء مجزرة والتضحية بأناس عزل، لا يريدون شيئا آخر، من غير العيش في سلام في أرض أجدادهم.

كل ما سبق يمكن لأي عربي يعيش حاليا في الغرب ملاحظته، بل عيشه والشهادة عليه. فقد وصلت وقاحة حكومات السياسات الغربية ووسائل إعلامها ومعظم الأحزاب التي تدور في فلكها، إلى اعتبار كل عربي عبر عن تضامنه مع الشعب الفلسطيني في محنته الحالية إرهابيا، بالمواصفات التي يحددها الغرب لهذا المصطلح، والتي لا تنطبق على الإرهاب الذي يمارسه هو نفسه اتجاه الدول الأخرى. يشار بالأصابع إلى المتظاهرين السلمين المتضامنين مع الفلسطينيين في شوارع المدن الغربية، بل ذهبت بعض الشخصيات السياسية إلى المطالبة بطردهم ونزع الجنسيات الأوروبية عنهم، لأنهم يمارسون حقهم في التظاهر السلمي، وهو أمر لم يطبق على المجموعات التي نظمت مظاهرات للتضامن مع الصهاينة. بل فتحت وسائل الإعلام الغربية على مختلف مشاربها وتوجهاتها وأطيافها وألوانها السياسية بواباتها لتعبير كل من هب وذب على اعتبار حق الفلسطيني في المطالبة بوطنه وحقه في النضال من أجله عملا عدوانيا ضد إسرائيل. بل تحاول السلطات الغربية التضييق على الغربيين الذين يجهرون بالحق، ويرون العدوان الإسرائيلي على الفلسطينيين نتيجة مباشرة للدعم الغربي اللامشروط للصهاينة.

التضامن مع الشعب الفلسطيني لا يجب أن يكون من باب إنساني أو عرقي وقومي فقط، بل هو قبل كل شيئ تضامن من أجل إقناع الغرب بأنه معرض للزوال بسبب سياسته، لأن البشرية تعيش مرحلة انتقالية في تاريخها، لم يعد الغرب مركز قوة، بإمكانه ممارسة ما أراد، دون حسيب أو رقيب، بل إن تشكيلات قوة جديدة أضحت واضحة، ما يجمعها هو أنها عانت من جبروت الغرب لقرون طويلة، وقد وصلت إلى مرحلة باستطاعتها فرض نفسها كمنافسة له، بل لربما كبديل عنه في الساحة العالمية. والغرب، بدعمه الحالي الأعمى لإبادة الشعب الفلسطيني، يمنح في العمق، دون أن يرغب في ذاك، لهذا الشعب طاقة إضافية للاستماتة في المطالبة بأرضه. وتحكم الصهيونية على نفسها بالإعدام، باستمرارها في سياسة الأرض المحروقة، ومواصلة الاعتقاد في وهم تفوقها العسكري، ذلك أن أنجع سلاح في يد المضطهد هو الإرادة القوية في استقلاله.

بقلم: د. حميد لشهب / النمسا

Top