ما جرى، منذ الاثنين، في المدينتين المغربيتين المحتلتين، سبتة ومليلية، وعلاوة على الجدل الذي احتدم بشأن مختلف جوانب وتفاصيل الأحداث، وأيضا المواقف والقراءات التي برزت هنا وهناك، جرنا لإعادة استحضار عدد من المواقف المبدئية وتجديد التمعن فيها.
بداية، إن حصر الاستياء فقط عند صور الأطفال، وغير الأطفال، النازحين نحو العبور في اتجاه الثغرين المحتلين، وخصوصا سبتة، واعتبار الأمر كما لو أنه يحدث لأول مرة، لن يمنحنا الصورة الكاملة والموضوعية لما حدث.
نعرف أن عمليات الهجرة غير القانونية تجري منذ سنين، وحدثت من قبل مآسي اجتماعية وإنسانية جراء ذلك، ونعرف أن المعضلات الاجتماعية موجودة وقديمة وتتطلب سياسات تنموية بديلة من شأنها أن تحقق الكرامة لشعبنا بأقاليم الشمال وفِي غيرها، وهو ما تناضل القوى الوطنية من أجله، ونعرف كذلك أن تدبير الهجرة هي مسألة معقدة على الصعيد الكوني بشكل عام، ولكن أيضا نعرف أن إسبانيا نفسها معنية بتدبير الهجرة، ومواجهة ما ينجم عنها من تداعيات ومشاكل.
وفِي الوقت الذي يتم اليوم توجيه الاتهام للمغرب لكونه لم يمنع النازحين نحو سبتة، كان يجب طرح السؤال كبيرا على الطرف الآخر، أي إسبانيا، وعن تراخي أجهزتها الأمنية، وذلك كان سيقودنا لطرح سؤال متفرع عن هذا الاستفهام، وهو هل اسبانيا كانت قررت تراخيا مقصودا لغاية تعلمها أجهزتها الأمنية والاستخباراتية؟
وكما يعرف الجميع، وتنص عليه الأدبيات الحقوقية عبر العالم، فإن التعامل مع المهاجرين غير القانونيين وطالبي اللجوء يفرض أيضا تدابير، ويمنح للمعنيين حقوقا بموجب الاتفاقيات الدولية ذات الصلة، ومن ثم، لماذا إسبانيا الأوروبية والديمقراطية لم تبال بكل هذا، وأبرزت فقط صورتها القمعية، وفضلت حشد قواتها وطرد الواصلين؟
وإجمالا، لماذا بعض التبسيطيين قفزوا عن كل هذا وروجوا فقط لتفسيرات مدريد، التي تسعى إلى تقديم نفسها كما لو أنها المظلومة وأن المغرب هو المتهم، أو أن المملكة استعملت أطفالها وشعبها ليكون وقود الضغط في اتجاه إسبانيا، وأن الأجهزة الأمنية المغربية تراخت لتسهيل وقوع هذه الهجرة الجماعية، ولا تريد هذه الأطروحة الأحادية والمتعالية أن تتكلم عن الأجهزة الإسبانية ودورها، وما إذا كانت هي في نزهة ذلك اليوم، ولماذا هي نفسها ساهمت في تيسير العبور؟
من جهة ثانية، برغم كل ما حدث منذ الاثنين الماضي، لم تقرر إسبانيا النزول من تعاليها وعجرفتها العدوانية، ولم تقدم أي إشارة إيجابية في اتجاه المملكة الجارة.
وهنا يجب قول الأشياء كما هي، فمدريد هي من اقترفت خطوات استفزازية وعدوانية ضد المغرب، وضد حقوقه الوطنية المشروعة، وهي من يجب أن يوجه إليها الاتهام وليس العكس، وهنا يحق للمغرب تذكيرها بأنها قوة استعمارية بالفعل، وتحتل مدنا ومناطق مغربية إلى اليوم.
ومن حقه كذلك تذكيرها بأن الزمن لم بعد هو الزمن، وعالم اليوم لم يعد فيه مكان للاستعمار، وبأن زمن ما بعد كورونا ليس هو ما قبلها، والمغرب الذي يتبلور اليوم لن يكون هو مغرب الأمس، وترتيبا على ذلك، فالعلاقات بين البلدين يجب أن تقوم على أسس مختلفة، وأن تستحضر الندية ومصالح الطرفين بلا تعال أو عجرفة.
هذا هو عمق الحديث، وهذا ما يجب أن تفتح إسبانيا عيونها عليه اليوم.
أحداث سبتة ومليلية المحتلتين ذكرتنا كذلك أننا في المعارك الوطنية الكبرى يجب أن نعول على أنفسنا وعلى جبهتنا الوطنية الداخلية قبل كل الحسابات السياسية والإستراتيجية.
لم يتردد الأوروبيون في الدخول على خط التوتر المغربي الإسباني، وناصروا مدريد، واعتبروا المدينتين المغربيتين المحتلتين حدودا لأوروبا.
إسبانيا ومعها أوروبا يجب أن تدركا أن سبتة ومليلية وباقي الثغور هي أراضي مغربية، والحدود المتخيلة التي يتحدثون عنها هي نتاج واقع استعماري يعرف تفاصيله وسياقاته الجميع.
العقد الاستعمارية المتحكمة في عقلية وسلوك جزء كبير من النخبة السياسية والأمنية والعسكرية الإسبانية هي التي تجعل موضوع المغرب والعلاقة معه طاغية في الصراع السياسي الداخلي هناك، وحتى هذه الأحداث الأخيرة نفسها كشفت عن سباق شرس للركوب عليها من لدن مختلف الفرقاء المتنافسين.
وإذا استحضرنا هذه العقد التاريخية وتجليات التعبير عنها في علاقات مدريد بالرباط، وفِي المواقف الإسبانية من القضايا المغربية، وأضفنا إليها امتناع اسبانيا عن كل مساهمة في حل النزاع المفتعل حول مغربية الصحراء، وهي القوة الاستعمارية السابقة في المنطقة، بل هي تمعن في التعبير عن مواقف عدائية غريبة للوحدة الترابية للمملكة، وآخرها استقبال زعيم الجبهة الانفصالية فوق أراضيها بهوية مزورة وبتواطؤ مع النظام الجزائري…
السلوكات السياسية لا تكون مجانية أو بلا خلفيات أو أهداف، ومن يعتقد ذلك فهو أبله.
هل استقبال زعيم الانفصاليين كان إذن أمرا عاديا ومن دون أي نية مقصودة؟ هل التعبير عن رفض الاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء كان بدوره عاديا؟ وهل المساعي التي بذلت لدى الإدارة الأمريكية الجديدة للتراجع عن هذا الاعتراف كانت عادية؟ وهل تساهل الأجهزة الأمنية الإسبانية الاثنين الماضي تجاه نزوح العابرين نحو سبتة المحتلة كان كذلك عاديا؟ ثم هل كل هذه الخطوات والسلوكات الإسبانية لم يكن هناك خيط ناظم بينها؟ وهل كانت كلها عادية ولم تكن مؤطرة ضمن مناورة استهدافية شمولية ضد المغرب؟
كل ما يحدث إلى اليوم يعني أن المغرب يحق له اليوم الإصرار على تغيير قواعد التفاوض مع إسبانيا، ومن حقه فرض احترام حقوقه الوطنية ومصالحه الإستراتيجية على مختلف الشركاء.
من المؤكد أن ما يشهده العالم اليوم من تبدلات، وما يؤسس له زمن ما بعد كورونا من تحولات كبرى ومهولة، لن يستثني منطقة المتوسط، وخصوصا غربها، وأيضا المصالح المغربية مع أوروبا ومع الشركاء الدوليين والإقليميين الآخرين، ولذلك يجري اليوم صياغة محددات هذه الجغرافية السياسية والإستراتيجية والاقتصادية الجديدة، ومن حق المغرب أن يكون حاضرا في معادلاتها، وأن تراعى مصالحه وأهميته ضمن كامل هذه الجيو استراتيجية الجديدة، وهو ما يجب أن تدركه إسبانيا أولا، وأيضا فرنسا ثم ألمانيا والشركاء الآخرين.
التعاون مع المغرب والاعتماد عليه لا يكون فقط في القضايا الأمنية وفِي محاربة الهجرة غير القانونية أو تجارة المخدرات والبشر أو في مكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة، ولكن أيضا في السياسة والاقتصاد، وفِي احترام حقوقه الوطنية ومصالحه التنموية والإستراتيجية، والتعامل معه على قدم المساواة…
ضمن هذا الأفق نحن مع مصلحة وطننا، ومن أجل تمتين الجبهة الوطنية الداخلية للانتصار لقضايانا الوطنية…
<محتات الرقاص