أكدت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف) أن الأطفال الأشد ضعفاً في العالم سيعانون من الوطأة الشديدة التي خلفتها التأثيرات الاجتماعية والاقتصادية الناجمة عن كوفيد – 19، ويعيش العديد منهم في الفقر، كما أن تبعات إجراءات الاستجابة لكوفيد – 19 تُعرِّضهم لخطر المعاناة من المزيد من المصاعب.
وتعتبر الأزمات من الأحداث المهمة والمؤثرة في حياة جميع الأشخاص وخاصة منهم الأطفال، حيث أكد أخصائيو علم نفس الأطفال أنهم يتضررون في الكثير من البلدان تضررا شديدا من جراء الأزمات، وأوضحوا أن تأثير أزمة فايروس كورونا المستجد لا يقتصر على الكبار فقط، فالأطفال أيضا يعانون وربما بصورة أكثر، فهم في عمر التحرر والانطلاق يجدون أنفسهم مقيدين بإجراءات تحرمهم من التمتع بطفولتهم.
ونبه المختصون إلى أن حياة معظم الأطفال لن تعود لطبيعتها في الأشهر القليلة المقبلة، حيث ستؤدي الضغوط النفسية التي تفرضها العزلة في ظل الحجر الصحي، إلى تبعات جسيمة، مثل تأخر النمو المعرفي والعاطفي والاجتماعي. وقد تزيد هذه الضغوط في مرحلة المراهقة من مخاطر الإصابة بالأمراض النفسية.
وقال الكاتب ستيفن ميم في مقال نشرته وكالة بلومبرغ للأنباء، “رغم أنه ما زال هناك الكثير الذي لا نعرفه عن التأثيرات الصحية لأزمة فايروس كورونا على الأطفال، هناك إجماع متزايد على الضرر النفسي الذي ألحقته بهم فعلا. ففي ظل التوقف عن التوجه للمدارس والحجر القسري وصدمة رؤية فقدان الوالدين لوظائفهم، يحمل هذا الفايروس تهديدا بأن يصبح (…) كارثة الجيل”.
وشدد ميم، وهو أيضا أستاذ مساعد لمادة التاريخ بجامعة جورجيا، على ضرورة النظر لهذه المخاوف بجدية ولكن ينبغي أيضا النظر بجدية لتاريخ الأحداث المماثلة السابقة. فمن قبيل المفارقة أن الأزمات الجماعية بقدر ما تدمر بناء الشخصية لدى الأطفال تكون لها أحيانا تأثيرات إيجابية عليهم.
وأضاف أنه إذا كان لدى المرء شك في ذلك، فربما عليه أن يرجع لقراءة الدراسة المطولة الكلاسيكية التي تحمل عنوان” أطفال الكساد العظيم” التي كتبها عالم الاجتماع جلان إيلدر، لافتا إلى أن تلك الدراسة غاصت في أعماق بيانات تم جمعها في دراسة لعدد 167 من المراهقين الذين يعيشون في أوكلاند، بولاية كاليفورنيا في ثلاثينات القرن الماضي. وهذه المجموعة التي ولدت في عامي 1920 و1921 انتقلت من رخاء ذلك العقد إلى الكارثة الاقتصادية التي أعقبته.
الرجال والنساء الذين عانوا من الحرمان وهم أطفال، حصلوا على نتائج أعلى في الاختبارات النفسية التي تقيس القدرة على التحمل
وشهد 1929 أسوأ التجارب الاقتصادية في العالم وهو ما يطلق عليه ”الكساد العظيم”، حيث بدأت أسواق الأسهم الأميركية في الانهيار، وسرعان ما تبعها العالم كله.
وجمعت الدراسة كميات مذهلة من المعلومات عن كل فرد من أفراد هذه المجموعة، وعن أفراد عائلاتهم، وعن حالاتهم النفسية، ودخلهم ونفقاتهم، وحياتهم الاجتماعية. وقام باحثون متعاقبون بتتبع مجموعة الأطفال حتى أصبحوا في الستينات من العمر وأكثر. وتمثل إسهام إيلدر في التعامل مع تلك المعلومات التي تم جمعها عن حياة المجموعة على المدى الطويل. وقام بتحليل هذه المعلومات، وعقد مقارنات بين مختلف المجموعات الفرعية على أساس معايير مثل الطبقة الاجتماعية والوضع الاقتصادي للأسرة. ثم قارن كيف تشعبت تلك التجارب عبر حياة هؤلاء الأفراد مع زيادتهم في العمر وبدء تكوين أسر خاصة بهم.
وعايش الكثير من هؤلاء الأطفال بصورة مباشرة الآثار المدمرة للكساد العظيم، حيث فقد الوالدان عملهما، وفقدت الأسر وضعها الاجتماعي، كما كان التحرك الاجتماعي نحو
الطبقات الأدنى سائدا، على الرغم من أن بعض العائلات نجت ولم تتضرر بدرجة كبيرة. أما العائلات غير المحظوظة فقد حاولت التكيف، دون نجاح في
الغالب. وعلى سبيل المثال سعت الأمهات إلى العمل خارج المنزل للمساعدة على تدبير المعيشة، بينما الآباء رضوا بالقيام بأعمال متدنية لا تليق بهم.
وأسفرت هذه التغييرات عن تحولات إضافية، فقد اضطلعت الكثير من الفتيات بمسؤوليات مهمة في المنزل في غياب الأمهات، بينما سعى الصبية إلى القيام بأعمال لبعض الوقت. وكل ذلك كان مصحوبا بالحاجة، والحرمان، وحتى الجوع بدرجة قد لا يتخيلها معظم الأميركيين المعاصرين.
وكانت الحكمة التقليدية في ذلك الوقت هي أن هذه التجارب سوف تترك أثرها على الأطفال طوال حياتهم. وقد استند أحد المحللين النفسيين من ثلاثينات القرن الماضي إلى “التأثيرات المدمرة لانهيار الروح المعنوية لدى الوالدين”، وتوقع أن هذا الجيل سوف يعاني من القلق، والخوف، والإحباط وفقدان الثقة على الدوام. وببساطة، يعني هذا أنهم لن يتعافوا مطلقا.
ولكن ذلك لم يحدث بالفعل. وفي الحقيقة وجد إيلدر أن هؤلاء الأطفال الذين شبوا وسط الحرمان الاقتصادي، حملوا معهم معاناة طفولتهم، فعلى سبيل المثال، كان من المرجح أن يظهروا قلقهم بالنسبة إلى وضعهم الاقتصادي. ولكن الأمر الأكثر أهمية في النتائج التي توصل إليها إيلدر هو حقيقة أن الحرمان الاقتصادي كان يلازمه المزيد من النجاح.
وعندما أصبح الأطفال الذين شملتهم الدراسة رجالا، صعدوا السلم الوظيفي بصورة أسرع وأقوى من نظرائهم الأكثر حظا منهم، كما أنهم استغلوا الفرص التعليمية بصورة أسرع أيضا. وحتى فتيات الفئة غير المحظوظة صقلتهن تجارب المعاناة وحققن نجاحات ملحوظة بعد أن أصبحن في عمر العمل والزواج.
وتوصلت الدراسة إلى أن الرجال والنساء الذين عانوا من الحرمان وهم أطفال، حصلوا على نتائج أعلى في الاختبارات النفسية التي تقيس القدرة على التحمل، والإصرار، والثقة بالنفس. كما اتضح أنهم كانوا أكثر رضا وسعادة في حياتهم.
وفسر إيلدر هذه النتائج بأنه بالنسبة إلى الأطفال الذكور، أدت تجربة البحث عن عمل لبعض الوقت والمساهمة في زيادة دخل الأسرة إلى أن يصبحوا ناضجين بصورة أسرع من نظرائهم، مما كان يزيد من تحفيزهم وتركيزهم الذي كانت له نتائج مثمرة.
وأشار إلى أن شيئا مماثلا حدث بالنسبة إلى الأطفال الإناث، اللاتي تحملن مسؤوليات الكبار في سن صغيرة نسبيا، وأصبحن بسهولة يتحملن مسؤولية أسر خاصة بهن. واختتم إيلدر دراسته بأن الكساد العظيم حرم الأطفال بالفعل من طفولتهن بينما أعدهم لنجاح طويل الأمد.
وأشارت اليونيسف إلى أن الأزمات أظهرت إلى أي درجة قد يصل تعرض الأطفال للخطر في حالات الركود الاقتصادي، لأنهم قد يُنتزعون من المدارس للعمل أو رعاية الأسرة أو يعانون من سوء التغذية عندما تشح الأغذية. وقد تحدث هذه الحالات، مهما كانت مؤقتة، تأثيراً دائماً على نموّ الطفل وتطوّر إمكانياته في المستقبل.