الأوبئة والتاريخ، القوة والامبريالية- الحلقة 10-

يفتح هذا الكتاب القيم عين القارئ على بعض من تاريخ الطب وعلم الأوبئة، وعلاقة الانتشار الوبائي بجشع الإمبريالية والحركة الاستعمارية. ويبين شلدون واتس مؤلف الكتاب، كيف استخدمت قوى الاستعمار مفهوم “مقاومة الأمراض الوبائية” ليسهل أمامها اختراق دول أفريقيا وآسيا والأميركيتين. ولم تكن نشأة المؤسسات الطبية الغربية خارجة عن هذا السياق العام الذي يحكمه منطق القوة وسيطرة القوى الاستعمارية على شعوب العالم. يجد قارئ بيان اليوم في هذا الكتاب تفاصيل مذهلة تؤكد في مجملها ارتباط مفهوم “مقاومة الأوبئة” بغايات استعمارية.

  • محاولات طمس معرفة الأطباء العرب بعلم الأوبئة

ضمت مدن الأندلس العديد من الأطباء المتخصصين في فروع الطب، منهم على سبيل المثال أبو القاسم الزهراوی (939 – 1013م) وهو أكبر المتخصصين في علم الجراحة، وله كتاب يعرف باسم “التصريف لمن عجز عن التأليف ظهر في ثلاثين جزءا في الجراحة بأقسامها المختلفة. وهناك أيضا مروان بن زهر (1090 – 1190 م) والذي تتميز تأليفه بعقلية نقدية لآراء جالينوس وابن سينا.

وقد ألف في الطب أيضا الفيلسوف والفقيه أبو الوليد ابن رشد (1129- 1198 م). بجانب هؤلاء كان ابن الخطيب (1313- 1379م) رجل الدولة الأندلسي والمؤرخ والطبيب الذي ولد بغرناطة وتوفي بمدينة فاس، ولابن الخطيب الأندلسي أهمية خاصة بالنسبة إلى السياق الذي نتكلم عنه، وهو الأمراض المعدية والوبائية. فقد استخدم ابن الخطيب مفهوم الوباء نتيجة للعدوى، وهو المفهوم الذي كان غالبا عن الكتابات الطبية الأوربية في العصور الوسطى، حيث أتيحت له فرص عديدة لمتابعة أمراض مثل الجدری والكوليرا والطاعون. وقد ترك لنا ابن الخطيب وصفا دقيقا للطاعون الكبير الذي حدث عام1398  في أوربا.

فقد كان ابن الخطيب معاصرا لهذا الطاعون، ورغم أنه كان شاهدا على هذا الطاعون واصفا له، فإن المؤلف لم يتعرض لهذا الوصف المهم في سياق الفصل الذي خصصه للطاعون. وما يهمنا هنا هو رسالته العلمية المنطقية عن العدوى، وعن انتشارها بواسطة الاتصال بالمرض حسب ما يستدل من الفقرة التالية: فإن قيل كيف نسلم بدعوى العدوى، وقد رد الشرع بنفي ذلك، قلنا : لقد ثبت وجود العدوى بالتجربة والاستقراء والحس والمشاهدة والأخبار المتواردة، هذه هي مواد البرهان. ثم إنه غير خفى على من نظر في هذا الأمر أن من يخالط المصاب بهذا المرض يهلك، ويسلم من لا يخالطه. كذلك، فإن المرض يقع في الدار او المحلة من ثوب أو أنية، فالقرط يتلف من علقه بأذنه ويبيد البيت بأسره. ومن البيت ينتقل المرض إلى المباشرين ثم إلى جيرانهم وأقاربهم وزائريهم حتى يتسع الفرق. وأما مدن السواحل فلا تسلم أيضا إن جاها المرض عبر البحر عن طريق وافد من مدينة شاع عنها خبر الوباء …

يتضح من رسالة ابن الخطيب أن العدوى تنتقل من شخص إلى آخر عند مخالطة الشخص السليم للشخص المريض. كما أن العدوى تنتقل عن طريق المتعلقات الشخصية للمريض مثل الحلق أوالقرط في الأذن، أو ثوب المريض وملابسه، أو الأواني التي يأكل ويشرب فيها. ليس هذا فحسب، بل إن ابن الخطيب يضع أسس علم الأوبئة الحديث عندما يقول إن العدوى تنتقل من المنزل الذي تقع فيه العدوى إلى المنازل المجاورة وإلى الأقارب والزوار حتى يعم الوباء الحي أو المنطقة بأسرها. ويذكر ابن الخطيب في هذه الرسالة المبتكرة كيف تنتقل العدوى بين المدن الساحلية عن طريق السفن.

وبذلك فالشخص المريض يعدي، كما أن متعلقاته وملابسه تعد مصدرا للعدوى، كذلك فإن العدوى تنتقل من منزل إلى آخر، ومن منطقة إلى أخرى، ومن بلد موبوء إلى بلد آخر. إن أخذ هذا في الحسبان يعني أن مقاومة الأمراض المعدية تستلزم عدة إجراءات للحد من انتشار المرض وهي، أولا: عزل المريض وعدم زيارته. ثانيا : عزل المنطقة المصابة. ثالثا : رقابة السفن القادمة من البلاد المصابة، وهي نفسها إجراءات الحجر الصحي التي طبقتها المدن الإيطالية عام 1900 م.

وفي هذا السياق فقد كتب وزير أخر في قصر غرناطة، وهو الطبيب العربي ابن الخطمية إن نتائج تجاربي الطويلة تشير إلى أن من خالط أحد المصابين بمرض سار، أو لبس من ثيابه ابتلي مباشرة بالداء، ووقع فريسة عوارضه نفسها، وإذا بصق العليل الأول دما بصق الثاني أيضا … وإذا كان الأول دمل صار للثانی أيضا. إن ما ذكره ابن الخطيب في انتقال العدوى، يردده ابن الخطمية الذي يضيف في ذلك أن إفرازات المريض ومنها البصاق يمكن أن يعدى الشخص السليم، وهو ما يعني أن “نظرية العدوى” كانت نظرية معروفة ومتداولة بين الأطباء، والغريب في الأمر أن المؤلف عندما يشير إلى ابن الخطمية في الفصل المخصص للكوليرا، فإنه ينتقى ذلك الجزء الذي يشير فيه ابن الخطمية إلى وباء الكوليرا على أنه مثال على القدرة الإلهية، وأن الله وحده يعلم متى سينتهي هذا الوباء، ولا يشير إلى الجزء العلمي من رسالة ابن الخطمية، الذي يؤكد معرفة الأطباء العرب بعلم الأوبئة، وهو الموقف نفسه من ابن الخطيب حيث لم يتعرض المؤلف من قريب أو بعيد لرسالته العلمية المنطقية، وفضل بدلا من ذلك أن يتعرض لرحلته من إفريقيا إلى الأندلس والتي يصف فيها سلوك البدو في الصحراء.

> إعداد: سعيد ايت اومزيد

Related posts

Top