يفتح هذا الكتاب القيم عين القارئ على بعض من تاريخ الطب وعلم الأوبئة، وعلاقة الانتشار الوبائي بجشع الإمبريالية والحركة الاستعمارية. ويبين شلدون واتس مؤلف الكتاب، كيف استخدمت قوى الاستعمار مفهوم “مقاومة الأمراض الوبائية” ليسهل أمامها اختراق دول أفريقيا وآسيا والأميركيتين. ولم تكن نشأة المؤسسات الطبية الغربية خارجة عن هذا السياق العام الذي يحكمه منطق القوة وسيطرة القوى الاستعمارية على شعوب العالم. يجد قارئ بيان اليوم في هذا الكتاب تفاصيل مذهلة تؤكد في مجملها ارتباط مفهوم “مقاومة الأوبئة” بغايات استعمارية.
المسكوت عنه أن النظرية العامة للعدوى وإجراءات الحجر الصحي وكيفية التعامل مع الأمراض المعدية هي من إنجازات الطب العربي
ثالثا : إذا صح وكانت هجرة العلماء والمفكرين البيزنطيين، التي حدثت منذ القرن الرابع عشر هي المسئولة عن ظهور هذه الابتكارات في مقاومة الأوبئة – فإن المؤلف يهمل عن عمد ثلاثة مؤثرات أخرى كان لها دور مهم في نشأة أساليب التعامل مع الأوبئة وتطورها في المجتمعات الأوربية قبل عصر النهضة . فلم تكن بيزنطة عند سقوط القسطنطينية في أحسن أوضاعها السياسية والاقتصادية، ولم يكن معروفا عن مدينة القسطنطينية أنها مركز من مراكز العلم أو الطب في هذه الفترة يضاهي القاهرة أو بغداد أو دمشق أو مراغة أو قرطبة أو طليطلة.
شكل فتح العرب للأندلس عام 592/711م نشأة ثقافة أدبية رفيعة، ونهضة علمية، وأفكارا فلسفية كبرى كانت مراكزها في قرطبة وغرناطة وإشبيلية وطليطلة ومرسية .. وقد استمرت هذه النهضة حتى بعد سقوط غرناطة إحدى هذه المعاقل الحضارية عام 1992م. فقد استمرت تلك المراكز العلمية والثقافية لمدة ثمانية قرون مشتعلة تعطي بلا قيود كل من يرغب من الأوربيين سواء عن طريق الترجمة من اللغة العربية أو النقل أو حتى الزيارة والتلمذة على يد العلماء والفلاسفة والمفكرين الأندلسيين. كان هذا الطريق، طريق الأندلس – كما سوف نوضح بعد ذلك – هو الذي أتاح الانسياب البطيء والهادي للمعارف في العلوم إلى المناطق المختلفة من أوربا، كما أتاح أيضا الوقت اللازم لأن يفهم الأوربيون هذه العلوم والأفكار ويستوعبوها ثم يضيفوا إليها بعد ذلك على مدى ثمانية قرون.
كان الطريق الآخر الذي وصلت منه العلوم والثقافة العربية هو طريق صقلية. فقبل غزو النورمان – وهم القبائل التي جاءت من السويد والنرويج- لإنجلترا في موقعة هاستنجر عام 1099م، كانوا قد غزوا جزيرة صقلية عام.109م التي كانت في أيدي العرب، وأسسوا فيها مملكة ضمت جنوب إيطاليا. وقد ظهرت في مملكة النورمان بصقلية وجنوب إيطاليا مراکز علمية وثقافية كبرى مثل باليرمو بصقلية وسالرنو على خليج نابولي. وبفضل تشجيع الملوك النورمان ضمت هذه المراكز العلمية والثقافية علماء من العرب واللاتين والبيزنطيين عملوا ما في جميع فروع العلم، خاصة في الطب. كان الطريق الثالث الذي أتاح للأوربيين التعرف على العلم والثقافة العربية هو الحروب الصليبية التي شنها الأوربيون على الدولة الإسلامية في سبع حملات امتدت بين عامي 1026- 1291م ونتيجة لهذا فقد أسس الصليبيون ممالك استقروا فيها لمدة طويلة من الزمن، مثل مملكة بيت المقدس والرها وأنطاكيا وطرابلس، وقد أتاح هذا وسيلة مهمة لانتقال المعارف والعلوم والفنون الإسلامية من مراكزها القريبة، مثل القاهرة ودمشق وبغداد، كما أن المدن التي استولى عليها الصليبيون كانت هي نفسها مراکز علمية وثقافية، سواء في العصر الإسلامي أو العصور السابقة.
وعندما يذكر المؤلف أنه بحلول عام 1900 م طبقت مدن الشمال الإيطالي إجراءات الحجر الصحي بخطواته الخمس، دون أن يذكر وقائع تاريخية محددة لظهور ما عرفه باختراع مقاومة الطاعون – فإن معنى هذا أن تلك الإجراءات قد ظهرت فجأة دون مقدمات، خاصة بعد ما ظهر من تهافت تلك العلاقة التي أنشأها المؤلف بين سقوط القسطنطينية وتطبيق تلك الإجراءات.
إن الحقائق التي لم يتعرض لها المؤلف وتعكس المسكوت عنه، هي أن النظرية العامة للعدوى وإجراءات الحجر الصحي وكيفية التعامل مع الأمراض المعدية هي من إنجازات الطب العربي، التي عرفتها أوربا عن طريق اتصالها بالمراكز العلمية والثقافة العربية عن طريق الطرق الثلاثة التي ذكرناها.
هذه الحقائق أصبح معترفا بها من قبل العديد من مؤرخي الطب المنصفين من الأوربيين. وفي هذا السياق يمكن أن نذكر هنا اثنين من مؤلفي علم الطب العربي، وهما أبو بكر بن زكريا الرازی (899 920/م) الذي ولد بالري بالقرب من أصفهان، وابن سينا (980 – 1037م) الذي ولد ببخاري. ألف الرازي كتابه “الحاوى” في جميع فروع الطب والذي ظهر في ثلاثة وعشرين جزءا. أحد الشواهد على تأثير الرازي في أوربا نجدها في إعادة طبع أعماله المترجمة حوالي أربعين مرة فيما بين عام 1998 وعام 1899. هذا المؤلف يحتوي على أجزاء خصصها الرازي للأمراض المعدية مثل الجرب والسل والجذام، وللرازی کتاب منفصل في صورة رسالة عن الحصبة والجدري، الذي توالت طباعته أيضا مرات عديدة حتى القرن التاسع عشر، وفي مستشفاه التي أسسها على مبادئ التجربة، قسم مرضاه إلى مجموعتين لتجنب انتشار المرض. وقد مكن ذلك من إنشاء الحجر الصحي الذي اعتنقه الغرب بشغف (1)”.
أما كتاب “القانون لاين سينا، فيعد موسوعة لكافة فروع الطب بأجزائه الخمسة، حيث يحتوي على فصول عن الحميات هذه المؤلفات تداولها الأطباء العرب والمسلمون في كافة أرجاء العالم الإسلامي ومنها الأندلس. هذا وقد كان كتابا “الحاوى للرازی والقانون” لابن سينا ضمن مقررات الدراسات الطبية في أوربا حتى القرن التاسع عشر.
> إعداد: سعيد ايت اومزيد