إن من ينتحر ليس بالضرورة إنسانا يكره الحياة، بل إنه يحبها بشدة، غير أنه لم يجدها كما كان يتمناها. العديد ممن اختاروا أن يضعوا حدا لحياتهم تركوا رسائل ذات معنى بليغ، ومنهم من لم يترك أي رسالة، لكن انتحاره كان في حد ذاته خطابا
. بليغا إلى من يهمه الأمر
العديد من الأدباء والمبدعين المغاربة والعرب وجدوا أنفسهم ذات لحظة يأس
. وإحباط؛ مرغمين على توديع الحياة رغم حبهم الشديد لها
ضمن هذه الفسحة الرمضانية، سيرة لمجموعة من هؤلاء المعذبين على الأرض، إلى
جانب نماذج من إنتاجاتهم الإبداعية، تكريما لأرواحهم الطاهرة
الشاعر عبد الباسط الصوفي شنق نفسه بلباس نومه
انتحر سنة 1988 قبل أن يناقش رسالته الجامعية، وكان انتحر بشنق نفسه بلباس نومه في 20 يوليوز عام 1960 في أحد المستشفيات إثر إصابته بانهيار عصبي، سبقته محاولات انتحارية. عبد الباسط الصوفي شاعر سوري، ولد سنة 1931 في مدينة حمص، انتسب إلى المعهد العالي للمعلمين ونال شهادة الليسانس في الآداب سنة 1956، ثم مارس التدريس في ثانويات في دير الزور وحمص إلى حين سفره إلى غينيا.
صدر له ديوان وحيد خلال حياته بعنوان “أبيات ريفية” وذلك عام 1961 عن دار الآداب في بيروت، ثم تولت وزارة الثقافة السورية نشر آثاره الشعرية والنثرية الكاملة في دمشق بعد وفاته وتحديدا عام 1964
**
من أشعاره:
امرأة من بور سعيد
خُذْ يا صغيري وامْضغْ اللعناتِ ماتَ أبوك غيلةلَبَني مَزَجْتُ به السمومَ، ولم أكنْ يومًا بخيلةفمُكَ البرئُ يغصُّ .. خُذْ ثديي سأُرْضِعُكَ البطولةالوردُ يُنْبِتُ شوكَهُ .. وكذاك زَنْبقةُ الطفولةطفلٌ ينامُ على الدموعِ مُهَدْهَدًا، أنا لستُ أُمَّهخُذْ يا صغيري، واشربِ الأحقادَ والفُظْ كلَّ رحمهلا تبكِ مذعورا .. تفجّر في يديَّ لظًى ونِقْمَةخُذْ واعتصرْ مني اللهيبَ، ففي ضلوعي حقدُ أُمَّةْ***
طريق
رجفةٌ بين حنايا القبرِ، فلأُرسلْ صلاتي
وَلأَسِرْ، كالحُلُم الغارب، ولأَطْوِ حياتي
أذرع المجهولَ، واهي الخطو، دامي البَسَمات
ذاكَ صوتٌ، من خفيّ الغيب، من أعماق ذاتي
خضَّبَ اللحنَ، على ثغري، وأدمى نغماتي
تلك أقدامي تجوب العمرَ، يوماً بعد يومِ
ما رأتْ عينايَ؟ لا أدري، وما سطَّرَ حُلمي؟
أقطع الأوتارَ آهاتٍ، واستنزف إثمي
آهِ! لا أعلم، ما جهلي بدنياي وعلمي؟
أنا… لا شيءَ، ولا شيءَ سأحيا… عبدَ وهمي
عبثاً أنظر في الأعماق، لا أُبصر شَيَّا
والمدى الشاحبُ، ما مات رؤىً في مقلتيّا
هكذا أمضي مع الدهر، ولا أشكو المُضِيّا
أتخطّى الزمنَ الموغلَ إيقاعاً خفيّا
أنا… لا شيءَ، ولا شيءَ وجودُ الكون فيَّا.
***
يقولون:
هام، بأفريقيا، عاشق، في ضمير البحار، وغاب
يغلغل، في الأفق،
أسود كالقار، عريان، يلطم صدر العباب
يطير مع الوهم، تركض عيناه،
ينصل من سدفي الإهاب
أضاع، على الموج، أيامه،
فكان رحيلاً، بغير إياب
مكادي! أنا، والشراع الصديق، وقيثارتي:
غربة وارتحال
شددنا إلى البحر،
والبحر في الزرقة الأبدية، قبر الرجال
تميل بنا نزوات الرياح
بأنوائها، الصافرات الصخاب
شددنا.
عيوناً، وخفق شراع صديق، وقيثارة من عذاب
ف«سيزيف» من قبل، شد إلى الصخرة الجامدة
تسلق، يحمل أثقال خيبته الخالدة
مكادي! أنا بعض «سيزيف» بعض الذين كابده
فرغت على الزرقة الأبدية،
قلباً هشيماً وروحاً خراب
تسلقتها، لجة وعرة، وارتميت عليها،
عصيَّ الرغاب
مكادي! أنا بعض «سيزيف» بعض الذي جالده
يطاردني اليأس، دامي السياط، كما طارده
مكادي! هما: الصخر والعقم في لجتي الصاعدة
هما الصخر والعلم،
هزها حقدها الزبدي
فثارت غضاب
منافقة، تكتم السخريات،
وتطفو، بزرق الصحارى، سراب
ودرب البحار، بأبعاده،
قديم المتاه، قديم الضلال
ركام سماء رمادية
وزحف ظلال، وراء ظلال
وليل البحار، بآباره السود
عمق تفجر نبع ضباب
مكادي! ترنحت، وانهدمت جبهتي الصامدة
وظلت عيوني، تحدق في العتمة الوافدة
ولم يبق في الكأس، من قطرة واحدة
أنا، والشراع، وقيثارتي غربة وارتحال.
> إعداد: عبد العالي بركات