“…أن تكون مُؤمنًا بقضية لا يعني الكثير، أما أن تقرّر أن تُناضل من أجلها فأنت تُقرّر حينها أن تحيا أسطورتك الذاتية، يعني أن لديك قلبًا ينبض وعقلًا يضيء فتشعر حينها بأنك تحيا إنسانيتك، وتستشعر وجودك، فإذا كان صنع السلام أصعب من خوض الحرب لأن صنعه والمحافظة عليه يتطلبان الشجاعة ويفترضان أحياناً مقاربات جديدة وصعبة، إلا أن ذلك يبقى رهينا بالتمتع بشخصية مدنية مُحببة ورأسمال ضخم من الإرادة والطموح والعمل والمثابرة والعزيمة للوصول إلى الهدف، شعرن دومًا بقلوبهن النابضة وعقولهن المضيئة بذلك الإنسان القابع في نفوسهن برغم القيود التي فرضها عليهن المجتمع لا لشيء إلا لكونهن ملحقات بتاء التأنيث، وبرغم ذلك قررن أن يحملهن تاء التأنيث سلاحا في نضالهن، ينتشرن في التاريخ كالزهرات الجميلات يمنحن الأمل ويتركن حلما لدى الجميع يقول: أنا المرأة، أنا النضال، أنا الحرية، أنا الإنسان دون تمييز… فتدافعن نحو الحرية وحماية حقوق الإنسان بشجاعة ومُثابرة، ناضلن في سبيل الحقيقة والعدالة والأمل والإصلاح والسلام، دافعْن عن القضية الإنسانية وحملن لأجلها راية الحرية والديمقراطية والحفاظ على كرامة الإنسان، حتى كوفئن أخيرا بتسجيل أسمائهن في وصية ألفريد نوبل التي كتبها تكفيراً عن شعوره بالذنب لاختراعه الديناميت القاتل، إنهن مناضلات دافعن عن الحياة وحصلن على نوبل….”.
جودي ويليامز… عندما تضع الحرب أوزارها تبقى الألغام متربصة بالعابرين
نضال الألف ميل الذي قادته امرأة نجحت في وضع حد للألغام الأرضية
“…أحيانا عندما يُصاب أحباؤنا بالأذى نكون على يقين تام أن بوسعنا تغيير كل شيء تكريما لهم، وكم نتمنى لو أن ثمة عصا سحرية نحملها دائما ونلوح بها إذا ما تحقق لأحد أحبائنا ذلك، إننا نشعر بالأسى عندما نشاهد الضحايا الأبرياء يموتون دون سبب إلا لأنهم تواجدوا في أراضي وأوطان لهم امتلأت بالقاتلات النائمة والصامتة..، إن الرغبة بحظر الألغام الأرضية ليست بجديدة على الإطلاق، فالألغام الأرضية كانت ولا تزال من بين الأسلحة التي تم إيلاؤها اهتماما خاصا، إن اللغم أعمى وغير قادر على التفريق بين جندي ومدني… بين امرأة أو طفل… بين إنسان أو حيوان…، ولب المشكلة يكمن أيها السادة في أنه حتى ومع احتمال تبرير استخدام هذا السلاح من ناحية عسكرية أثناء نشوب المعركة إلا أن اللغم الأرضي سوف لن يدرك متى حل السلام كونه معد لسفك الدماء فقط…”….
بهذه الكلمات الموجزة انطلقت جودي ويليامز تدافع عن هدفها السامي المتمثل في ضرورة تحريم صناعة وزرع الألغام الأرضية وتصديرها خلال تسلمها جائزة نوبل للسلام عام 1997 بعد أن أسست وأدارت لهذه الغاية الحملة الدولية لمحاربة الألغام الأرضية عام 1986 وأقنعت العديد من الدول بالتوقيع على معاهدة حظر صناعة وتصدير الألغام الأرضية في ظل تهرب العديد منها كروسيا والصين ومسقط رأسها الولايات المتحدة الأمريكية التي فشل الرئيس الأمريكي بيل كلينتون (رغم اقتناعه بآرائها) في إقناع الكونغرس الأمريكي على تمرير مثل هذا القرار .
القتلة الصامتين
عندما كان الجيران يُهيئون مُحركات جرّاراتهم للعمل في الحقول كانت جودي ويليامز (ولدت جودي ويليامز بولاية فيرمونت الأمريكية في 9 أكتوبر 1950) تُشّغل حاسوبها الشخصي في منزلها الكائن بضواحي بوتني بولاية فيرمونت لتبقي نفسها على اتصال دائم مع أكثر من سبعمائة منظمة إنسانية إقليمية ودولية أخذت على عاتقها مهمة نزع الألغام الأرضية وتجريم صناعتها في أكثر من أربعين دولة، فقبل سنوات قليلة فقط (عام 1992) أسست رسميا المنظمة الدولية لحظر الألغام الأرضية بعد أن طورت مشروعا إنسانيا لحظات عملها ضمن فريق المساعدة الطبية في السلفادور وعقدت العزم مع رفاقها على جعل العالم يخلو من القتلة الصامتين بعد أن سمعت بالأضرار المُدمرة التي أنزلتها الألغام المضادة للأفراد (نهاية الثمانيات) من كوارث وضحايا حتى رفعت لأجله شعارها الذي يقول (إنني في غاية الالتزام بالمسؤولية التي أحملها على عاتقي… جميعا ضد الألغام…)، وانطلقت بالقول تعليقا على حملتها ضد القتلة الصامتين: “….من المُذهل حقا ما يقرّر على المرء إنجازه إذا ما سعى إلى تحقيق هدفه بكل ما يملك من طاقة، إن الألغام لا تفرق بين جندي ومدني ولا تعرف العمر أو الجنس ولا تميز بين البريء والشرير، فكل عشرين دقيقة ثمّة إنسان في مكان ما من هذا العالم سيطأ على أحدها ويلقى حتفه، سيطأ على أحد هذه الألغام التي تبدو صامتة بانتظار ضحاياها حتى بعد انقضاء النزاعات العسكرية وما أكثرها في عالمنا….”.
وتضيف بالقول: “…..إن الألغام الأرضية تقتل كل عام أكثر من 200 شخص وتلحق أضرارا بالغة بعدد أكبر من هذا، فرغم كونها صغيرة الحجم وغير مؤذية ظاهريا وبالكاد يبلغ وزن أصغرها الكيلوغرام ولا يتطلب تصنيعها الجهد الكبير إلا أن مفعولها قوي جدا وضحاياها مُتعدّدون وغالبيتهم من المزارعين والأطفال الذين يلعبون في الحقول كما حدث مع الصبي الكمبودي (تشينغ) الذي كان يسوق بقرته إلى البيت لحظات دوسه على إحى القتلة الصامتين التي أودت بحياته سريعا..، (تشينغ) ليس الوحيد في كمبوديا الذي تعرض للموت المفاجئ فهناك الكثيرين من الضحايا الذين يموتون في هذا البلد الذي يعود تاريخ وجودها ووجود أقدم الألغام الأرضية إليها وتحديدا إبّان الاحتلال الفرنسي لها علما بأن الأمريكيين والخمير الحمر والفيتناميين هم الذين أسهموا في تلغيم رقعة البلاد بأكملها…..”.
الأرملة السوداء… والببّغاء الأخضر
فبعد حصولها على درجة البكالوريوس في القانون من جامعة فيرمونت الأمريكية عام 1972 انطلقت جودي ويليامز إلى الدولة المجاورة المكسيك لاستكمال تحصيلها العلمي قبل أن تعود إلى واشنطن في العام 1984 وقد حصلت على درجة الماجستير في العلاقات الدولية، وتنطلق سريعا إلى إدارة وتطوير أحد المشاريع الإنسانية للمساعدة الطبية في السلفادور 1986/1992 بعد أن نسقت مع (بوبي مولر) رئيس مؤسسة المحاربين الأمريكيين القدامى في فيتنام مبادرة لحظر الألغام الأرضية عالميا حتى امتدت اتصالاتها مع مختلف المنظمات ذات الصلة (المنظمات القائمة على مشاريع إزالة الألغام، المنظمات الخاصة بضحايا الألغام) حتى تكللت مساعيها سريعا بإنشاء الحملة الدولية لحظر الألغام الأرضية التي ضمّت في عضويتها سبعمائة منظمة إقليمية ودولية وقامت بنشر كتاب مُفصل عن ماهية الألغام وأنواعها ومخاطرها.. عام 1995 أطلقت عليه اسم (إرث الألغام الأرضية مستمر) عمدت من خلاله إلى إجراء تفصيلي للألغام وبيان أنواعها وآثارها انطلاقا من محدّدات اليونيسيف لها والتي قاربت الثلاثمائة وخمسين نوعا دون اختلاف يذكر بين سمات القتلة الصامتين، فهناك من يحمل أسماء شاعرية (الأرملة السوداء) الذي يُعد أشد الألغام فتكا، والببّغاء الأخضر الذي أمطرت به الولايات المتحدة الأمريكية أفغانستان وقتلت المئات من أطفاله وفي هذا تقول: “…. عندما تصبح الألغام الأرضية هدفا يوميا تفقد معنى الخطر الذي تنطوي عليه ويفقد الأطفال حذرهم إزاءها كونهم سيتنافسون في رمي الأحجار في كل مكان أثناء لعبهم ومرحهم….، سيموتون دون أن يعوا بأن حجرا واحدا قد يمزق أجسادهم إلى أشلاء وشظايا، وكم كنت حزينة عندما استمعت إلى (أليس سيمبين) إحدى لاجئات الموزامبيق في زمبابوي وهي تُسرد قصتها أمام ممثلي منظمة إفريقيا ووتش ديسمبر 1992 وقد أخذت تقول: كنت في غاية السعادة بحلول السلام أخيرا وكنت آمل أنا وعائلتي بالعودة إلى حياتنا المسالمة، ولم نكن نريد المزيد من ذكريات الحرب، لكن وأثناء مسيرتنا إلى البيت داس شقيقي على لغم أودى بحياته وأخذت حينها أتساءل من جديد ما الذي فعلناه حتى نستحق ما يحدث لنا الآن…؟، لقد قالوا لنا إن السلام قد حلّ الآن… لقد كذبوا علينا… ولكم أن تتساءلوا كم سيجرف الفيضان الذي حصل وسيحصل في بلادنا من الألغام الأرضية التي دفنت في تراب الموزامبيق… مليون.. أم مليونيين…؟ لكن لكم أيضا أن تعوا جيدا بأن انجراف المياه قد أدى إلى سحب التربة السطحية فقط وهذا يعني أن الألغام التي كانت مدفونة على عمق آمن أصبحت الآن أقرب وبصورة خطيرة إلى السطح وتحت أقدام البشر، كما أن الشوارع التي كانت تعتبر آمنة ستخربها الألغام المتفجرة… وإليكم أن تتخيّلوا المشهد والمأساة….”.
من المزرعة الى نوبل
في أجد أيام العام 1981 وبينما كانت إحدى الشابات في طريقها إلى العمل وتهم بمغادرة قطار الأنفاق بالعاصمة الأمريكية واشنطن إذا بشخص وقد عمد إلى التطفل عليها ودس في يدها منشورا يدعوها لحضور اجتماع يتناول تورط الولايات المتحدة الأمريكية في الحرب الأهلية التي اندلعت في السلفادور، وهو الحادث الذي شكّل لها بداية المهنة كناشطة سلمية قبل أن تبلغ ذروتها بعد منحها جائزة نوبل للسلام عام 1997، وفي هذا تروي جودي “… كنت حينها عائدة من عملي كأمينة سر في أحد مكاتب الخدمة بالعاصمة الأمريكية، ولربما كان هذا الشخص يعرفني جيدا ويعلم باهتمامي الكبير ومنذ زمن بعيد بالقضايا الاجتماعية التي اختبرت حجمها في عمر مبكر…، واختبرْتُ ما تعنيه العدالة عندما كان أقراني في المدرسة يتحرّشون بشقيقي المُعاق الذي أحسست معه بمختلف أشكال الظلم ….، كنت أنزعج كثيرا عندما يتصرّف شخص قوي بلؤم مع آخر ضعيف….، وربما هذه سمة يشاركني إيّاها الكثيرون من أهالي ولاية فيرومنت حيث بيتي ومزرعتي الصغيرة في فيرومنت التي يوجد فيها أكثر من ثلاثمائة جماعة وناشطة في مختلف المجالات والقضايا، وزاد من شغفي الكبير بالقضايا الاجتماعية وعلى وجه الخصوص بقضايا نزع الألغام بعد لقائي بروبرت مولر رئيس مؤسسة المحاربين الأمريكيين القدامى في فيتنام الذي سعيت معه إلى وضع أرضية قوية لمحاربة القوة التدميرية المُرعبة للألغام الأرضية وأخذت أسعى من خلالها إلى إقناع العديد من الدول بالتوقيع على حظر استعمالها وصناعتها خاصة مسقط رأسي الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا اللتين تملصتا دائما من وعودهما والتزامهما رغم تشبعهما بأفكاري واقتناعهما بكل ما سردته من قصص ودلالات على مخاطر المقاتلات الصامتة، ورغم أن حملتي قد حققت انتصارا جزئيا لا كليا إلا أن ذلك كان محفزا لي للمضي قدما نحو مزيد من التوقيعات لمنع صناعة وتصدير الألغام الأرضية، وهي توجهات تماشت مع منحي جائزة نوبل للسلام عام 1997….”.
إقناع الضمير العام
“….كان الجميع ممّن نجحت في التواصل معهم مُقتنعين تماما بفائدة هذا المنع والصناعة والتصدير للألغام الأرضية، وحاولت مرارا وتكرارا إقناع الرئيس الأمريكي آنذاك بيل كلينتون الذي كان من أنصار حملتي إلا أنه لم يتمكن من جعل الولايات المتحدة الأمريكية تبرم معاهدة لحظر الألغام الأرضية نظير معارضة أعضاء بارزين في الكونغرس الأمريكي لهذا التوجه، وكذلك فعل الرئيس الروسي بوريس يلتسين الذي تأثر بدوره بالحملة وصرح في يوم نيلي لجائزة نوبل للسلام بأن روسيا ستوقع المعاهدة وهو ما لم يحدث حتى الآن…، لكن جهودي لم تفتر البتة حول إقناع الضمير العام الدولي برؤيتي لعالم خال من الألغام ووصل صداها إلى كوريا الجنوبية والصين اللتين رفضتا كذلك التوقيع على معاهدة مماثلة متذرعة بالمشاكل الأمنية الدائرة في البلاد، وأخذت في كثير من الخرجات الإعلامية أصرح للجميع بالقول: ليعلم الجميع بأننا سائرون قدما نحو إيجاد عالم خال من الألغام القاتلة، ليعلم الجميع أن ما تدعيه الحكومات بوجود أسلاك مُسيّجة حول المناطق الخطرة المليئة بالألغام الأرضية هو إفك وكذب وبهتان كبير، ليحرص الجميع في كل خطوة يخطوها…، فالألغام موجودة بالقرب من الآبار…، بمحاذاة ضفاف الأنهار…، في الحقول …..، إنها في كل مكان شهد نزاعا مسلحا…”، وختمت مناشدتها للعالم أثناء نيلها جائزة نوبل بالقول: “… لتبقوا بعيدين عن الأماكن المُشتبه بوجود القاتلات الصامتة فيها، لتبقوا بعيدين عنها إلى أبعد الحدود، فنحن نسير وسنبقى في الاتجاه الصحيح رغم أنه ينقصنا مشاركة الدول الهامة بما فيها الولايات المتحدة، إننا مقتنعون بأننا سنجعل الدول كافة تنضم إلينا لأننا نراقب نشاطاتها ونضغط عليها بكل الوسائل الممكنة للضغط عليها، وبالتالي يجب أن نثبت للجميع بأن على المجتمع المدني والحكومات أن تعمل معا وسويا لمخاطبة الهموم الإنسانية بسرعة فائقة لأن مثل هذه الشراكة ستجعلنا قادرين على فعل كل شيء، ستجعلنا نشكل نوعا جديدا من القوة والضغط في عالم ما بعد الحرب الباردة…”.
سلسلة من إعداد وتقديم: معادي أسعد صوالحة