يفتح هذا الكتاب القيم عين القارئ على بعض من تاريخ الطب وعلم الأوبئة، وعلاقة الانتشار الوبائي بجشع الإمبريالية والحركة الاستعمارية. ويبين شلدون واتس مؤلف الكتاب، كيف استخدمت قوى الاستعمار مفهوم “مقاومة الأمراض الوبائية” ليسهل أمامها اختراق دول أفريقيا وآسيا والأميركيتين. ولم تكن نشأة المؤسسات الطبية الغربية خارجة عن هذا السياق العام الذي يحكمه منطق القوة وسيطرة القوى الاستعمارية على شعوب العالم. يجد قارئ بيان اليوم في هذا الكتاب تفاصيل مذهلة تؤكد في مجملها ارتباط مفهوم “مقاومة الأوبئة” بغايات استعمارية.
* لماذا لم تنتشر في العالم الإسلامي إجراءات الحجر الصحي ؟
إذا عدنا إلى السؤال الذي طرحناه من قبل، وهو : لماذا لم تطبق في مدن العالم الإسلامي الأخرى بخلاف مدن الأندلس إجراءات الحجر الصحي، على الرغم من معرفة الطب العربي بالنظرية العامة للعدوی؟ ولماذا طبقت مدن أوربا هذه الإجراءات التي نقلتها من مدن الأندلس بالاستعانة بالأطباء العرب، ثم استمرت في تطبيقها بعد ذلك؟ إن معنی ظهور إجراءات مقاومة الأمراض المعدية في مدن الأندلس وعدم انتقالها إلى المدن العربية الأخرى هو أنها ظهرت وطبقت ثم توقفت واختفت، بينما كان الأمر على العكس تماما في أوربا فقد ظهرت ثم استمرت وانتشرت).
في الفترة التي طبقت فيها مدن الشمال الإيطالي بنهاية خمسينيات القرن الخامس عشر إجراءات الحجر الصحي – عرف الأطباء العرب النظرية العامة للعدوى وطرق مقاومتها عن طريق المنهج التجريبي، أي بواسطة “التجربة والحس والمشاهدة أي الملاحظة”، كما بين ذلك ابن الخطيب، مع العلم أنهم لم يعرفوا طبيعة تلك الكائنات الحية التي تسبب هذه العدوى. فهذه الكائنات غير محسوسة وغير منظورة نظرا لصغرها الشديد، وتعاملوا أيضا مع التهديد المصاحب لهذه الكائنات، أى العدوي نفسها بإجراءات المقاومة، من حيث إنها أشياء ممكنة ومتوقعة الحدوث، أي أنهم تعاملوا مع حركة العدوى الخفية مثلها مثل طبيعة العدوى من جهة أنها أيضا من الأشياء غير المحسوسة والغريب في الأمر أن أوربا تعاملت أيضا مع مسببات العدوی وحركة العدوى بنفس الأسلوب والطريقة التي تعامل بها الطب العربی، فلم تعرف أوربا طبيعة الكائنات المسببة للعدوى إلا بعد ظهور الطب المعملي، واختراع الميكروسكوب في نهاية القرن التاسع عشر، وظهور النظرية العامة للجراثيم.
فقد اكتشفت العديد من هذه الجراثيم خلال ثلاثين عاما بين عامي 1870 – 1909 ( فقد اكتشف میکروب الجذام عام 1870، والملاريا عام 1880، والسل 1882 والكوليرا 1883، والطاعون 1899، والزهری 1900، والتيفوس 1909). فقد تعامل الأطباء الأوربيون مثلهم في ذلك مثل الأطباء العرب مع ماهية مسببات العدوى والتهديد المحتمل الناشئ عنها، من حيث إنهما إمكانية ليس إلا، ومن حيث إنهما أشياء غير محسوسة وغير منظورة. فمريض الطاعون ظاهر ومعروف من حيث الأعراض، أما ما يسبب الطاعون أو دورة حياة المرض وأين يختبئ بعد انتهاء الوباء فقد ظل من الأشياء المجهولة، ومع ذلك ظل الأوربيون يطبقون إجراءات الحجر الصحي لمدة أكثر من أربعة قرون من عام 1950 إلى وقت اكتشاف میکروب الطاعون عام 1894م.
إن معنى ذلك أن العلوم تتعامل مع الأشياء المعلومة والمحسوسة وكذلك مع الأشياء الممكن حدوثها في المستقبل غير المحسوسة ولا المنظورة الآن، وهو ما حدث مع علم الأوبئة العربي. فالموجودات إذا والتي هي موضوع العلم، على صنفين أحدهما محسوس وملموس، والآخر غير محسوس وغير منظور. وفي هذا السياق يمكن تصور أن الواقع يشمل إما الموجود المحسوس، وإما الموجود غير المحسوس . ويبدو من المنطقي إذن إدراك أن المنهج التجريبي، الذي يتعامل مع الصنف الأول من الموجودات، وقوامه التجربة والحس والمشاهدة والقائم على الاستقراء – لا يكفي وحدة للتعامل مع الصنف الآخر من الموجودات، إذ لابد من منهج أخر قوامه “الفرض والتصور العقلي.. فهل كان هناك في العلم العربي ذلك المنهج الآخر؟
يمكن القول إن المنهج الفرضي الاستنباطی الذي عبر عنه الحسن بين الهيثم (990- 100م) في معرض تفسيره لكيفية الإبصار، وفي معرض اكتشافه الفذ في علم الضوء، كان هو المنهج الذي يتعامل مع هذا الصنف من الموجودات.
كانت الآراء التي تتعلق بكيفية الإبصار قبل الحسن بن الهيثم تدور حول نظريتين. ويرى أصحاب النظرية الأولى أن الإبصار يحدث نتيجة لخروج شعاع من العين يسقط على الشيء المرئي وبه نرى الأشياء، وقد سمى أصحاب هذه النظرية بأصحاب الشعاع. أما أصحاب النظرية الثانية فيرون على العكس أن الإبصار يكون بصورة ترتد من الشيء المبصر إلى البصر. وقد بين ابن الهيثم خطا كل من النظريتن. فالبنسبة لأصحاب النظرية الأولى بين ابن الهيثم أن البصر لا يستطيع أن يرى أي شيء من المبصرات إلا إذا كانت هناك مسافة بين المبصر
والبصر، فإذا زاد اقتراب هذا الشيء من البصر حتى التصق به فلا تمكن رؤيته. وبالنسبة إلى أصحاب النظرية الثانية تساءل ابن الهيثم، لماذا لا نرى في الظلام؟ ويرى ابن الهيثم أن من شروط الإبصار هو أن يكون الشيء المبصر به ضوء سواء من ذاته أم منعكسا عليه من غيره.
بعد أن بين ابن الهيثم خطأ كل من النظريتين، وضع نظريته المبتكرة في طبيعة الضوء فالضوء إما مصدره الأشياء المضيئة بذاتها كالشمس والنجوم، وإما الأشياء التي تعكس هذه الأضواء كالكواكب والمرايا، وفي حالة الأجسام المضيئة بذاتها فإن الضوء يشرف منها على سمت الخطوط المستقيمة التي تمتد بين سطح هذا الجسم المضيء بذاته وسطح البصر. ويرى ابن الهيثم أن الضوء يتكون من أجزاء صغيرة لا يدركها الحس نظرا لسرعتها الشديدة وصغر حجمها الشديد؛ ولذلك فإن للضوء حركة كما أن له سرعة كسائر الأجسام وإن كنا لا ندركها. وبذلك فإن الضوء ينعطف إذا سار خلال الوسط الشفاف كالماء والبلور، كما أنه ينعكس إذا اصطدم بالأجسام الثقيلة أي الكثيفة. وقد بين ابن الهيثم أن انتقال أجزاء الضوء على سمت الخطوط المستقيمة في الهواء هو سبب الإبصار، فالإبصار يتم نتيجة لحركة الضوء بواسطة الهواء.
وينتج عن الفرض الذي وضعه ابن الهيثم لطبيعة الضوء شيئان على جانب كبير من الأهمية وهما:
أولا: إن الضوء الذي له وجوده المستقل عن البصر، جسم كغيره من الأجسام، وأنه يتكون من أجزاء صغيرة جدا، ولكن نظرا لصغر حجمها الشديد وسرعتها الشديدة فنحن لا نراها وبذلك فهناك من الأجسام الموجودة التي لا يمكن أن تكون محسوسة.
ثانيا : بما أن الضوء يتكون من أجزاء صغيرة جدا، فإن لهذه الأجسام سرعة وحركة في الزمان، وبما أن الضوء يمكن أن ينعكس ويمكن أن ينعطف فإن حركته في كل اتجاه
> إعداد: سعيد ايت اومزيد