الباحث الأكاديمي حسن المودن

 تنخرط بلادنا على غرار البلدان المتحضرة في الاحتفال بالدخول الثقافي؛ بهذه المناسبة كان لبيان اليوم اتصال بمجموعة من المبدعين والنقاد، من أجل الحديث عن الأعمال الجديدة التي يهيئونها للطبع، وقضايا أخرى ذات صلة بالثقافة بوجه عام.

هذا إصداري الجديد وهذه خصوصياته

في الشهور القليلة القادمة، سيصدر لي بالمغرب كتابٌ في النقد النفسي، عنوانه “السَّــردُ والتخييلُ العائلي، من الرواية العائلية إلى محكي الانتساب العائلي”، من الناحية النظرية، هذا الكتاب محاولة تريد أن تساهم في هذا التحول الذي يعرفه النقد المعاصر الذي عاد لينشغلَ بمسألة مَـنـبـع المحكي ومصدره، وليركزَ اهتمامه على خطاباتٍ سرديةٍ تستعيد الذات، وتسائل وضعها وهُــويتها، وتسائل مرجعياتها وأصولها، وعيــــًا منها بأن الذات ليست كائنـًا مستقلا، وليست كائنـًا من دون محددات، وأن دورَ المحكي هو أن يسائل هذه الذات من خلال العنصر العائلي الذي يؤسِّـسها، ومن خلال الأصول التي تكوِّنها، وأن يكشف كيف تقول هذه الذات هذه الحكاية العائلية، وكيف تحلم فتكسِّـر أو تعيد بناء ما يربطها بهذه الحكاية/ التاريخ histoire / Histoire.
والسؤالُ الأساسُ الذي انطلق منه هذا العمل النقدي هو: هل “العائلة” مجرد موضوعة من موضوعات السرد في مختلف أشكاله وأجناسه أو أن الأمر أكبر من ذلك وفق بعض التصورات النفسانية والنقدية المعاصرة التي ترى في ” العائليِّ ” تلك البنية التي على أساسها يتأسس المحكي، فأصل المحكي وأساسه في التحليل النفسي ليس هو العائلة، بل الحكاية العائلية التي تؤلفها الذات الكاتبة، ويكون موضوعها هو علاقتها بعالمها العائلي، وقد تكون حكاية “واقعية” كما قد تكون متخيلة؟ ومن هنا السؤال الأساسُ: ألا تؤدي الحكاية العائلية دورًا تأسيسيا، فتتقدم كأنها بنية لاشعورية في مختلف محكياتنا ونصوصنا السردية؟
وبالنظر إلى نصوصنا السردية، الدينية والأدبية، نتساءل أهي نصوصٌ تسمح للتحليل النفسي بأن يدعم تصوراته ومفهوماته الراسخة أم أنها تسمح باستيلاد تصورات ومفهوماتٍ جديدة: في هذا العمل النقدي اشتغالٌ بقصة النبي يوسف، كما هي في القرآن، نرمي من خلاله إلى إعادة النظر في عقدة أوديب المركزية في تصورات التحليل النفسي الفرويدي، والأكثر استخداما في قراءة الكثير من الأعمال الأدبية العربية والأجنبية؛ ذلك لأننا نفترض بأن هذه القصة الدينية تسمح بالحديث عن عقدة أخرى قد نسميها عقدة الأخوة أو عقدة يوسف: فالثالوث الذي يجسد صراعا بين العناصر العائلية الأساس لا يتألف هنا من أبٍ وأمٍّ وابن – كما في أسطورة أوديب الممسرحة- بل يتألف من الأبوين ويوسف والإخوة، والصراع ليس بين الأب والابن على موضوع هو الأم، بل الصراع بين يوسف وإخوته حول موضوع هو الأب..وفوق ذلك، يمكن أن نسميها عقدة قابيل، وأن نفترض أن أول جريمة في تاريخ الإنسانية، حسب القصص الديني، هي قتل قابيل لأخيه هابيل، وأن أول عقدة في تاريخ الإنسان هي عقدة الأخوة.. وأن هذه العقدة حاضرة حتى في أسطورة أوديب التي تناولها فرويد بالدرس، وخاصة في جزئيها الثاني والثالث، حيث الاقتتال بين الأخوين / وَلَدَيْ أوديب.. وأن هذه العقدة حاضرة إلى اليوم، وفي الرواية باعتبارها أكبر أجناس السرد في العصور الحديثة: يمكن أن نستحضر رواية من القرن التاسع عشر هي الإخوة كامازوف عند دوستويفسكي؛ ورواية من القرن العشرين هي الإخوة الأعداء عند كازانتزاكي؛ ورواية من الألفية الجديدة هي قايين عند ساراماغو.. وقبل سنتين صدرت رواية عربية بعنوان: السوريون الأعداء لصاحبها فواز حداد.
 بالنظر إلى الأدب السردي العربي، في أجناسه الحديثة والمعاصرة (الرواية، القصة القصيرة، الأوتوبيوغرافيا..)، نتقدم بافتراض مفاده أن السرد العربي قد شهد لحظتين رئيستين:
– لحظة “الرواية العائلية”؛ ولحظة “محكي الانتساب العائلي”. ونفترض أن  لحظة “الرواية العائلية” متعلقة أكثر بالمراحل الأولى للإبداع السردي العربي الحديث، وهي مراحل عرف فيها العرب تجارب تاريخية غير مسبوقة (حملة نابليون بونابرت، الاستعمار، مشاريع النهضة والتحرر والاستقلال، محاولات التفاعل الثقافي والحضاري مع الحضارة الغربية الجديدة..)، والنصوص التي تجسد هذه اللحظة تتميز بهذا الصراع بين عالمين: عالم عائلي أصلي وعالم عائلي جديد، كما تتميز بهذه الذات الساردة / الكاتبة التي تبقى منقسمة في الغالب بين عوالمها العائلية الأصلية (في القرية أو المدينة العربية) وبين العوالم العائلية الجديدة (في المدن الأوروبية الكبرى من مثل باريس ولندن..). ويكفي أن نستحضر هنا نصوصا من مثل: بديعة وفؤاد، زينب، قنديل أم هاشم، عودة الروح، موسم الهجرة إلى الشمال، الحي اللاتيني، في الطفولة، البعيدون.. كي نتصور المجهود الذي تبذله الذات الساردة / الكاتبة من أجل أن تجعل قارئها يستوعب الصعوبات التي يطرحها الانفصال عن العوالم العائلية الأصلية والانتماء إلى هذه العوالم العائلية الجديدة، الغريبة والمجهولة، العجيبة والمدهشة.
–  لحظة ” محكي الانتساب العائلي “، وهي تبدأ، في افتراضنا، انطلاقا من ثمانينيات القرن السابق إلى بدايات الألفية الجديدة، وهي لحظة تتميز بهذا الانتقال  إلى أشكالٍ جديدةٍ في كتابة الحكاية العائلية: لم تعد الذات الساردة / الكاتبة تبحث عن استبدال عالمها العائلي الأصلي بعالم عائلي جديد، ولم يعد الأمر يتعلق بذاتٍ تسعى إلى مواجهة عنصر من عناصر هذا العالم العائلي، ولا بذاتٍ تبقى منقسمة بين هذين العالمين، العربي والغربي، بل نحن أمام ذاتٍ ساردةٍ / كاتبةٍ تتأسس بطريقةٍ مغايرةٍ في محكيات الانتساب العائلي، فهي تطرح مسائل جديدة: مسألة العودة إلى الأصول، والحفر عميقـًا في الماضي العائلي، ومساءلة الذات لإرثها الإشكالي، وإعادة بناء معناها للهوية، والبحث عن الجماعات العائلية الأكثر حميمية، والسؤال عن ما إذا كان ممكنـًا أن يوجدَ الفردُ، وأن يحيى المجتمع الإنساني، وأن تنجح مشروعاته في التقدم والتطور من دون محكياتٍ عائلية، ومن دون إعادة بناء محكياته العائلية، الفردية والجماعية. وبالطبع، لا يمكن لهذا التحول من ” الرواية العائلية ” إلى ” محكي الانتساب العائلي ” أن يجد تفسيره إلا إذا استحضرنا التحولات التي يعرفها العالم العربي، بدءًا من أواخر القرن العشرين إلى بدايات الألفية الثالثة.
بالنظر إلى السرد المغربي الحديث، حاولنا تسجيل بعض الملاحظات والافتراضات والأسئلة.. منها على سبيل التمثيل: ماذا عن محكي اليتيم في السرد المغربي الحديث والمعاصر؟ نفترض، من هذا المنظور، أن الإشكال الذي يؤرق النقاد بخصوص عدم وضوح الانتماء الجنسي للعديد من النصوص السردية المغربية لا يجد تفسيره إلا في علاقةٍ بمحكيِّ اليُتـم الذي يحكمه سؤالٌ أساسٌ هو سؤال الانتساب العائلي: هل من المصادفة أن تكون النصوص الأولى: ” الزاوية “(1942) للتهامي الوزاني، و” في الطفولة “( صدرت، كما تقدم من قبل، أول مرة في حلقات بمجلة رسالة المغرب سنة 1949، وصدرت بعد ذلك في  كتاب) لعبد المجيد بن جلون، محكيات يتامى مسرودة بضمير المتكلم، بحيث يكون اليتيم هو موضوع الكتابة وذاتها في الآن نفسه؟ هل من المصادفة أن تتميز الكتابة بالمغرب بخرقها للحدود بين الأجناس الأدبية ورفضها الانتماء إلى جنس أدبي محدد؟ هل من المصادفة أن تكون بعض النصوص التجريبية الأولى( على سبيل التمثيل: لعبة النسيان(1987) لمحمد برادة، أوراق(1989) عبد الله العروي) محكيات يتامى يصعب تحديد انتمائها إلى جنسٍ معيَّن؟ ألا يعني ذلك أن الكتابة، في معناها الحداثي، تأتي مقرونة باليُـتم، وأن الحداثة، أصلا، لا تحملها، على حدِّ تعبير دانيلو مارتيكولي، إلا محكيات اليتم والفقدان؟ هل بإمكان محكياتٍ تتطلع إلى الحداثة لكنها في الوقت نفسه مسكونة بقلق الأصل إلا أن تكون منفلتة من ذلك الانتساب الواضح إلى  جنسٍ من الأجناس الأدبية، السردية بالأخص؟ ألا ترتبط الكتابة، أصلا، بمسألة اليتم والفقدان؟
هذه بعض الأسئلة والافتراضات التي ينطلق منها هذا العمل النقدي التطبيقي الذي يشتغل بنصوص سردية دينية ونصوص سردية أدبية مع استحضار نصوص سردية أسطورية، ويشتغل بنصوص سردية مغربية ومشرقية، رجالية ونسائية، مع الأخذ بعين الاعتبار ما يلزم من الاحتراس والانتباه إلى الخصوصيات والاختلافات.

  الحاجة إلى خطاب ثقافي جديد  

لا شك في أن هناك اليوم ضرورة ملحاحة إلى بناء خطابٍ ثقافي جديد قادر على إيجاد حلول للقضايا والمعضلات التي تطرح نفسها في بلدنا كما في البلدان العربية.

مَهَمَّتان كبريتان مستعجلتان

أفترض أن مَهَمَّتين كبريين مستعجلتين ينبغي للخطاب الثقافي الجديد أن يشتغل بهما، نظريا وعمليا: المهمة الأولى هي أن يعمل هذا الخطاب الثقافي على أن يحل  التفكير الحواري محل التفكير العقَدي. فمن الضروري اليوم أن نتساءل: هل نعتبر التفكيرَ العقدي من أبرز الأسباب التي تقف اليوم وراء الصراعات العنيفة التي يشهدها اليوم عالَـم الإنسان، وعالَـم العرب، وعالَـم المغاربة؟ لا أقصد بالتفكير العقدي التفكير الديني، قد يشمل التفكيرُ العقديُّ أنواعا من التفكير الديني لا كلَّــه، لكن التفكير العقدي لا ينحصر في ذلك؛ ذلك لأن كل تفكير ينطلق من أن الذات أفضل من الآخر، كل تفكير ينطلق من التمييز والأفضلية، من التفرقة والعنصرية، من التعصب والأصولية، هو تفكير عقدي يقوم على الإقصاء والإبعاد، ويؤدي إلى الصدام والمواجهة.  ويبدو أن هذا التفكير العقدي هو في تصاعد اليوم، سواء بالنظر إلى ما يحدث في العالم الإنساني جميعه، أو بالنظر إلى ما يحدث في المنطقة العربية، أو بالنظر إلى التحولات التي يشهدها بلدنا: كل طرف من الأطراف المتنازعة، على المستوى السياسي والإيديولوجي، على المستوى الثقافي والاجتماعي، على المستوى الفكري والديني، يعتقد أنه وحده من يملك الحقيقة، ولا أحد غيره يملكها..  ولا يخفى أن هذا النوع من التفكير ظاهرة نفسية تحتاج، كما وضح المحلل النفسي مصطفى صفوان، إلى تحليلٍ نفسيٍّ، لأنه يُـشكِّل في حدِّ ذاته حقيقة (نفسية) تحتاج إلى الدراسة كما تحتاج إلى العلاج، وخطورة ذالك النوع من التفكير في أنه لا يعني شيئا آخر غير إسكات الحقيقة، لأن الحقيقة، كما قال المفكر الروسي ميخائيل باختين، لا تكون مع الواحد، بل إنها لا تكون إلا بين طرفين أو أكثر، وهو ما يعني أن الحوار بين الأطراف هو الذي يؤسس الحقيقة أو يُقربنا منها، على الأقل.  

لا بد من العودة إلى التاريخ

هنا لابد من توضيحات: أولها أن مقاومة التفكير العقدي لا تعني أن نقاوم التفكير الديني، فمن الواضح اليوم أن القرن الجديد هو قرن الدين بامتياز. والكلام الذي وصلنا عن ماركس باعتبار الدين أفيون الشعوب، أو الذي وصلنا عن فرويد باعتبار الدين وهما أو استيهاما، لابد من إعادة النظر فيه، خاصة وأن المحللين النفسانيين المعاصرين يقرون بأنه لا يمكن لأي مجتمع أن يعيش من دون الإشارة إلى السماء. فالمشكلة ليست في الدين ونصوصه التأسيسية، فالقرآن الكريم يدعو إلى المجادلة بالتي هي أحسن والغلبة بالحجة والبرهان، بل المشكلة في من يعتقد أنه وحده يمتلك حقيقة السماء، ويدعي أنه هو الحقيقة، وهذا الإدعاء هو أساس المشكل.. وخاصة عندما يريد هذا الادعاء أن يجعل من التفكير الديني، كما يتصوره، التفكير الواحد والوحيد الذي يهيمن على كل أنواع التفكير الأخرى في إقصاء غير مبرر وخطيرٍ لكل أنواع التفكير الأخرى (التفكير العلمي، التفكير الفلسفي، التفكير الأدبي والفني..)، وهنا لابد من العودة إلى التاريخ، ولابد من إعادة الاعتبار لتلك التجارب المشرقة في تاريخنا التي تَشهد على نهضة دينية وفكرية واسعة وجريئة، ولتلك الرموز الثقافية، الدينية والفكرية والأدبية والفنية، التي عرفت كيف تضيء أمام مجتمعاتها طريق الحوار والتفاهم والتعاون بدل طريق الصدام والعنف، وإعادة الاعتبار تلك لابد أن تجد طريقها إلى برامج مؤسساتنا الثقافية والتربوية والإعلامية والسوسيوثقافية، فهي التجارب والرموز التي تفتح القلوب والعيون والآذان من أجل تجديد العلاقات الإنسانية. والتوضيح الثاني مفاده أن مقاومة التفكير العقدي تعني أن نعيد النظر في بعض أفكارنا ومسلماتنا التي تحولت في نفوسنا وأذهاننا إلى عقائد من دون أن نعرف كيف نحوِّلها إلى وقائع وحقائق. وعندما يتعلق بالبلدان العربية في مجموعها، فإن من بين هذه الأفكار فكرة الوحدة مثلا؛ فبين يوم وليلة، بدا أن هذه الوحدة العربية هشة قابلة للانهيار سريعــًا، وبدا أن هناك هوياتٍ، دينية، ثقافية، إثنية، لغوية، وهي صامتة مقموعة، قد لا تجد من وسيلةٍ من أجل إسماع صوتها غير العنف في غياب الحق في الوجود والحرية والعدالة واحترام الاختلاف.. وقبل التسعينيات من القرن السابق، كان التعايش بين مكونات البلدان العربية، يعني أن نعيش جنبا إلى جنب، ونحترم بعضنا عن بعد، ويتجاهل بعضنا البعض، كل واحدٍ في حدوده الخاصة.. وهذا نوعٌ من التسامح السلبيِّ لم يعد كافيا، ولابد له أن يتحول إلى تعارفٍ حقيقيٍّ، إلى تفاهم متبادلٍ، إلى وحدةٍ تتأسس على التعدد واحترام الاختلاف، إلى تعاونٍ جماعيٍّ مشتركٍ يحفظ الخصوصيات والحقوق السياسية واللغوية والثقافية والدينية لجميع المكونات، إلى اقتناع جماعيٍّ بأن الهُــوية هي بالضرورة طبقات من الهويات المتعددة والمتنوعة، تنمو وتتعايش وتتضافر وتتعاون وتتطور من أجل إغناء الوحدة الوطنية أو القومية وتمكينها من أسباب التجدد والبقاء… ومن أجل ذلك كله، يبدو من الضروريِّ أن نعيد الاعتبار لتلك التفاعلات الثقافية التي شهدها تاريخنا أو تاريخ الإنسانية، حتى نتجنب ذلك المصير المأساويَّ الذي تقود إليه الهُــوياتُ المتقاتلة( على حد تعبير أمين معلوف، 1999) التي يبدو أنها هي جوهر الصراع اليوم أو أريد لها أن تكون كذلك.   أفترضُ أن المهـمة الثانية الضرورية لكل خطاب ثقافي جديد هي الانتقال إلى الاهتمام بالأسئلة العملية التي تطرحها مجتمعاتنا. فالخطاب الثقافي العربي يبدو كأنه على الهامش أو أريد له أن يكون كذلك، كأن لا علاقة له بالتحولات الخطيرة التي تشهدها البلدان العربية، لا يفكر في تجديد تفاعله مع مجتمعاته.. مجتمعاتنا اليوم تطرح أسئلة عملية عديدة ذات طابع إشكالي( من أهمها أو أكثرها حضورًا في الوقت الراهن، ومن دون ترتيب: مسألة الديمقراطية، مسألة الدين والسياسة، مسألة القوانين الوضعية والتشريعات الدينية، مسألة العدالة الاجتماعية، مسألة العنف والتطرف، مسألة التربية والتعليم، مسألة القيم، مسألة البطالة والتشغيل، مسألة التقاعد، مسألة الإرث، مسألة التوظيف، مسألة الحريات الفردية، مسألة الحقوق اللغوية والثقافية،.. )، وتتطلب حلولا عملية، ما يجعل الثقافة اليوم مسألة مستعجلة، ولابد لكل المؤسسات، والسياسية بالأخص، أن تستوعب أن الثقافة وحدها يمكن أن تُـجنِّـب بلداننا مزيدًا من الصدامات.. فالأمر يتعلق بأسئلة عملية لا يتدخل فيها الخطاب الثقافي بالشكل المطلوب، أي بالسهر على أن يتشكل حوارٌ موسَّعٌ بين جميع الأطراف المعنية، وأن يتمَّ إسماعُ كلِّ ألأسئلة والأجوبة المحتملة، وأن يعمل على خلق شروط التحاجج والتفاهم بين الأطروحات المتعارضة من أجل الوصول إلى أفضل الحلول التي تُجنِّب بلداننا مصير تلك الصدامات العنيفة التي تكون عواقبها وخيمة.

من أجل نشر ثقافة الحوار والحجاج والإقناع

بالنظر إلى واقع خطابنا الثقافي، ولكي يكون بإمكانه أن يؤدي هاتين المهمتين. لابد، في نظري، من شرطين أساسين: من جهة أولى، ومن أجل نشر ثقافة الحوار والحجاج والإقناع داخل المجتمعات والبلدان، لابد للخطاب الثقافي الجديد أن يعيد النظر في دوره وفاعليته: بالنظر إلى هذه الانقسامات والصدامات التي تعرفها مجتمعاتنا وبلداننا، لابد للخطاب الثقافي من أن ينتقل من دور المحامي الذي يدافع عن ثقافةٍ معينةٍ أو إيديولوجية محددة، أو خطابٍ فكريٍّ أو دينيٍّ معينٍ، أو طبقةٍ اجتماعية معينة، أو خطابٍ سياسيٍّ معين..أن ينتقل إلى دور القاضي الذي يتدخل بين الأطراف المتنازعة، بين الجماعات المتحاربة، بين الخطابات المتعارضة، بين الهويات المتصارعة، من أجل إيجاد الحلول المعقولة والمقبولة، بالشكل الذي يُـحوِّل الخطابَ الثقافيَّ إلى خطابٍ حريصٍ على أن يكون الصراعُ صراعا سلميا، حارسا للوحدة التي لا تقتل التعددية، للحوار الذي لا يُلغي الاختلاف، للمصير الذي يضمن حقوق الأفراد والجماعات..فلا سلام من دون خطابٍ ثقافيٍّ قويٍّ قادرٍ على نشر ثقافة الحوار والحجاج، نظريا وعمليا.. وبالتأكيد، فهي ثقافةٌ لا يُمكن أن تُــبنَى من فراغ، وبين عشية وضحاها، بل من الضروري أن نعود إلى ورش التربية والتكوين، وأن نمنح دورًا أكبر لعلوم الخطابة والإقناع التي تضرب عميقا في التاريخ الإنساني، وأن ننفتح على علوم الخطاب والحجاج التي عرفت ازدهارًا ملحوظا في البلدان الغربية منذ أواسط القرن السابق، أي بعد الحربين العالميتين.. ولابد لهذه العلوم اللغوية والبلاغية والحجاجية أن تعرف طريقها إلى مختلف المؤسسات الجامعية، وفي مختلف التخصصات، الأدبية والعلمية والقانونية( وهنا لابد من التخلص من تلك التقسيمات المدرسية الجامدة: أدبي / علمي / تقني، فالتخصص ضروريٌّ لكن التوسع والانفتاح أساسٌ أيضا: ماذا عن علوم الحجاج والإقناع في كليات القانون والحقوق؟ ماذا عن العلوم الإنسانية، الفلسفية والاجتماعية والنفسية والأنتروبولوجية في كليات العلوم والتقنيات؟ ماذا عن أدب الخيال العلمي في كليات العلوم؟ ماذا عن الأدب الرقمي والافتراضي في كليات التقنيات؟ ماذا عن التفكير الرياضي والفيزيائي في كليات الآداب والعلوم الإنسانية؟…). إجمالا، لابد للمؤسسات التعليمية والتربوية، الثقافية والإعلامية، من أن تعمل على تربية المواطنين، صغارًا وكبارًا، على الحوار والإقناع، على التفاهم والتعاون.. ولابد من إصلاح تصوراتنا ومشاريعنا في التربية والتعليم بشكلٍ لا يقع به التركيز على المهارات الإجرائية والكفايات التقنية، فمجتمعاتنا لا تحتاج إلى التقنيين الأكفاء في مجالات تخصصهم العلمي والتقني فحسب، بل نحن بحاجة إلى تربية مواطن يكتسب العلوم والتقنيات الجديدة قدر ما يكتسب من القيم الوطنية والإنسانية، ومن المعارف الإنسانية الفلسفية والاجتماعية، ومن المهارات اللغوية والكفايات الخِــطابية، ومن الرصيد الأدبي والفني، ما يؤهله ليكون مواطنا مدنيا صالحا ينزع نحو السلم والحوار، ويحترم الآخرين في اختلافهم، ويميل نحو التفاهم والتشارك والتعاون بما يحفظ حقوق الأفراد والجماعات ومصالحهم كافة.
 ختاما، لابد من خطاب ثقافي يُـحرض على الحياة لا الموت، على الحوار لا الصدام، على التحاب (بعبارة المفكر المغربي عبد الكبير الخطيبي) لا على العنف والكراهية.

 إعداد: عبد العالي بركات

Related posts

Top