ليل نيسان!

يتعاطى الوهم ومسّكنات الرغبات المكتومة، يلتحف القناديل المنطفئة ليرسم بابا واسعا في صدر الغياب وصندوق الموسيقى ويسند عتمته على كتف غمرات الذكرى وامتداد شظايا قلب مكلوم وبقايا أصابع مبتورة.
ليل كادح يضّج بأفكار ساخرة، تائهة وسميكة، مُثقل بالحزن والموت، ليل ينمو فوق موج عاتٍ يكفي لإغراق مدينة كاملة،
يرتدي قلائد الحبّ والحرب ويقتل وجه الطفولة فينا؛ كل شيء تراجيدي يُلقي بالحياة في مشاهد موحِشة ويدفن الأمل في جُبِّ معارك عصيبة.
في كثير من المرّات أشعر أني كثيرة على الحبّ، كثيرة على الحياة، كثيرة على المضي نحو مستقبل مجهول، عالقة في مواجهات مجهدة للغاية،
لا أكاد أنفك من صراع حتى أجدني مزدحمة في صراعات أخرى، عقبة تليها عقبة وعينان تائهتان تبحثان عن اللاشيء كأنهما تجوسان في فلك فارغ.
أحاول الوصول إلى لحظة ما، لحظة تستمر في جعلي أشعر أني بخير دائما مهما تكابلت عليّ مواسم الحصاد؛ لحظة تمنحني فرصة الشعور أني جديرة بالفرح لكن دون جدوى.
أعيش فوضى عارمة وأتصرف كامرأة قوية رصينة كأن لا شيء يعنيها في حين تفاجئني طقوس الغايات المؤجلة، الصدف المباغتة، المخاوف المتكررة وأميال الخسارات الباهظة؛ كل هذا ولا أخشى شيء فأنا امرأة ترخي خيوط الهزائم وتعيش في عشوائية مرعبة حين أفتح أبواب أفكاري المكتظة بالغرابة بالجنون وبالتفاصيل الصغيرة تتدفق اللهفة إلى أصابعي التي فقدت شغف الكتابة مذ جرح قديم، بينما تمّ خذلان دمعتي جرأتي واندفاعي مضيت أنهمر داخل حياة موحشة، شاردة في شوارع فارغة وباردة، تحاصرني عواصف الأمس وتحرص على جعل وقودي ينفذ
ترَكوني وحدي أصارعُ ذكرَياتي المؤلمة.
أشربُ من نفس الكأس، مرارًا وتكرارًا، أنتهي حتى آخرِ قطرة.
طاعنة في الأسى في الصخب وفي الشعور، مكتظة بمواجهات جريئة ولقاءات عابرة لم تنل منها سوى عواقب وخيمة وأشياء رخيصة.
دائما ما كنتُ شاهدة على الدمار الفادح الذي يحدث هنا، إنه الركن ذاته الذي تستلقي عليه ملامحي، هزائمي، مواقفي، مخالج روحي، وأسرار مزاجي، الركن الذي يدّس ركاما ثقيلا في بيت شعر وإيقاع قصيدة في خيبة عاشق وقصة زاهدة طويلة
تركتُ خلفي ماضي طويل.. لم أجنِ منهُ سوى الخيبة وصورة منّي لا أعرفها وضحكة غافلة أفتقِدُها كل لحظة..
تركتُ خلفي ماض كئيب أتمنى أن لا أتذَكّرُه، ماضٍ رغمَ محاولتي لنِسيانهِ، يلاحقُني كطفلٍ صغير يشُد طرَف عباءة أمه ويخبرها بأن لا تترُكُه..
بيني وبينه استباحة جرح ومواجع كثيفة تكفي لشم رائحة العناء على بُعد خوف وألف رهبة وشرود أميال خطوة،
بيني وبينه لحظات هائلة، تفاصيل خالدة ورعشة قلب اِنسكبت في سطور مشبّعة بالحنين، كلما حاولت مقاومة رغبتي في التفكير به تتلبسني فتنة المجاز،
فالتخطّي كان ولا زال هو أعظم انتصار تحقّقهُ نفسي على نفسي، لتجعلها ترى النور بعدَ الظلام، وكأنه جبلاً ثقيلاً سقطَ فوق ظهري،
أن أتخطّى أي أن أريح سطوَة تأثير الأشياء في داخلي، فيَمُر ما كان يُحزنني بالأمس ولا أحزن.. أخطّي المشاعر والأشخاص والظنون وكل ما يسرِق مني بهجة الحياة والشغَف هي النّعمة العظيمة التي لن أدرِك قيمتها حتى أصِل إليها..
في روحي عطبا قديماً وسّمني بالعجز التام، سلسلة أحداث منهكة انتهت بالسير إلى جانب عمري المتبقي على عكاز من رماد،
غالباً ما أستصعب الانسجام مع الآخرين، أفكارهم مصائب تدفعني للعناء للقلق والارتياب؛ أحاديثهم ما كنات معطلة وأصواتهم كافية لجعل يومي يبدو أكثر سوء،
أنا حقاً أحارب على جبهتين؛ صمت يجعلني أصحو داخل تقاسيم أحلام مغادرة وأفكار تمنحني الخلود في ذاكرة حياة مشوهة،
آه..
كم أنّي امرأة توهّمتْ حتى انطفأت، انهزمت حتى سقطتْ، ارتحلت حتى تاهت، تعبأت حتى فاضت لكن في كل مرّة كانت تُجيد الهروب أمام سطو الأشياء المُستنزَفة التي كانت تدفعها للموت لكنها لم تمت
بينما أطرق مصيرا جديدا تستمر الرصاصة الطائشة بإصابتي في عمق قلبي في كل مرّة
في كل مرّةٍ أذوبُ في إطارٍ مكانيٍّ زمَنيٍّ صلب، حيث تَسبِقُني اللحظةُ بخطواتِها السريعة، ويحتَضِنُني مُنتصَفُ الطريقِ بقوة.
امرأة كثيرة مثلي لا يستوعبها الدهر لا يدركها الحبّ ولا تنصاع لها الأمنيات تقف على حافة الأشياء وتلوّح لها بوداع أخير،
ثم تقفل خلفها الباب بصمت يطمر العودة حتى تنسى بعده كل المسميات.
امرأة مثلي تبصر الأشياء في حين لا تبصرها الأشياء لا يسعها كل هذا الظلام.
لكل بداية نهاية هكذا الحطام مضى بيني وبيني.

Top