القرار الذي أصدره البرلمان الأوروبي، بضغط إسباني معلن ومعروف، بقدر ما لا يستحق المبالغة في اعتبار خطورته أو ارتجاج فرائصنا منه، ففي نفس الوقت لا يجب أن نستصغر إشاراته أو أن نعتبر كأنه غير موجود، ولكن الأمر يقتضي اعتباره بداية لصياغة منظومة عمل مختلفة، وبداية ضبط مساراتنا الدبلوماسية والسياسية والإستراتيجية على ضوء ما يشهده عالم اليوم من تبدلات وتحولات متعددة.
الإشارة الأولى التي يجب أن نسجلها نحن تتعلق بالاستعجال الذي مارسه البرلمان الأوروبي، بضغط إسباني، لبرمجة الموضوع والانكباب على التداول فيه أصلا، وعدم التفكير في ترك الأزمة ثنائية بين الرباط ومدريد، أو بذل مساعي أوروبية لتهدئتها، وهنا بدت أوروبا تصطف ضمن منطق قومجي عتيق، وبرزت للعالم قارة منغلقة جدا وعتيقة جدا.
الإشارة الثانية، في السياق ذاته، تفيد أن إسبانيا لم تنجح في المواجهة الندية للمغرب، وسارعت للاختباء داخل التكتل الأوروبي، وضغطت بقوة لاستعداء أوروبا ضد المملكة الجارة، وذلك بعد الفشل في مناورات أخرى من قبل.
الإشارة الثالثة، تبرز في مضمون القرار، والذي أبرز مشكلة هجرة القاصرين أو تهجيرهم، وسعى للتغطية بذلك على أسباب الأزمة الحقيقية بين المغرب وإسبانيا.
وحتى لما أفرغ المغرب هذا الموضوع من حساسيته وخطورته الحقوقية والإنسانية عقب القرار الملكي بإعادة الأطفال، فإن القرار الأوروبي واصل السير أعمى من دون أي ملاءمة للموقف، وورطت أوروبا بذلك ذاتها، من حيث لا تدري، في السؤال نفسه، أي في دورها هي ومسؤولياتها القانونية والسياسية والأخلاقية والإنسانية الخاصة تجاه فضائح الهجرة ومعاناة المهاجرين فوق أراضيها، ولم يعد أيضا اليوم من حقها، وخصوصا إسبانيا، عدم استنكار احتجاز أطفال في مخيمات تيندوف أو تجنيدهم أو فصلهم عن أسرهم للزج بهم في معسكرات…
وهناك إشارة أخرى كذلك لا يجب إغفالها، وتتعلق بأرقام التصويت على قرار البرلمان الأوروبي، وهي تبين وجود أصدقاء للمغرب، وقوى عقلانية في أوروبا، وأيضا خصوم ولوبيات مناهضة لمصالح المملكة…
وإجمالا، قرار البرلمان الأوروبي يفرض على بلادنا اليوم التأسيس لمقاربة أخرى في العلاقة مع هذا الشريك الإستراتيجي القديم.
إن حل الأزمة مع إسبانيا يقتضي وضع النقاط على الحروف في كل الأشياء، وأساسا ما يتعلق بمغربية الصحراء، واستعمار اسبانيا لسبتة ومليلية والجزر، فضلا عن التعامل مع المغرب بالاحترام والندية اللازمين، وذلك باعتباره دولة عريقة ومستقلة وذات سيادة، ولديها مصالح وطنية وإستراتيجية.
وعندما لا تخجل أوروبا نفسها في اعتبار المدينتين المغربيتين المحتلتين حدودا لأوروبا، فإن السؤال نفسه يعني أوروبا والعلاقة المغربية معها.
الأزمة اليوم مناسبة لفرض طرح كل القضايا بوضوح واشتراط المواقف الصريحة والعملية بشأنها للتأسيس لكل علاقة في المستقبل.
التكتل الأوروبي جر القارة العجوز اليوم لاقتراف سقوط أخلاقي مروع بإقراره الاستعمار الإسباني لمدن مغربية، وعدم التردد في التعبير عن مساندة ذلك والاستعداد للدفاع عنه.
نعرف أن الحكومة الإسبانية تعيش شرودا يكاد يكون صبيانيا في معاداة المغرب، ولم تعد تشغل نفسها بأي شيء عدا استعداء العالم برمته ضد المملكة، والسعي لإشعال المزيد من نيران الأزمة، وأنها أغلقت على نفسها ولم تعد تستطيع التفكير في حلول، ولا تملك الشجاعة لصياغة الحل أو تحمل الالتزام به، ونعرف أن استعصاءات عديدة تلف منظومة العمل الأوروبي المشترك فرضها ما يشهده العالم اليوم من تحولات جوهرية وتغير في العلاقات بين الدول والقوى الإقليمية والعالمية، وكل هذا يستوجب على بلادنا استحضار مصالحها الوطنية أولا، والحرص على ثوابتها، والدفاع عن ذلك ضمن مقاربة شمولية وهجومية صارمة وواضحة.
وفِي هذا الإطار، لا يجب أن نغفل في سلوكنا الدبلوماسي العام كثير قضايا تبدو أحيانا غير ذات صلة مباشرة بالدبلوماسية، ولكنها تلعب دورا محوريا وحاسما في العالم اليوم.
وهنا نحيل على موضوع القاصرين وما ترتب عنه، وأيضا كيف استغلته الماكينة الدبلوماسية والإعلامية الإسبانية للإساءة لصورة المغرب، وللتغطية على الأزمة الحقيقية بين البلدين…
ونستحضر أيضا أهمية امتلاك إعلام وطني مهني قوي للدفاع عن المصالح الوطنية، وهو ما برز لدى الجار الشمالي، حيث جرى تجنيد كل المؤسسات الإعلامية هناك، مكتوبة والكترونية وسمعية بصرية، ضمن»بلوك» متراص ينشر الموقف الإسباني والتفسير الإسباني…
إسبانيا اليوم تتقدم أمامنا وأمام العالم باعتبارها قوة استعمارية حقيقية تطل علينا من الزمن السحيق، وتستغل في حربها الاستعمارية على بلادنا كل ما يتوفر لها من أسلحة، بما في ذلك الإعلام والحرص الحقوقي، وهو ما يفرض على بلادنا أيضا تملكه والانتباه إليه ومواجهة المعتدين بذات الأسلحة وضمن الشروط المهنية والسلوكية المتعارف عليها.
نحن فقط في البداية، وأمام بلادنا تحديات مستمرة في المستقبل، خصوصا إذا أضفنا عدوانية الجار الشمالي إلى تلك الصادرة دوما عن الجار الشرقي، ورهانات منطقة غرب المتوسط، ومخاطر منطقة الساحل جنوب الصحراء، وكل هذا يجعل المرحلة دقيقة، وتتطلب تعبئة وطنية واسعة وتكاملية وشمولية، وتقتضي تمتين وعينا الجماعي، وتقوية الجبهة الداخلية على كل المستويات، وحشد المساندين لقضايا بلادنا عبر العالم.
<محتات الرقاص