اختتام فعاليات المؤتمر الدولي للصحة المهنية بمراكش

خبراء ومهنيون يسائلون السياسات العمومية ويدعون إلى تدابير حكامة ونجاعة أفضل

شكل المؤتمر الدولي للصحة المهنية، الذي احتضنته مدينة مراكش على مدى خمسة أيام الماضية واختتمت فعالياته مساء أمس الخميس، إطارا استثنائيا لمناقشة مختلف الإشكالات المرتبطة بموضوع السلامة والصحة في فضاءات العمل، وذلك بالنظر إلى الحضور الوازن الذي ميز المؤتمر، كما ونوعا، بمشاركة قرابة 1800 مؤتمر ومؤتمرة من مختلف أطراف المعمور، يمثلون منظمات مهنية وجمعوية وهيئات عالمة، فضلا عن الممارسين والخبراء في مجال طب الشغل والوقاية من الحوادث والأمراض المهنية.
ومن بين اللحظات المهمة التي عرفها المؤتمر، عقد المنتدى العالمي للسياسات، الذي تمت خلاله مساءلة السياسات العمومية ذات الصلة بالصحة المهنية، خاصة في فئة الدول منخفضة ومتوسطة الدخل، على اعتبار أن الدورة الرابعة والثلاثين للمؤتمر، التي احتضنتها مراكش، تعد الأولى من نوعها على مستوى القارة الإفريقية.
وهكذا فقد تم تسليط الضوء بشكل أكبر على واقع الصحة المهنية في المنطقة وفي مثيلاتها حول العالم، في محاولة لبلورة مقترحات تمكن من تحسين وتنفيذ سياسات الصحة والسلامة المهنية في البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل. وناقش المنتدى العالمي للسياسات التحديات التي تفرضها المخاطر الناشئة والتقليدية في عالم العمل، والتي تفاقمت في السنوات الأخيرة، ليس فقط بسبب عدم المساواة، بل أيضا في ظل الظواهر الجديدة من قبيل التغير المناخي وانتشار حالات الطواريء الناتجة عن الأوبئة والنزاعات وغيرها.
وأبرز المشاركون في المنتدى، أنه على الرغم من وجود عدد من أوجه التشابه بين الدول النامية والدول منخفضة ومتوسطة الدخل فيما يتعلق بعدم المساواة وضعف ثقافة السلامة والصحة والرفاه في أماكن العمل، وإشكالات التمييز على أساس الجنس أو تلك المتعلقة بالهجرة، وكذا بالآثار المستجدة لظواهر التغير المناخي والتدهور البيئي وانتشار الجوائح والأوبئة، إلا أن الفوارق ما تزال واضحة كذلك فيما يخص السياسات والاستراتيجيات المرتبطة بمراقبة الصحة والسلامة في العمل والوقاية من المخاطر.
وتعمل اللجنة الدولية للسلامة والصحة المهنية (ICOH)، جنبا إلى جنب مع منظمة العمل الدولية ومنظمة الصحة العالمية، في سياق تشخيص وتحسين واقع الصحة المهنية عبر العالم. ومن ثم فقد اختارت اللجنة، من خلال الدورة الرابعة والثلاثين التي حظي المغرب باحتضانها هذه السنة، شعار “سد الفجوات”، في إحالة على التفكير الملح الرامي إلى تغيير واقع الفوارق الموجودة بين الدول المتقدمة والدول متوسطة ومنخفضة الدخل في مجال الصحة المهنية.
وتعتبر منظمة العمل الدولية مرجعا أساسيا لكافة الدول في إنتاج معايير الصحة والسلامة المهنية، وهي تعتمد أكثر من 40 اتفاقية وتوصية وأزيد من 40 مدونة للقواعد التطبيقية بشأن السلامة والصحة المهنية. وتبرز، من خلال تقارير المنظمة، التفاوتات الحاصلة بين الدول فيما يتعلق بالخسارة الناجمة عن العواقب المترتبة عن إشكاليات الصحة والسلامة المهنية، إذ تتراوح تلك الخسارة بين 1% و6% من الناتج الداخلي الخام للدول.
وتعنى السلامة والصحة المهنية في جوهرها بإدارة المخاطر المهنية. وهي تشمل إجراءات السلامة والصحة ضمن آلية شاملة ومنظمة للعمل المشترك ما بين العمال والإدارة. كما تساهم الأنظمة المعتمدة في تقييم تحسن الأداء وتطبيق إجراءات الوقاية والرقابة.
وتعتبر منظمة العمل الدولية، في ذات الوقت، أنه “من المستحيل ضمان حسن سير نظام إدارة السلامة والصحة المهنية من دون إرساء قاعدة فاعلة للحوار الاجتماعي في إطار لجان السلامة والصحة، أو في سياق الآليات الأخرى مثل تدابير المفاوضة الجماعية”، وذلك في إشارة إلى دور الفاعلين الاقتصاديين إلى جانب التنظيمات المهنية وممثلي العمال، في تعزيز ثقافة الصحة المهنية ومتابعة تنفيذ الاستراتيجيات والقوانين ذات الصلة.
وتفيد تقارير المنظمة أنه، خلال العقود الماضية، طبقت أنظمة إدارة السلامة والصحة المهنية بشكل أفضل في البلدان الصناعية والمتقدمة، من خلال تضمين المتطلبات القانونية في التشريعات الوطنية وتعزيز المبادئ والتوجهات ضمن السياسات العمومية والمبادرات غير الحكومية كذلك. وبالمقابل، ما تزال العديد من الدول منخفضة أو متوسطة الدخل تعرف تعثرات وحواجز في المجال ترخي بظلالها على الطبقة العاملة، وتترجمها حالة الهشاشة في الأوضاع الصحية والاجتماعية والاقتصادية للعمال.
على المستوى الوطني، وكما يشير المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي في تقرير أصدره سنة 2020 تحت عنوان: “الصحة والسلامة في العمل: دعامة أساسية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية”، فإنه رغم إقرار التشريعات الوطنية للحقوق الأساسية المتعلقة بالصحة والسلامة في العمل، إلا أن “مدى تفعيلها على أرض الواقع يظل دون مستوى التطلعات”، وذلك بالنظر، يضيف التقرير، لتدني مستوى قواعد الصحة والسلامة المهنية المعمول بها في جزء هام من النسيج الاقتصادي، خصوصا في المقاولات المتوسطة والصغرى والصغيرة جدا وفي بعض القطاعات بشكل خاص، كقطاع البناء والأشغال العمومية والقطاع الفلاحي والقطاع غير المنظم.
ووصل عدد حوادث الشغل بالمغرب في سنة 2018 أكثر من 50 ألف حادثة، تسببت في 756 حالة وفاة و13208 حالة عجز مؤقت و36561 حالة عجز دائم. وهو ما يعطي فكرة، حسب نفس المصدر، عن حجم الأضرار الاجتماعية والاقتصادية المرتبطة بغياب ظروف العمل اللائق وبحوادث الشغل، مع العلم أن تلك الأرقام لا تحيط بالحصيلة الحقيقية لحوادث الشغل بالمغرب.
ويتضح حجم الإشكالية المرتبطة بغياب وضعف المعطيات، عند الحديث عن المخاطر المرتبطة بالأمراض المهنية، بحيث ترتفع مخاطر الإصابة بالأمراض المزمنة والخطيرة لدى العديد من فئات العمال في قطاعات مختلفة، وهو الأمر الذي يحتاج إلى المزيد من الدراسة والبحث في أفق رفع الوعي بتلك المخاطر، وإرساء مخططات للوقاية منها والحد من آثارها الاجتماعية والاقتصادية.
وكما يشير إلى ذلك البروفيسور عبد الجليل الخلطي، رئيس الجمعية المغربية للصحة المهنية ورئيس الدورة الرابعة والثلاثين للمؤتمر الدولي للصحة المهنية، في تصريح لبيان اليوم، على هامش المؤتمر، فإن المغرب يوجد على منتصف الطريق فيما يتعلق بوضعية السلامة والصحة المهنيتين، إذ بينما يتم العمل باستمرار على تطوير الترسانة التشريعية والتنظيمية لحماية العمال من المخاطر المهنية، إلا أن الواقع يتخلف بشكل كبير عن المؤشرات ذات الصلة. ويبرز ضعف تطبيق الأنظمة المعمول بها وغياب ثقافة الوقاية في حجم التكاليف الاقتصادية والاجتماعية الكبيرة، إذ تبلغ تكلفة الإصابات المهنية 4.25% من الناتج المحلي الإجمالي في المغرب. وهو ما يستدعي، حسب الخلطي، ضرورة انخراط أكبر لجميع الأطراف المتدخلة، سواء على مستوى القطاعات الحكومية أو مقاولات القطاع الخاص أو التنظيمات المهنية، من أجل المزيد من التطوير للتشريعات والنصوص، وتحسين السياسات، ومواكبة الميزانيات، في سبيل تحسين الثقافة الوقائية وتدابير الحكامة والنجاعة المرتبطة بالصحة المهنية.
الحكامة والنجاعة، من أجل سد الثغرات والحد من الفجوات في مجال الصحة المهنية، هما الهدفان اللذان سعى المؤتمرون أيضا إلى بلورة اقتراحات وتوصيات بشأنهما ليتم تضمينهما في إعلان مراكش حول النهوض بالصحة المهنية، في ختام أشغال المؤتمر مساء أمس الخميس.

 سميرة الشناوي

Top