الأنا والآخر.. حتمية التواصل متنوع الأشكال

يقدم كتاب “التواصُل بين- الثقافي الواقع. الحقيقة. الصورة” للباحثة رزان جدعان تجربة ثقافية وبين- ثقافية تعيشها معظم الكيانات البشرية بين مجتمعات العالم المختلفة اليوم. ومع ملاحظة شح الكتب والمؤلفات في موضوع التواصل بين الثقافات باللغة العربية، ولدت فكرة هذا الكتاب بعد مخاض النقاشات الطويلة في المجتمعات وبينها عن التواصل بين الثقافات، ونتيجة للتساؤلات والفرضيات الكثيرة التي نطرحها على أنفسنا في العالمين العربي والغرب “في ما يخص الأزمات بين-الثقافية ونظريات المؤامرة والتطبيع -التي نتساءل عنها في العالم العربي- من جهة، إضافة إلى نظريات الاستعمار والعولمة والنمطيات أو الكليشيه” وتطبيقاتها التي يتداولها العالم الغربي في علاقته مع الشرق من جهة أخرى.
وليس الهدف هنا التوقف عند الوصفية السطحية لما نفكر أو نقول أو نكتب عن بعضنا البعض بين العالمين العربي والغربي، بل يحاول هذا الكتاب، الصادر مؤخرا عن منشورات رياض الريس، خوض عصف ذهني غني بالتساؤلات والفرضيات مع القارئ.
ويبرز هنا عصف ذهني يقدم نوعا من التأمل والتنوير الفكري يولد إدراكا يختلف عن ذلك الروتيني والمعتاد. يدعو هذا التحريك الذهني إلى التواصل مع الآخر من خلال فكره ومن خلال الخروج من مطلقية الأطر الفكرية الذاتية لوهلة التعرف على الآخر، من خلال ابتكار طرق ومحاور ومصادر تواصلية وفكرية جديدة غير المعتادة، والمختلفة عن تلك التي تقدمها وسائل التواصل الجماهيري العالمية المنمطة.
ويمكن وفق الباحثة تحقيق ذلك بانتهاج النقد الذاتي، وتمرين المطلقيات، واحترام الاختلاف، وفهم بديهية التنوع الطبيعية بين المجتمعات وثقافاتها، ومن خلال اعتبارها نعمة بدلا من نقمة على العالم وإغناء بدلا من مؤد إلى الفناء.
تتنقل جدعان بين النظرية والعملية، وبين الماضي والحاضر، بين الخفي والجلي، بين العسير واليسير، وبين وجهات النظر المختلفة تجاه العلاقة التواصلية بين الشرق والغرب. يتم الدعوة من خلال الكتاب إلى التأمل والتأني في عصر السرعة التكنولوجية، وإلى الإلمام بكل الآراء والأفعال وردودها، وإلى ترجيح كفة الحكمة في تكوين الآراء والسلوكيات والاتجاهات الموضوعية عن الآخر وعن الاختلاف بين الثقافات على المستويين الفردي والجماعي العام.
يسير الكتاب في تسع وحدات بين النظرية والواقع معرفا الثقافة والحضارة بين المجتمعات، محاولا تفسير كيفية تواصل الثقافات في عصر العولمة، مقارنا بين بناء المجتمعات العربية والغربية في تواصلها بين الثقافات، مستنتجا هشاشة العلاقة بين هذه الثقافات بين الماضي والحاضر وفي عصر الحداثة وما بعده، دارسا حضور أنظمة التواصل الجماهيري ووسائلها في المجتمعات وبينها، محللا دورها في التأثير على رأي المجتمعات العمودي وقدراتها على توجيه إدراكه وسلوكه تجاه الواقع.
كما تصف جدعان شكل ومضمون التواصل بين الشرق والغرب بين الحوار والصراع من وجهات النظر المختلفة، ذاكرة معرقلات التواصل البناء بين الثقافات، متناولة التحديات البين-ثقافية التي تواجهها المجتمعات وأنظمة التواصل الجماهيري في عصر التكنولوجيا والإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي، وتقترح أخيرا مناهج تواصلية بناءة وحوارية بين الثقافات. وفي اقتراح لمبدأ الترفع عن الأطر الفكرية الذي يشترط على المجتمعات الوصول إلى مرحلة النضج الثقافي، تعطى المجتمعات الفرصة إلى تمرين مطلقياتها الثقافية بمعزل عن الفوقية والعنصرية البين-ثقافية، وتعطى فرصة إغناء مرجعياتها بمعارف وتجارب جديدة، مطورة على ذاتها ومحافظة على هويتها الأصيلة في الوقت نفسه.
في نهاية مطاف العصف الذهني تصل هذه القراءة إلى التوصية بالسعي في اتجاهات عديدة نذكر منها تجاوز أنظمة الثنائيات الضدية الفكرية، وإعادة بناء الأنظمة الإنسانية الوضعية من جديد. كما تدعو الباحثة المجتمعات إلى الانفصال عن سياسات الأنظمة الدولية المبنية على خلق الصراع، وإلى التنازل عن السرديات كما يسميها إدوارد سعيد. كما تؤكد على ضرورة الحفاظ على استمرارية التطور الداخلي والخارجي للمجتمعات وبينها، من خلال التفاعل مع الذات ومع الآخر ومحاولة رؤيته بمنظور فكره كما يفسر الجابري.
وينتهي الكتاب بتقديم المزيد من التساؤلات، دعوة إلى الاستمرار في التفكير وتأكيد على أهمية خوض التجربة الإنسانية التفاعلية المستمرة داخل الثقافات وبينها، لمعرفة المزيد وللاكتشاف الطموح لآفاق الواقع الواسع المديد إلى مالا نهاية.،

Related posts

Top