ألف.. باء..

مبدعون يكتبون عن الطفولة والبدايات

ما أكثر المبدعين الذين نعرفهم.. نقرأ لهم، نقرأ عنهم.. أو نلتقي بهم في محافل ومنتديات ونستمع لأحاديثهم.. ونستمتع بالجلوس والإنصات إليهم.. لكن، غالبا ما نجهل حكاياتهم الأولى وظروف نشأتهم وملابسات ارتباطهم بالثقافة والأدب والإبداع… إلا من سجل أو دون ذلك صراحة أو ضمنيا في تصريحات صحفية أو من حاول النبش في “سوابقه” الشخصية فيما يشبه السيرة الذاتية..
في هذه السلسلة اليومية التي نقترحها على قرائنا الأعزاء خلال هذا الشهر الكريم، قمنا باستكتاب بعض مبدعينا وكتابنا لاختراق مساحات الصمت وملئها بمتون سردية تحتل أحياز مشوقة للبوح والحكي.. علنا نسلط بعض الأضواء على “عتمات” كانت مضيئة في زمنها وأفرزت شخصيات وتجارب وربما نماذج يقتدي بها القراء وعشاق الأدب والإبداع..
هذه زاوية، إذن، لتوثيق لحظات استثنائية من عالم الطفولة، تتعلق بالمرور من عالم الطبيعة إلى عالم الثقافة، عبر اللقاء الأول بعالم الكُتّاب أو المدرسة وبمختلف الحكايات المصاحبة: الدهشة الأولى في الفصل.. الانطباع الذي يخلفه المعلم أو “الفقيه” لدى التلميذ.. تهجي الحروف الأولى.. شغب الطفولة وأشكال العقاب المادية والمعنوية.. انتظار الأمهات أمام باب المدرسة.. زمن الريشة والدواة ولطخات الحبر في الأصابع وعلى الملابس والدفاتر.. مقررات الراحل بوكماخ الشهيرة، وغيرها من التفاصيل التي التقطتها تداعيات مبدعين مغاربة، والتي كانت البدايات الأولى التي قادتهم إلى ما هم عليه اليوم والتي بكل تأكيد، ستتحكم، قليلا أو كثيرا، في ما سيكونونه غدا.
  إليكم بعضا مما اخترنا لكم من هذه الكتابات العاشقة..

< إعداد: زهير فخري

الحلقة الثامنة

مع الناقدة لبيبة الخمار

خيوط واهنة، والطفولة ملاذ..

يعوي الحزن برتابة، يطلق صيحات يكفهر بها وجه السماء. ينتف الزهر النابت على جسده الخشبيّ وينثره على قشرة الأرض التي تتغضّن وتأخذ ترقبه يسفّ رماده الهوينى حتى يضمحل ويغيب، فتوحل. يتسع ثقبه في قلبي وتختفي من أمامي معالم الطريق وشارات المرور، أتيه. أذهل عن نفسي ويستوي عندي الغدير بالسراب إذا ما لاح أو اضطرب. أخف، أطير قشة ثم أحط. أغوص في جواني السحيق، المخضل كي أؤوب سريعا إلى جحري، أنحشر فيه وأتكوم. “أليس” أنا، والطفولة ملاذي. الطفولة جحري الخفي الذي أرمي فيه بجسدي المهشم وروحي المعطوبة، الأسيرة التي تحن إلى الانعتاق بالفناء. أرمي فيه بزمني الكسير. ثم أمرق منه إلى حديقتي السرية بريحها وثراها وبنداها المنحدر من الجنة محملا بخميرة الحياة الضاجة بالبسيط المتوهج، وبالبريء الصاخب، وبالممتع العجيب. فيبرأ قلبي وتسلَم متمنياتُه من العطب وترتحل سفنه، تمخر العباب دونما خوف من رياح تهبّ وتكسّر السواري. تتفتح بذور أحلامه، فأمد يدي وأقطف الذي أريد؛ قوسا من لون الضوء، أتطوق به وأصير ما أشاء؛ مجرد طفلة. أناغي الأيام وألاعبها، فتهدهدني على سرير من ريش النعام، على سرير من غمام خفيف، طري. ترميني عليه، فأنام ثم أستيقظ وقد تولدت مني بالنقاء والصفاء، أسامح الناس والعالم الأهوج وأمضي قدما في الحياة، أقترف عيشها طوعا لا كرها. وأحس أن كل شيء فيها بات محتملا وعلى ما يرام. ربما لن أحتاج في النهاية إلى كفن أو إلى قبر، لكني سأحتاج حتما، في ذي الحياة أو في غيرها، إلى نقطة أبدأ منها انطلاقي. أحتاج إلى طفولتي التي أبعدت عنها قسرا لأرمى في عالم غريب، وحشي. سأحتاج دوما إلى نقطة بدء.
أدلف حديقتي، فأجد نَاني تبكي كناريَّها الذي مات.. فأواسيها قائلة: “نا، نو، ني” وأنا أروم قول: “سآتي لك بغيره”. تفهمني، فتكف عن البكاء وترسم على كفي جناحا وريحا. أكسر قلم رفيقتي، عن غير قصد، وأدلق الحبر على كراستها. يلومني المعلم على فعلتي طالبا مني الاعتذار. فأبادره قائلة: “نانوني”.. يحمر وجهه غضبا، يلوح بالعصا ويأمرني بالذهاب إلى ركن العقاب. أجرجر جسدي باكية وأواجه الحائط، أرفع قدمي الأيمن ونانوني تسري في عروقي سمّا. تتحرك على لساني حجرة مدببة تجرح فمي وتدميه ثم تتدحرج إلى القلب حيث تَكِنُّ هنهية، ثم تغادره تاركة محلها ثقبا. وتواصل التدحرج لتستوطن ساقي المتصلبة. ومن يومها بتّ كلما مشيت إلا وشعرت بها تخزني، تذكرني بأولى خيباتي.
تُركت في عزلتي، والأمد غير معلوم. وفيها تعلمت تهجئة الحروف بالسماع، وتعلمت كتابتها بالتصور؛ إذ تخيلت أشكالها من أصواتها النقية التي كانت تخترقني مخلفة في داخلي حكايتها ووشومها الخاصة. فالنون صحن به حبة عدس. والباء حين تتزحلق الحبة تحت الصحن لتحمله فوق رأسها برشاقة. والتاء حين تبحث الشقية عمن يؤنسها وتروح تلاعبه وسط الصحن. والثاء حين ينامان ويحلمان معا بحبة عدس. فتحول ركن العقاب بصحني وعدسه ركنا للسلام، ركنا للإنصات إلى الحروف تتلاقى وترقص ملقية بسحرها على الأذن وبطراوتها على القلب. ومن موسيقى تلاقيها اكتشفت أن بمقدوري التأثير على المعلم وكسب وده بخطاب منمّق يليق بجلال مقامه.
منذ اللحظة التي سمعت فيها صرير باب المدرسة الحديدي الضخم وهو يوصد، وأنا أبحث عن منطاد يطير بي عاليا في السماء، يتمايل مع الريح لحين، ثم ينطلق سريعا. يجوب البراري ويقطع الفيافي، يتعالى بي ويحميني، فلا تحرقني شمس، أو يصيبني، وأنا فيه، ظمأ أو وصب. يتهادى خفيفا، يجتاز البحر فلا تمسك بي حورياته وترشني بمالح الرذاذ، أو تغدر بي أمواجه، فأغرق. منذ جلجل الرتاج، وأنا أبحث عن منطاد وحبله وقد كان الخطاب منطادي الذي عبرت به إلى غياهب أعماقي لأعبِّر عن مجهولها بالبيان. ولأعثر في عتمتها على فتيل الشغف والنزق والحيوية، على فتيل الفرح فأشعله كي أرى بلهبه أحلامي المجنحة ترفل في عريها الشفاف. ومن غياهبي اختلقت الأشياء حين سميتها واختلقت لها عوالم جديدة كي تحيا فيها أبديا، فلا تندثر أو تموت.
منذ أغلق عليَّ الباب وتلاشت صورة أمي خلفه. منذ ضعت وسط السحنات الصغيرة الباكية، المشاغبة، المتنمرة، اللعينة. وتنقلت بين الطاولات المنخورات، المصفوفات بعناية وشموخ. ومنذ استوطنت ركن العقاب وأنا أطير كفأرة صغيرة تشعر بالفخر لأنها مجرد فأرة. إن العصا التي كانت توشي أظافري حين تحط عليها بالحكمة الزرقاء. والتي كنت أسمعها في حصص الإملاء تجلد الهواء بمقت، قد وهبتني القوة والامتلاء والقناعة بما أنا عليه وبما سأغذوه؛ مجرد فأرة، لكنها فأرة تملك منطادا! وأمدني تصلب قدمي وارتجافها جلدا جديدا ارتديته فوق جلدي معطفا. وغدوت بكل بسالة أحملق في المعلم دون أن يرف لي جفن، وكأنه يمتلك أسرارا علي اكتشافها وانتزاعها منه انتزاعا، وفي جعبته ألغاز عليَّ حلها وامتلاك طلاسمها. أبحلق فيه وكأن أمامه ركنا عليَّ هدمه كي يحل في جوانيَّ السلام. وهكذا ارتديت وزرتي مزهوة، ولم أعد أبكي وأنا أودع أمي عند الباب الذي بت كلما سمعت صريره إلا وأعددت في قرارتي خطابا أحرص فيه على اللتغ بحرف الراء كي أستفز عالي المقام؛ فكل صباح، خريفا كان أو شتاء، هو “صباح للخَيْغِ والجو حَاغُنْ كَثِيغَنْ… هل يمكن من فضلك أن أَشْغَبَ؟”. ألاعب حروفي وأرميها أمامي نردا كي يحل السلام. وأتشبث وأنا في ركن العقاب بخيوط العنكبوت، أمسك بطرفها وأفلته كي أتسلق جدراني وأعود.. والحزن يعوي في صدري يطلق صيحات يهد بها العالم، فأعود كي أعلق في رقبته جرسا، ينبئني رنينه بأوان الأفول.
لم تكن المدرسة في سنواتي الأولى سوى فاجعة. عرفت وأنا في خضمها السبب الذي جعل “زوزو” يربط طرف الحبل إلى خصره لمّا عزم على اصطياد السمكة الكبيرة؛ إذ كان جسده طعما، كان مأدبة. فقد شهدت مبكرا ورفاقيَ تحرش معلم الابتدائي الأول بإحدى الزميلات؛ كان يجلس إزاءها وهي تقرأ، وبين الفينة والأخرى كان يأخذ يدها الصغيرة بين يديه ويشتمها طويلا، ثم يلثمها كثيرا وهو يغمغم. يسألها بصوت متهدج عن نوع الصابون الذي تغتسل به. وبانتهائه منها كان يأمرنا أن نعري عن مؤخراتنا، فنستعطفه بأمه وصابونها. وكنت أبكي وأشرق ولساني متصلب كالعظمة لأني عرفت أنه من قتل كناري ناني.

< لبيبة الخمار

الوسوم ,

Related posts

Top