أكون أو لا أكون.. أو السفر المعكوس1/2

كلما شاهدتُ فيلم “أكون أو لا أكون” 1942 لارنست لوبيتشErnest Lubitsch ، كلما فاجئني، وكأني أكتشفه للمرة الأولى. ما أن أتخطى المشاهد الأولى حتى أفقد القدرة على توقع الأحداث أو العودة إلى الوراء. هذا فيلم لا يأخذك بمنطق درامي، ولا يجعل العلاقة بينك وبين الشخصيات تتأسس وتنبني على التماهي L’identification، واللارتباط بخط درامي حيث من المفروض أن تحقق الشخصية إنجازا معينا أو الخوف عليها من فقدان ما. إنه يبهر بقدرة السيناريو على مفاجأتنا وبحبكة تأخذنا، بحيل مبهرة، إلى حيث لم نكن نتوقع. يتحول الفيلم في لحظة ما إلى نوع من الهلوسة المحسوبة بدقة عالية لتصبح منطقية، مقبولة ومدهشة.
عندما تحاول بأن تتحدث لصديق لتشجعه على مشاهدة هذا الفيلم أو تحكيه له، تجد نفسك عاجزا وتقف على حالة نادرة لفيلم لا يمكن تلخيصه أو تصنيفه (باعتراف العديد من نقاد ومؤرخي السينما) إلا بكونه فيلما لأرنست لوبيتش يحمل بصماته وبحكاية لا يمكن أن تحكى ولا توجد إلا سينمائيا. إننا أمام حالة فيلم سينمائي بامتياز، يقيم بنيويا نوعا من القطيعة مع الأشكال التعبيرية التي سبقته ويستقيل عنها.
 في أغلب الحالات، الفيلم كنمط تعبيري يكون كتنويع فقط لنفس الحكاية التي سبق أن وجدت كنص روائي أو مسرحي أو حكاية شفهية، أي حكاية تتمتع باستقلالية عن أنماط التعبير، التي توجد من خلالها. عندما سئل مرة الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز في محاضرة ألقاها في معهد السينما بباريس من طرف أحد طلبة الطلاب عن ما معنى “فكرة فيلم”، أجاب أن فكرة أي عمل فني هي فكرة مندمجة منذ البداية في نمط تعبيري معين.
يتحدث  الفيلم “أكون أو لا أكون”، وهو معاصر للفترة التي يحكيها أي الحرب العالمية، عن فرقة مسرحية تضطر للعودة لتقديم مسرحية “هاملت” بعد تعرض العمل الذي كانت تشتغل عليه عن هتلر للمنع من قبل السلطات الألمانية، فيضطر أعضاؤها إلى المقاومة، حيث سيكون من بين  مهامهم منع أحد جواسيس الألمان من إيصال لائحة لأعضاء الجيش البولوني الحر في لندن إلى مسئولي المخابرات الألمان حتى لا يتم الضغط على عائلاتهم. هذا الملخص وكل الملخصات الأخرى المتوفرة لا تعطي إلا فكرة جد عامة عن الفيلم ولا تفيه حقه، أي أن ما يحكيه لنا الفيلم لا يمكن أن يوجد خارج زمن عرض الفيلم ولا يمكن إعادة صياغته بلغة أخرى.
العودة إلى هذا الفيلم، هي محاولة أخرى لتعريف السينما، باعتبارها نمطا تعبيريا مستقلا عن الأنماط التعبيرية الدرامية والسردية والبصرية الأخرى، من خلال الاعتماد على ما أنتجته السينما من أفلام، أي تعريف يبلور منهجه من داخل تاريخ السينما. في سياق الإنتاج السائد، الفيلم ليس إلا تعبير توضحي بالصورة والصوت عن نص سابق الوجود، يفرض على حامل مشروع الفيلم  تنميطه وتصنيفه بدقة مبالغ فيها وأن يتخيل نتيجة فيلم لم يصور بعد، أي إنتاج بضمانات مسبقة وبعقلية التعامل البنكي التي لا تسمح بأدنى إمكانية للمغامرة والإبداع، ولا تسمح بلحظة اللقاء بين الكاميرا والواقع الذي يجب أن يكون محددا للعملية الإبداعية في السينما.
إن التعامل مع السينما نقدا وكتابة وترويجا ما زال حبيس المتخيل الأدبي في شقه الكلاسيكي أو الشعبي وحبيس البلاغة الشعرية. نلاحظ ببداهة أن الرواية المعاصرة استقلت عن الحكاية والحبكة الدرامية وأصبحت متحررة وإمكانياتها أرحب وأوسع. ببساطة عندما تذهب لاقتناء رواية، نشتريها لاسم مؤلفها أو لثقتنا بدار النشر أو لمقطع منها نقرأه ونحن نتصفحها داخل المكتبة… عندما تذهب لمشاهدة مسرحية لا تقرر ذلك على ضوء الملخص أو الحكاية التي في الغالب تكون معروفة في حالة نصوص من الريبرتوار العالمي، لكن للتمتع بمشاهدة عرض حي مباشر وللتمتع بأداء جيد ورؤية إخراجية… في السينما وحدها يصبح للملخص (pitch)، وللحبكة الدرامية، والحكاية سلطة مهيمنة، أي أن الفيلم لا يجب أن يخرج عن إحدى الخطاطات الموجودة مسبقا (حصرها المتخصصون في 36 خط درامي) إلى درجة أنه وجدت عدة أشكال وأحجام للملخص الذي لا يعبر إلا عن مكون وحيد في الفيلم: للحكاية، فكرة عن السينما نتداولها دون مساءلة وننسى أنها وُجدت مع اعتماد السينما على التمويل التلفزيوني.

بقلم: محمد الشريف الطريبق

Related posts

Top