التقويم الشمسي الحالي المنتشر في العالم، كان مسبوقا بتقويم شمسي آخر، وهو التقويم اليولياني (نسبة إلى يوليوس قيصر)، الذي كان معمولا به منذ سنة 45 قبل الميلاد. هذا التقويم هو الذي سمى شهر يناير تكريما ليانوس، إله سماوي كان يعبد قبل تأسيس روما. ويسميه الناس ساتورنوس. اعتقد الرومان الأوائل أنه فتح أبواب الجنة عند الفجر لإخراج الشمس، ثم أغلقها عند الغسق. يتم تقديسه وعبادته كإله لجميع الأبواب والبوابات والمداخل، وتم تكريس الاحتفال به.
وطوال شهر يناير كان الرومان يقيمون طقوسا لتمجيد يانوس وآلهة أخرى عبر تقديم الأضاحي وإقامة المهرجانات والاحتفالات.
وانتشر الاحتفال ببداية السنة وفق التقويم الروماني في البلاد التي حكمها الرومان، والتي تمتد على طول سواحل البحر الأبيض المتوسط، شرقا وغربا. حتى تغير التقويم بأمر من الإمبراطور أغسطس.
وفي المقالة التالية، سنعرض مقارنة بين طقوس وتقاليد الاحتفال في المغرب مع تلك التي تقام في المشرق، ممثلا في بلاد الشام.
الاحتفال في المغرب
الاحتفال بمبدأ السنة الفلاحية الجديدة تقليد قائم في بلاد المغرب الكبير (المغرب، الجزائر وتونس) ويختلف اسم المناسبة من منطقة إلى أخرى، وفي المغرب يطلق عليه “إض ن ناير” في مناطق الأطلس، “حاكوزا” في منطقة جبالة بشمال المغرب، “أباينو” في آيت وراين، أو “لحوادس” في منطقة الشاوية وورديغة، أما في الجزائر فيسمى “العجوزة” في وهران وضواحيها، و”تاكًّورت ن أوسكًّاس” أو “تابّورت ن أوسكًّاس”، ولكن أكثر المصطلحات شيوعا هو “أنّاير” أو “إض ن أوسكًّاس” بالأمازيغية، الذي يعني رأس السنة.
“الحاكوزا” هو”الناير” في بلاد جبالة
لا نعرف البدايات الأولى لهذا الاحتفال، والغالب أن جذوره تمتد إلى ما قبل الإسلام، لارتباطه بالتقويم اليولياني الذي أقرته الدولة الرومانية عام 45 قبل الميلاد، وتمسك الناس بالعمل به وخاصة في الوسط القروي الفلاحي.
فالناير، أصبح يطلق عليه في الريف الشرقي “لعواشر” مع التخلي عن كثير من الطقوس التي تم نقلها إلى مناسبات أخرى، والاقتصار على توقف الدراسة في الكتاتيب، حتى يتفرغ المتعلمون للطواف على المنازل وجمع ما يهبه الناس لهم من فواكه جافة، يسلمونها لمدرسهم “لفقيه”، مقابل ذلك يعد “لفقيه” عيدانا كتب عليها شيئا من التمائم يعلقها الناس على رؤوس أبقارهم رجاء خصوبتها ووفرة حليبها؛ والأمر نفسه يتكرر في تلمسان الجزائرية.
أما منطقة جبالة بالريف المغربي، فقد حافظت بشكل غريب على تقليد الاحتفال، وظلت وفية لطقوسه وعاداته، وما تحمله من رموز ودلالات، ويطلق عليه لفظ “الحاكوزا”.
يتم الاحتفال بالحاكوزا من خلال أربع فعاليات مختلفة الشكل والمعنى والمشاركين فيها، تحضر فيها طقوس غذائية، وطواف بالنار، والتغني بأباينو ومشهد تمثيلي بالأقنعة.
الطقوس الغذائية
يحتفل بالحاكوزا في ثلاثة أيام متتالية، تغير فيها العائلة عاداتها الغذائية، ففي قبيلة آيت أحمد يأخذون ما يحتاجون من مواد من غرفة المؤونة، ثم تغلق الغرفة حفاظا على البركة التي تجلبها الحاكوزا معها حين تحل بالمنزل، وتقتصر الأسرة في وجباتها على القطاني والفطائر المحشوة بالمكسرات والفواكه الجافة، وعصيدة الذرة، في اليوم الثاني يتم تناول “البيصارة” وهي حساء الفول اليابس، ويستبشرون خيرا إذا فاض الإناء بها على حجارة الأتون، وفي اليوم الثالث يتم تناول وجبة الكسكس المعمول بالذرة والخضر واللحوم.
في قبيلتي زرقت وآيت البشير المجاورتين لآيت أحمد لا يتم تناول القطاني والوجبات الساخنة خلال الأيام الثلاثة، ويكتفون بتناول الخبز وزيت الزيتون والإسفنج والفطائر، والفواكه الجافة والمكسرات، حتى دخول السنة الجديدة حيث تهيئ العائلة ذبيحة تعد بها وجبة العيد، أو حساء “الدشيشة” بسميد الشعير، أو “البيصارة”.
وفي قبائل أخرى يتم الاحتفال بطرق متعددة بحسب النشاط الفلاحي لها ومنتجات حقولها ووفرة موادها، وتظل عصيدة “الدشيشة” و”البيصارة” هما سيدتا المائدة خلال الحاكوزا، إلى جانب الفطائر المحشوة. والفواكه الجافة، وأهمها التين الواسع الانتشار في المنطقة، والزبيب، والمكسرات، كالجوز واللوز والفول السوداني، والحمص المنقوع والمتبل والمقلي. ثم السردين في المناطق الشمالية المطلة على البحر المتوسط بالخصوص. دون أن ننسى جمار الدوم الذي يتم تناوله خصيصا في المناسبة في منطقة جبالة.
في الجنوب قبائل سوس، تحضر عصيدة الشعير أو الذرة، ويضعون فيه نواة التمر، ويطلب من أفراد العائلة تناول هذا الطبق، ومن صادف النواة، تقدم له هدية بالمناسبة.
وأما في مناطق جبال الأطلس والسهول المجاورة له والجزائر فيتم تهييء طبق من الكسكس بسبعة أنواع من الخضر أو أكثر. هذه الوجبة يتم إعدادها كعشاء ليلة 13 يناير، وهناك من يقوم بذبح وإعداد طيور الدجاج بعدد أفراد الأسرة، كما تتم مصاحبة هذه الوجبة بالبيض المسلوق، وأكل الرمان الذي تكون ربات البيوت قد احتفظن به منذ الخريف.
يتم تحضير الغذاء خلال اليوم السابق ليوم العيد، أي يوم 12 يناير كانون الثاني، لأن اليوم الموالي وهو اليوم الأول من السنة الجديدة، يعد عطلة للنساء يمتنعن فيه عن العمل فلا يقمن بطبخ ولا غيره.
جولات الرعاة بالمشاعل
رعاة الماعز هم نجم السهرة في الاحتفال بالحاكوزا، يحيون ذكرى العجوز التي تحدت قساوة شهر يناير، فقبل حلول يوم الحاكوزا يُحَضّرون (الشَّمّاعات) يتخذونها من سيقان نبتة (الديس) ويحشونها بمواد قابلة للاشتعال، يستضيؤون بها ليلة الاحتفال خلال طوافهم لجمع ما يتبرع به الناس من مواد غذائية وفواكه جافة.
للنار حضور قوي في الثقافة والعادات الأمازيغية، وإشعالها أحد أهم طقوس الاحتفال بالناير في المغرب والجزائر، وفي سائر المناسبات الاحتفالية الأخرى، والرقص حولها تعبير عن الشجاعة والقوة. وتختزن الميثولوجيا الأمازيغية كثيرا من القصص حول النار وأربابها، وكيف حصل عليها جد الأمازيغ وكيف توارثها أبناؤه.
التغني بأباينو
جولة الأطفال تكون مصحوبة بشخص راشد، يمثل دور الحاكوزا، بلباس عجائز مهترئ، ووجه مطلي بالفحم النباتي الأسود، وقش، يرددون خلالها نصوصا وأهازيج خاصة، تتضمن مديحا للمتبرعين وتقريعا للبخلاء. يردد المنشد: “زيدو زيدو، هنا معاكم قد باباكم، واهيا لولاد”: قتقدموا تقدموا، أنا معكم مثل أبيكم، أيها الأولاد). ويرد عليه الأولاد بعدد من الأهازيج: يدعون خلالها “أباينو”، ويشكرون المتبرعين عليهم، ويذمون البخلاء الممتنعين.
كلمة “أباينو” واسعة الانتشار في البلاد المغاربية الناطقة بالأمازيغية، بلفظ مطابق، أو قريب؛ “يانوب” في الريف الشرقي، وفي جهة سوس تسمى المناسبة “عيد السيدة باباينو” وفي جميع الأهازيج التي يرددها الصبيان خلال هذا اليوم، بالشمال أو الجنوب يتغنون فيها بـشخصية “أبيانو” أو “بابيانو” أو “بنايو” ويرددون نفس المضامين التي يرددها صبيان جبالة، بعبارات وأساليب تختلف أحيانا، يلتمسون فيها من الناس هبات، يمجدون الكرماء ويستخفون ويستهزئون بالبخلاء.
فاستعمالات اللفظ في النصوص الأمازيغية القديمة بمناطق مختلفة، والتي وثقها باحثون آخرون أمثال إيميل لاوست في كتابه “كلمات وأشياء بربرية” تحيل علىوووتشير شخصية معنوية تمنح الخير للناس وتضفي البركة على الزرع[1]. ومن بين المصطلحات الدينية الأمازيغية القديمة نجد كلمة “أباباي” تعني الرب، وجمعها “إباباين” أي الأرباب أو الآلهة. ولعل البحث في هذا الاتجاه قد يساعد على إماطة اللثام عن كثير من الأسرار التي تخفيها اللفظة.
مسرح باشيخ
بعد أن يرخي الليل بظلاله على القرية، يفتح المجال أمام الكبار لإقامة احتفالية خاصة يؤثثها العرض المسرحي “باشيخ” وزوجته “سونا”. هذا التقليد كان سائدا إلى حدود الخمسينيات من القرن الماضي، وبدل الاقتصار على مشهد تمثيلي ليوم واحد، كانت قبيلة كتامة، تقيم حفل “باشيخ”، يدوم أسبوعا كاملا تقدم خلاله العروض التمثيلية، التي تختتم بالاحتفال بالحاكوز.
المشهد التمثيلي الذي يقدم خلال “باشيخ” يُعَدُّ إلى حد ما نسخةً من مشاهد تمثيلية تُعْرَضُ في جهات المغرب والجزائر تحت مسميات مختلفة، منها “سونا” و”إمعشار” و”بوجلود” و”بويلماون” و”أيراد” تتضمن عروضا غنائية وأخرى مسرحية تنتهي بوليمة يشترك فيها الجميع.
وارتباط “الحاكوزا” بعرض “باشيخ” قد يحيل إلى طقوس “ديونيسيا” اليونانية الرومانية الموغلة في القدم، طقوس احتفالية كانت تقام في نهاية شهر ديسمبر كانون الأول، وتصحبها مشاهد تمثيلية تراجيدية وكوميدية ماجنة، تستعمل خلالها أقنعة.
الاحتفال في الشام
يحتفل سكان مدن وقرى الساحل السوري من العلويين، والأراميين، والآشور، والسريان، بحلول السنة الجديدة يوم 14 يناير من كل عام، بحسب التقويم اليولياني الذي تمسكت به هذه الأقاليم مند العهد الروماني. وما يزال هذا اليوم، يعد بداية للسنة، ويسمى “عيد القوزلي”، أو “القوزلة”، التي عرفها معجم العامية السورية بأنه عيد شعبي في الساحل الشمالي، وهو عيد ميلاد السيد المسيح، وفيه تشعل النيران ابتهاجا. ونسب الكلمة إلى اللغة السريانية، وهي كلمة أشورية تعني البداية، وأضاف المعجم المذكور بأن الاسم لعله من النيران ذات اللهب، يشعلها الصبيان، ويلعبون حولها[2].
طقوس الاحتفال
يتم الاحتفال بهذه المناسبة، بإقامة عدد من الطقوس التي توارثها السكان جيلا بعد جيل، يؤدونها كل مرة بشكل تلقائي، تتضمن تقديم الأضاحي، وطقوس رقص، وتطهير، وزيارة أضرحة.
تقديم ذبيحة
“يبدأ التحضير للعيد في 13 يناير، وهو يوم الذبيحة، اليوم الذي تحضر فيه الأضاحي من الماعز وتذبح لتحضير الأكل..
إن تقديم الذبيحة ضمن الشعائر التعبدية طقس بدائي قديم، كان منتشرا عند شعوب وحضارات عديدة قبل الديانات التوحيدية. فالذبيحة طقس لأجل التقرب من الرب، أو القوى الماورائية التي يرجو الناس عطفها ورحمتها بهم.
الثابت في القربان هو إراقة الدم الحيواني الذي يرمز لعنصر الحياة، لذلك تفضل القرابين الحيوانية على القرابين النباتية التي لا تتيح إراقة الدماء. وديونيزيوس في الأساطير الإغريقية، مرتبط بالماعز، كان قادرا على اتخاذ هيئة تيس، كانت الماعز تقدم له ضمن القرابين، وكانت هذه العقائد والممارسات ترتبط بالزراعة والخصوبة.
وجبات أساسها الحبوب
يتميز هذا العيد بأكلات مخصوصة، لا يتم الاحتفال إلا بحضورها، وتعتمد بالخصوص على منتجات الحبوب كالحنطة، والبرغل، فطبق البرغل له حضور كبير في الطقوس الغذائية المقامة بالمناسبة.
ومن المعلوم أن المجتمعات الزراعية تقدس الحبوب كافة، كالقمح والحنطة، فهي رمز البركة والخير والرخاء لدى هذه الشعوب، وتم تمثيل الحبوب في كثير من الرسوم والمنحوتات والعملات القديمة، ويرد في كثير من الوصفات الشعبية لتطهير الجسد من أثر الشياطين، والأمراض المبهمة. فهذه المادة المقدسة تمتزج بعادات وتقاليد الناس أكثر من أية حبوب أخرى.
وفي الوسط الشعبي الفلسطيني يعتقد الناس أنه «عندما طرد آدم من الجنة، أرسل الله إليه بواسطة الملاك جبريل حبات القمح ملفوفة بسبعة مناديل من الحرير»[3].
رقص جماعي الدبكة
يوم العيد هو 15 يناير، ولأجل الاحتفال، يتم اختيار بيت واسع من بيوت القرية، لإقامة الحفل العام، وفي فنائه تضرم النار المقدسة، وعليها تطبخ الحنطة واللحم، وحولها يلتف الراقصون لأداء الدبكة، على إيقاع الطبول وأنغام المزامير. يتواصل الرقص حتى المساء، ويتكرر ذلك طيلة ستة أيام الموالية، كل يوم في بيت جديد كبير، يسع لاحتضان المشاركين، في طقوس الرقص، تختتم هذه الحفلات بيوم القداس.
طقوس التطهير
إن الاحتفال ببداية السنة اليوليانية يحمل بعدا دينيا، يتأسس على تقديس وتكريم وعبادة “الإله يانوس” الروماني، لذلك يتضمن عددا من طقوس التطهير، التي ترتبط غالبا بالماء والنار المقدسين.
طقوس التطهير دينية، الغاية منها تخليص المتدين مما هو مدنس ونجس، وتحرير بدنه وروحه مما يلوثها، وهذا التطهير يتم وفق طقوس محددة، تحضيرا للفرد للدخول في طقوس تعبدية تقدس الإله، أو ولوج الأماكن المقدسة التي تشترط طهارة الداخلين.
فالطهارة الطقسية لا تعني التخلص من الأوساخ الجسدية المادية فقط، بل تعني التخلص حتى من النوايا السيئة، ومشاعر الإثم وما في حكمها.
وكانت العقائد الرومانية تشترط طقوس التطهير قبل الاحتفالات الطقوسية الدينية الهامة. وكان التطهير يتم بالنار، أو حمام الدخان الناشئ عن حرق أعشاب خاصة، أو مواد أخرى؛ كما كان يتم بالاستحمام الاحتفالي والاغتسال بالماء المقدس.
وما تزال تمارس في عدة مزارات طقوس تطهير لا تختلف عما كان يمارس في الديانات الرومانية القديمة، حافظت هذه الطقوس على شكلها، وموادها، ووقتها أيضا.
طقوس الاستحمام في النهر
إن الماء ذو طبيعة مقدسة، ترتبط به عدة معتقدات، فبه يتم التعميد المسيحي. وهو أساس التطهير الذي يخلص المرء من ذنوبه وآثامه وخطاياه. لذلك يخصص اليوم السادس الذي هو “يوم القداس” لطقس التطهير، حيث يتوجه الشباب ذكورا وإناثا إلى نبع أو نهر، يغتسلون بمياهه.
وخلال الطقس أيضا، تحمل الفتيات باقات بعض النباتات والأعشاب العطرية كالميرمية، والريحان، وأغصان الزيتون، يقمن بغطسها في الماء، لإضفاء البركة عليها، ثم تحملن تلك الباقات إلى منازلهن، لتحفظ فيها طيلة السنة، جلبا للبركة، وتحصينا للبيوت من الشرور[4].
طقوس النار
إن إضرام النيران لا تخلو من بعد تطهيري، لذلك تحتفي بها عدة شعوب، تضرم النار، ويقفز عليها الأشخاص، كممارسة رمزية لتطهير الذات من الأرواح الشريرة.
تضرم النيرات طيلة أيام الاحتفال الستة، قبل يوم القداس، وحولها تقام رقصات الدبكة التقليدية التي لا تخلو أيضا من بعد تطهيري ديني أو نفسي.
طقوس التبرك يوم القداس
يعد “يوم القداس” أهم أيام العيد. ويتم خلاله التبرك بزيارة أضرحة القديسين، ومقامات الأولياء. وتقديم الأضاحي لها، والتضرع.
خلاصة
يبدو لنا مما سبق أن الاحتفال بيوم 14 يناير، باعتباره بداية للسنة الجديدة، تقليد قائم منذ أزيد من ثلاثة آلاف سنة، تحييه الشعوب التي خضعت لحكم الإمبراطورية الرومانية التي أقرت التقويم اليولياني، ويسميه المغاربة “التقويم الفلاحي”، لجريان عادة الفلاحين على اعتماده.
وتتشابه تقاليد وطقوس الاحتفال بهذا العيد في تلك البلدان، مع وجود بعض الاختلافات الطفيفة من بلد لآخر. فطقوس الاحتفال المغربية حافظت بشكل قوي على طبيعتها الأولى كما كانت تمارس خلال العهد الروماني، بخلاف الشام فقد تأثرت كثيرا بالديانة المسيحية التي طبعتها، خاصة وأن المسيحيين يعتقدون أن المسيح عيسى عليه السلام، قد ولد في شهر يناير، ما جعل الاحتفال بالمناسبة يدمج تخليد ذكرى ميلاد المسيح أيضا، فأدخلت فيه طقوس التطهير المائي التي تعيد طقوس التعميد، كما أدخلت فيه طقوس زيارة القديسين المسيحيين، لكنه حافظ على طقوس أخرى رومانية تتأسس على المعتقدات الدينية القديمة، كطقس الأضحية بالماعز، وطقوس الرقص، والتطهير بالنار، ووجبة البرغل التي عمادها الحبوب.
على الرغم من تغير عقائد الناس الدينية منذ قرون، وانمحاء ديانات، وإحلال أخرى، فإن كثيرا من المعتقدات استطاعت أن تظل حية، وتستعصي على المحو والاندثار، من خلال عادات وتقاليد الحياة اليومية أو طقوس الحفلات أو المآتم التي تم إلباسها لباسا إسلاميا في المغرب أو مسيحيا في المشرق، حرصا على ملاءمتها للوسط الذي يكتنفها. لكن باستقرائها وتحليلها ودراستها، يمكن الكشف عن كثير من الأسرار والرواسب الساكنة في عمق الذاكرة الجماعية الشعبية. هذه العادات تتعرض للتحريف أو الضياع، وبدراستها يمكن الإسهام في إنقاذها وتوثيقها، فهي ذاكرة جماعية للشعوب. فالطقوس الاحتفالية من أهم الممارسات التي تشكل الذاكرة الاجتماعية وتحافظ على تراث الأمم وتميزها الحضاري والتاريخي.
********************
*الزبير مهداد: كاتب مغربي، باحث في التربية والثقافة
المؤلفات: الفروسية التقليدية في المغرب (2024)، محطات في تاريخ الفكر والتربية في الغرب الإسلامي (2024)، الإعلام الجديد والشباب (2023)، من الثقافة المغربية الأمازيغية (2022)، التربية الروحية عند الحسن بن مسعود اليوسي (2021)، جوانب من الحياة التعليمية للمعلمين والمتعلمين خلال عصر المماليك (2020)؛ قضايا تربوية تهم الأسرة العربية (2020)؛ التسامح في الفكر الإسلامي (2019)؛ الفكر التربوي عند الشاطبي (2018)؛ السلطان سيدي محمد بن عبد الله: الإصلاح الموؤود (2018)؛ الحجوي الثعالبي، الفقيه المتنور (2018)؛ إسهام الفكر الإسلامي في العلوم النفسية والتربوية (2017)؛ معجم الألفاظ والمصطلحات التربوية في التراث العربي (2016)؛ الأمر الدارس في الأحكام المتعلقة بالمدارس، للشيخ علوان الحموي، دراسة وتحقيق (2015)؛ دراسات في الشأن الإسلامي (مشاركة) (2015)؛ التعليم في المغرب: مقاربة اجتماعية (2012)؛ المسرح المدرسي (1997).
[1]LAOUST, Emil; mots et choses berbers; p196
[2]ياسين، عبد الرحيم: موسوعة العامية السورية، دمشق، الهيئة العامة السورية للكتاب، 2012، ج3، ص 1949
[3]السهلي،محمدتوفيق، (وحسن الباش مشارك):المعتقداتالشعبيةفيالتراثالعربي،دارالجليل،ص348
[4]https://www.bbc.com/arabic/middleeast-59970534
بقلم: الزبير مهداد