هي سقطة مدوية حتى قبل أن تنطلق جنوب إفريقيا في تنظيم “بريكسها” الإفريقي، حيث لقنت الدبلوماسية المغربية نظيرتها الجنوب إفريقية أبجديات التعامل الدبلوماسي مع الأمم والدول وفككت خيوط مناورات الاسترزاق بالكيانات الوهمية، هذا الرفض الذي يحمل دلالات عميقة من حيث توقيته وصياغته وقناة تصريفه، تضمن رسائل معلنة ومشفرة للساسة بجنوب إفريقيا…
المغرب لم يتبث عليه أن ازدرى المبادرات الجادة للدول مهما صغر شأنها أو عظم، لكن يقسو الرد وتغلظ الكلمات حينما يتحول “البريكس” الإفريقي لشماعة تسعى من خلاله جنوب إفريقيا لتحقيق مآرب وانتصارات سياسية وهمية كان طعمها إغراء المملكة المغربية بانضمام ملغوم…
اجتماع “البريكس” الجنوب الإفريقي بجوهانسبورغ حق أريد به باطل، بل التصريح بطلب لم تؤشر عليه المملكة المغربية، مناورة لم تتأخر الرباط في فك طلاسيمها، حتى أن وزير خارجية المملكة المغربية ناصر بوريطة ارتأى عدم الرد المباشر على نظيرته “ناليدي باندور” بل جاء الرفض من المصدر المأذون من وزارة الخارجية والتعاون الإفريقي والمغاربة المقيمين بالخارج، والمرجح أن يكون على لسان موظف في ديمومة هاته الوزارة عقب العطلة الرسمية لمعظم أطر الوزارات بالمملكة المغربية، وكأن بوريطة يقول لنظيرته الجنوب إفريقية لن أنشغل بفك خيوط مناورتك المفضوحة، ويؤكد لها أن الدبلوماسية المغربية ومن يدور في فلكها تبيت ليلا وعيونها مفتوحة للتصدي لكل المناورات التي تروم التلاعب بالمصالح العليا للمملكة المغربية .
المصدر المأذون خرج ليقلب تصريح “ناليدي باندور” رأسا على عقب ومعها قصاصات العالم الصحفية في هذا الشأن، حيث صيغ البلاغ بصنعة و”تطريز” مغربيين خالصين، بلغة رصينة يجعل القارئ يتوقف عند النقطة والفاصلة علها تحمل رسائل مشفرة لم يتم الإعلان عنها، بين ثنايا تلك الكلمات والجمل، بلاغ بعيد كل البعد عن مجرد انفعال أوردة فعل دبلوماسية أو مجرد عتاب لبلد مناور، ولكنه قرار مدروس ومحبوك، بعد تقييم دقيق لهذه الخرجة الإعلامية لوزيرة خارجية جنوب افريقيا حول مشاركة من جانب واحد، وحتى دون علم بلد من حجم المملكة المغربية، والأكيد أن الخارجية المغربية جندت كل وسائلها وقامت بالخطوات الممكنة والمستحيلة لكشف حقيقة وملابسات هذه الخرجة البدائية وغير الموفقة للجنوب إفريقيين، ولم تكن مجرد قراءة في تصريح غير مسؤول أو حماس زائد لمسؤولة سياسية تتربع على خارجية جنوب إفريقيا، لكن الرفض كان لاذعا والتقريع كان حادا ليدق مسمارا آخر في نعش السياسة الجنوب إفريقية ويعمق جراحها، ويكشف عورتها للعالم، بل عرى مصداقيتها أمام دول المعمور حينما وصف دبلوماسيتها بتدبيرها اللاجدي والارتجالي والاعتباطي المتسم بالخروقات البروتوكولية المتعمدة والاستفزازية.
وهي كلها كلمات منتقاة بعناية تكشف بحق نوايا مبيتة، فالمغرب لم يتبث عن مسؤوليه قط ممارسة المراهقة الدبلوماسية، ويعلم الجميع أن خارجية المغرب من الوزارات السيادية منذ عقود من الزمن، زد على ذلك أن العاهل المغربي محمد السادس يحيط السياسة الخارجية بحرصه الشديد، سيما تلك القادمة من عمق إفريقيا، ومن سابع المستحيلات أن يغلل المغرب يده إلى عنقه في وجه يد ممدودة إليه بتباشير الخير، لكن الرد اقتبس من جنس التصريح الملغوم، ليقدم بذلك المغرب الدروس في الواقعية السياسية والدبلوماسية وكيف يجب أن تحترم الدول نفسها؟… لا أن تمنح “بريتوريا” لدبلوماسيتها الحق في الحديث باسم بلد ذي سيادة من حجم المغرب، وتعلن الوصاية بطريقة أبوية عن علاقتها بدول “البريكس” لمجرد نيلها شرف تنظيم اجتماع 24 غشت، كما ذكرها البلاغ المغربي بالعلاقات الثنائية التي تجمعه بباقي الأعضاء الأربعة الآخرين “للبريكس”، واتفاقيات الشراكة الاستراتيجية التي تجمعه بثلاثة منها، ليزيد من حشره للساسة الجنوب إفريقيين في الزاوية، وفي مقدمتهم وزيرة خارجيتهم “باندور”، بتأكيده أن المملكة لم تقدم قط طلبا رسميا للانضمام إلى المجموعة المعنية ليزيد من إقامة الحجة بالرفض الجازم، مذكرا أن قرارا استراتيجيا من هذا الحجم “يندرج في الإطار العام والتوجهات الاستراتيجية للسياسة الخارجية للمملكة”، وفق رؤية العاهل المغربي، وليس مجرد قرار انفعالي لخدمة أجندات سياسية تم الكشف عنها في غضون أيام فقط، المغرب وكأنه يؤكد لجنوب افريقيا أن الساسة بالمملكة المغربية ليست لديهم ذاكرة “البابون” وأنه حتى وإن فكرت المملكة المغربية بالانضمام إلى هذا التجمع فلن تنال جنوب إفريقيا شرف هذا الحضور على ترابها، في ظل العداء الجنوب الإفريقي بالوكالة، وكأنه يعيد تصريح بوريطة حينما أقر بتواجد جنوب افريقيا “في الجانب الخاطئ من التاريخ”، وأن المغرب لازال مستمرا في مواجهة هذا الصخب من خلال عزل جنوب إفريقيا ومواقفها المعادية للشرعية الدولية، وها هو يستمر ببلاغه هذا في الدفاع عن مصالحه، ولن تنطلي على المغرب الحيلة مرة أخرى، ولن تحظى بريتوريا باستقبال زعيم “مليشيات البوليساريو” بحضور ولو موظف بسيط من وزارة خارجية المملكة المغربية…
المغرب لن ينسى ماقامت به وتقوم به جنوب إفريقيا من محاولات مكشوفة للتدخل في شؤونه الداخلية والسعي لتقسيمه منذ 2005 وهو تاريخ اعترافها بجبهة “البوليساريو” المؤدى عنه، فكيف لبلد عجز عن التأثير في محيطه، بتواتر اعتراف أكثر من 30 دولة إفريقية بوحدة أراضي المملكة المغربية، حيث كانت تظن جنوب إفريقيا أن دول العالم ستسير في فلكها وفلك البلد الوظيفي الآخر الذي تذهب ملايير بتروله وغازه لتحريك عداد محطات بريتورريا، عوض تنمية شعبه وتأهيل بنياته التحتية…
وعلى جنوب إفريقيا أن تلتفت غير بعيد عن أراضيها حيث جندت المملكة المغربية خيرة دبلوماسييها ليكون سفيرا لديها، ليكون ثقل السفير من وزن وأهمية الدولة التي تستضيفه حيث يسعى المغرب جاهدا ليكسبها في صفه، ويعيد بناء علاقة الثقة معها بأسس سليمة مبنية على أواصر التعاون لا التآمر، ويتعلق الأمر بالسفير المغربي والسياسي المخضرم “يوسف العمراني” الذي سبق أن شغل كاتبا عاما لوزارة الشؤون الخارجية والتعاون، قبل أن يتم تعيينه سنة 2018 سفيرا لديها، والذي يؤكد باستمرار أن روابط الصداقة والنضال التي طالما جمعت المغرب والزعيم الجنوب إفريقي “نيلسون مانديلا منذ سنوات التحرير إلى أيام حياته الأخيرة، لا يمكن القفز عليها، في وقت يحاول فيه البعض ضرب تاريخ المناضل الإفريقي بدعم مرتزقة على حساب الوحدة الإفريقية التي كان ينشدها…
بقلم: يوسف بوغنيمي
صحفي مغربي