البنية السردية واللغوية في مجموعة “ضحك كالبكاء”للمبدعة مريم لحلو

تقدم “لوحاتٌ ساخرة” للمبدعة مريم لحلو صورا لواقع بئيس أولا ومضحك ثانيا، غير أنه تم إعطاء الضحك قوة الحضور لتحويل النظر إليه قبل الانتقال إلى جانب البكاء.     قديما عبر الشاعر العربي المتنبي عن هذا الموقف من خلال قوله:”وماذا بمصرَ من الـمُضحكاتولكنه ضحكٌ كالبكا”
ردا على سوء تصرف كافور معه، واليوم تُنْبئنا مريم لحلو أن ببلدنا تفاؤلا ممزوجا باليأس، وحبا قرينا بالأسى، وسوءا دفينا بمراتع الأمل. مجردُ الملاحظة في عتبة العنوان وتجنيس النص، يوقفنا أمام لحظة تسخير الكلمة في سبيل هدف معين.     من هنا يمكن الوقوف عند ثلاث محطات: -البينة السردية في المجموعة القصصة، بتتبع بعض خصوصية الإبداع لدى مريم لحلو واستنتاج أهم مراحل. الحبكة الحكائية     -البحث في اللغة بين الفصحى والعامية.  
-تقديم ورقة حول النص الأخير في (ضحك كالبكاء).  

1-البنية السردية والبحث
 عن الانسجام بين النصوص:   
 
  تستهل القاصة مريم لحلو مجموعتها بإهداء: “إلى شرفاء هذه الأمة”، وهو دليل على أن الضحك الذي اعتمده كان موجها لإعادة الاعتبار إلى بعض شرفاء المغرب، ونخص هنا بالذكر البرلماني، المفتش التربوي، المدير التربوي، المدرس، الطبيب، الشرطي، الفاكانسي، القاضي، الكَاوْري، الموظف، (الصحفي، المبدع، المخرج السينيمائي.. في قصة “طريق الشهرة السيار”). فلو عدنا إلى تشكيلة هؤلاء الشرفاء الأحد عشر؛ لوجدنا القاصة تخصصها لوظائف تُزاوَل في مجتمعنا، غير أنها تُضَمِّنُها شخصيتين ذات وقع بارز هما: رجل الجالية المغربية بالخارج، ولاعب الكرة باعتبارهما يحملان رمزَ الشهرة أولا والثراءَ المالي المكتَسَبِ بوتيرة سريعة ودون جهد كبير (كما هو شائع لدى الأوساط الاجتماعية) ثانيا. أما الخلاصة فقد جعلتها المبدعة أيقونا عاما لكل باحث عن السلطة والشهرة، لذلك اختارتِ للنص الأخير عنوان (طريق الشهرة السيار).
إذن هي رؤية موضوعية ساخرة لمجموعة من القطاعات الوظيفية في المغرب، من خلال تحليل واقع أُطرها العاملة، ويظهر أن مريم لحلو عارفةٌ بمكامن الخلل الوظيفي وأسرارِ الشخصيات، لذلك تمارس لعبة الضحك والسخرية لتمرير رسائلَ اجتماعيةٍ وأخلاقية، وتحاول الوصول إلى درجة شرف المهنة كما وصَفَتْه في الإهداء.     هذا من حيث الموضوعُ، إذا انتقلنا إلى الجانب الفني سنَلحظ أنها تَمزِج بين الخطاب المباشر والرمزية المُقَنَّعة. ثم إنها تعتمد خطةً موحدة في كل نصوصها تقريبا2، وهي من ثمة تستثمر حِبكةً سردية خاصة بها.    أولا: تبدأ مريم لحلو لعبة السخرية ببنية العنوان الموحد: “ذات…”، كأن نقول: ذات يوم، أي حدث وقع في يوم ما، أما ذات… برلماني، أو ذات… شرطي أو غيرهما، فتعبير عن عينة واحدة من بين كلٍّ: كأن نُخَصِّصَه بـ: قصة برلماني أو ما يحدث للبرلماني..
ثانيا: تستهل القاصة كل نص بلفظ الحلمأحلم أن أكون برلمانيا3لدي اليوم حلمٌ وحيد4اعْتَدْتُ على الحلم5هذه المرة أحلم أن أصبح..6لدي حلم آخر هذه المرة7لدي حلم جديد8الحقيقة أن هذا الحلم يراودني9إنه حلم لا كالأحلام10أحلم هذه المرة أن..11    فنلاحظ أن تيمة الحلم حاضرةٌ باستمرار بصيغ تعبيرية مختلفة، وهذا دليل على وعي الكاتبة بطريقة كتابتها للنصوص، وأنها تستحضر عقلها لنسج خيوط حكاياتِها، وإلا ما جاءَتْ بِبِنْية موحَّدَة في العنوان وبداية كل نص.
لكن الحلم يصبح واقعا مريرا حين تجمع مريم لحلو شتاتَ بعضِ هذه المهن في لفظ الموظف عامة في نصها (ذات.. موظف)12، إذ تقدمه بما يلي:كعادته استيقظ فجرا، صلى صلاته وجلس يقرأ ما تيسر من القرآن الكريم..    أو في النص الأخير الجامع المانع بعنوان: (طريق الشهرة السيار)13 حيث تستهله بـ:إذا كنت من الذين تستهويهِمُ الشهرةُ فسهل جدا أن تصبح مشهورا هذه الأيام..
فنجد أن القاصة انتقلت إلى واقع حقيقي حين عبرت عن الحقائق المرة بدلالات عامة (الموظف- الشهرة)، فنعتبرها خلاصة للعمل القصصي عامة.
ثالثا: استحضار ميزة كل وظيفة بتتبعها من خلال نظرة الواقع المجتمعي المغربي، والصورة التي يطبعها الإنسان العادي حين يحلم بوظيفة ما.    نقدم عينة من الحلم الأول:  أحلم أن أكون برلمانيا.. لأتخلص من صخب الأمواج العاتيات وأعانقَ “بر.. لمان”14 الدافئَ، أُوَدِّعُ عهد “التشماش”، وأجواء البوليميك الخاوي..     فتسرد لحلو بعض سبل الانتهازية للوصول إلى المقعد البرلماني. ونسجل هنا أنها تخصص هذه القصة وحدَها بتتبع البرلماني منذ بدء معركته داخل المجتمع لبناء ذاته وتكوين صورته لدى أفراده، فيصيرَ في نظرهم المنقذَ من حالة الضياع والمدافِعَ عن حقوقهم، ومن ثمة اعتبارُه صوتَهم الذي ينوبُ عنهم داخل قبة البرلمان. لذلك فالشاعرة تستغل بداية النص لوصف حالة البرلماني قبل نجاحه في الانتخابات وبعدها؛ لتضعَنا أمام صورة لواقع مضحكٍ ظاهريا لكنه بئيس جوهريا كونه يفشي أسرارا تتغاضى عنها الأعين والألسن، وتبقى حبيسة الضمائر الحية التي تتألم لها وتهيج نفوسُها لذكرها.
رابعا: اعتماد صيغة التعجب في بعض القصص مباشرة بعد عبارة الحلم، كأن تقول مثلا:يا له من حلمٍ لذيذ بمعنى اليقظة!15 أليس حلما جميلا؟16يا لجَمال البِذلةِ البيضاءِ وهي تغطي ما تراكم من شحم حول جسمي..17يا لزهوي بالبزة الرسمية18أليس حلما في مستوى المرحلة؟19يا لفرحتي وأنا أخرج على قومي في كامل زينتي..20
فالملاحظ أن التعجب يقترن بالاستفهام عن الحالة الجديدة، فيكون التعبير خاصا بمرحلة جديدة تتجسد فيها رؤية المبدعة لمستقبل يزدهي فيه المرء بحقيقة الحلم الذي يشغل باله. ومن هنا نستطيع التنبؤ بالهدف المسطر سلفا، إذ تخطط الكاتبة لبنية حكايتها بحيث تبدأ بلفظ الحلم، الذي تتلوه قوةُ الحاضر الذي يعيشه المستهدف من الحلم، بمعنى أنها تُسَطِّرُ بعضا من حياة الوظيفة أو الشخصية الحالمة، ودائما منطلقها رؤية اجتماعية لها وحقيقة نعيشها يوميا دون أن نراعي لها اهتماما، أو قد تصبح أمرا مقبولا لا يستدعي التفكير فيه. وبعد هذه المرحلة تشخص الحالة بذكر المميزات والميزات والامتيازات التي تخولها الوظيفة.  

2- اللغة في المجموعة
 بين العام والخاص  
 
وأثناء تفاصيل الحكي تستغل لحلو طابع السخرية الذي يعد سمة أساسية في بناء الحكي لديها، فتنهج الجمع بين اللغة العربية الفصيحة واللهجة العامية، وهنا لا بد من الإشارة إلى أنها تستخدم لهجةً عامة، وبالتالي قد لا يستعصي فهمُها في جهات أخرى من المغرب، لأن المعروف عنها أن لديها قوةً كبيرة في استحضار الألفاظ الوجدية التي طواها الزمن، ولا يدركها الجيل الجديد ولا يمكن أن يستوعبها إلا القاطنُ بوجدة أو المعمِّرُ بها. كما أن لديها قصصا قصيرة وأعمالا روائية تخصصها لعادات وتقاليد الجهة الشرقية، لا يمكن الحفاظ عليها من الضياع إلا بتوثيقها إما توثيقا علميا صريحا أو تقريبها للمتلقي المتخصص في مجال السرد.
إذا عدنا إلى “ضحك كالبكاء”، نسجل حضور لغة واضحة المعالم ولا يتطلب فهمها أكثرَ تمعنا أو تفكيرا كبيرين، وهذا الأمر يجعل الدلالة والموضوع بارزين ومباشرين لا تتوخى الكاتبة من خلالهما إلى توصيل فكرة للمتلقي بأبسط السبل وأقرب الطرق. لذلك ترتبط مهمة التلقي في هذه النصوص بالتأمل، ومحاولةِ إعادة قراءة النص بصيغة مضادة، بحيث ننطلق من الإثبات إلى النفي، فنقف مقامَ التعبير عن رفضٍ لهذا الواقع، ومحاولةِ تصحيحه وتبصرِ نتائجه الوخيمة على الفرد والمجتمع.
وهنا أيضا نصل إلى المحور الثاني أو الشق الأساس في عملية التلقي وهو تحقق أفق التوقع باستحضار الفكر وتمثل فعل (البكاء)، أي البكاء والتحسر على واقع أليم ساقته أرجلٌ نِيَّتُها السيطرةُ على دواليب المجتمع ومحركاتِه، ومحاولةُ الوصول إلى مركز القرارات السياسية والتربوية والتنظيمية والاجتماعية والقضائية والإعلامية وغيرها بانتهاز رقابٍ شريفة ومن ثمة تلويثُ مهنٍ كان يُنْظَرُ إليها نظرةَ الاعتزاز والفخر وبروح مسؤولة وضمير حي.     وتحاول لحلو أن تكون أكثر وضوحا، فلا تترك أي التباس أمام القارئ العادي. فتوجهه إلى قصد محدد في كثير من الأحيان. ونؤكد هنا قصدية المبدع الذي ينطلق من تخطيط مُسْبَقٍ فيهدف إلى نتيجةً محددة أيضا.
ونستدل في هذا المجال ببعض مقاطع النصوص القصصية، فنجد الشاعرة تورد توضيحاتٍ بشأن أحكامَ تقررها في شأن شخصياتها والوظائفِ التي يزاولونها:    تقول في معرض حلمٍ بوظيفة التدريس: “إذاً لا بد من تكليف لجنة الحفلات بجمع التبرعات التي لا تَقِلُّ عن خمسة دراهمَ للرأس، عفوا للفرد.”21 ولا تنسَ الضربَ على الوتر الحساس بمسِّ أهم قضايانا العربيةِ والإسلامية واستغلالِها أبشعَ، عفوا أحسنَ استغلال.”22ما عليكَ إلا بشراء دراجة نارية لتنتقلَ بين المنازل والربوعِ كفراشة تمتص الدماء، عفوا الرحيق من كل مكان.”23    نسجل هنا ملاحظتين:    أولهما: أن هذه التقنية خصتها لنص بعينه وهو: (ذات.. مدرس)، وأظن أن الأمر متعلق برؤية شخصيةٍ لوظيفة التعليم بما أن المبدعة تمارسها، ومن ثمة تختار أن تعبر عن رأي بنوع من التحفظ، لأنه واقع تتمنى نفسُها أن تتجاوَزَه وأن تُعْدَمَ هذه الوضعية البئيسة التي شوهت مهنة التربية.
ثانيهما: ربما لو تفادت القاصة هذا التفسير لتركت الحكم واسعا ومفتوحا، ولكن تحديدَها جعل القارئَ يختار ما قصدته دون تفكير في تأويلات أخرى، وإن كان أيضا اللفظ واضحا لا يحتاج إلى تفسير كما في قولها: (خمسة دراهم للرأس) الذي يتعلق في الواقع برؤوس الأغنام أو الماشية عامة، وكأنها تجعل التلميذ في مثل هذه الوضعية لا يقِلُّ قيمة عن فريسة تُحتَسَبُ بما يكسَبُ ماديا من ورائها.
عينة التحليل والبحث:3    نقف أخيرا عند النص العينة، الذي جعلته مريم لحلو خلاصةً ذاتَ أبعاد متعددة. ونقصد هنا قصة (طريق الشهرة السيار).
حين نتأمل العنوان نجده -كما أسلفنا الذكر- مختلفا عن باقي العناوين التي تتخذ صيغة موحدة. لذلك تحاول أن تقدم اختبارا لما توصلت إليه من نتائج عامة، فتحلل الواقع وَفق تصور تُسَيِّجُه بِنيةُ السخرية والتهكم. فتغير القاصة لفظَ الحلم، وتختار أن تنتقل إلى محاورة القارئ مباشرة: إذا كنت من الذين تستهويهم الشهرة فسهل جدا24    فتبعد تفكيرَ المتلقي عن تأمل وظائفَ وطرقٍ لا توصِلُ إلى الشهرة، كأن يكون شاعرا مُتْقِناً شعرَه، أو فنانا مسؤولا ومبدعا ذا ضمير حي؛ بل السبيل السريع للوصول إلى مركز يشارُ إليه بالبَنان هو التملص من المبادئ والأخلاق والابتعادُ عن كل عقيدة صحيحة تؤثث الذاتَ السليمة والشخصية السوية. إنها إذاً دعوة إلى تأمل واقع يؤثث فضاءَه أفرادٌ ينتهزون نقَطَ ضَعفِ المجتمع، ليصلوا إلى مراكزَ يتحكمون من خلالها في محركات الشعوب ويمتصون عرقَهم دون اعتبار للقيم الدينية والاجتماعية المفترضة.
كما أن المبدعة تحلل واقع الإبداع، فتسلِّمُ أن بداية الشهرة والنجومية هو الابتعاد عن أصول اللغة الفصحى والاقتراب أكثر من الكتابة بالعامية ومن القضايا الحميمية التي ترمي تقويض الدينَ والثوابتَ والمقدساتِ. تقول: “أما إذا كنتَ ممن يستطيعون تركيب جملٍ مفيدة أو غير مفيدة، لا تنسَ أن لديك اختيارَ الكتابة العامية، فما عليكَ إلا بمغازلةِ العجم بالاستهتار بكل الفضائل والثوابت وافتعال ملفات ساخنة مدارها السخريةُ منَ الدين فهو الحائطُ القصيرُ الذي يسهل النَّطُّ من فوقه إلى النجوم. أما الجنسُ والسياسة فقد أصبحا موضةً قديمة يَكْتُبُ فيها كلُّ من هبَّ وَدَبَّ.”25
وتستمر القاصة بعرض تفصيل الطرق السهلة والسريعة للشهرة، كالمدافع عن القضايا الشائبة،  والمبدعةِ التي تُسَخِّر مفاتنَها لتصبح أشعر من الأعشى والخنساء وحسان: “يكفي ن تبعثري بعض الكلمات على الورق الأبيض فتصبحين أشعرَ من الأعشى والخنساء حسانَ.”26    لكن يبدأ التحفظ على الشهرة المكتسبة بسبل غير شعرية، فتحاول لحلو مريم أن تضع المتلقي في مفارقات غريبة، لا يحتاج فيها إلى كثير من التفكير إذا تبصَّرَ واقعه، وإلا سيسقط على رأسه كما ذكرت، أو يذوبُ كما تذوب الشهرة سريعةُ الذوبان، لذلك فيكون الحل النهائي في (البندير) الذي يجب أن يظل ساخنا27 وإلا سيكون البكاءُ والندم.
إذاً هو بكاءُ من يعرضُ نفسَه للذل للوصول إلى مدارج الشهرة، لكنه أيضا ضحك كالبكاء، لأن الواقع بما يحمل من تداعيات موضوعية وذاتية بئيسة ولحظاتٍ حزينة تضيع معها الدموع الجافة، وتتسلل إلى النفس مشاعر الحزن والكآبة؛ فهذا الواقع يدفعنا إلى التحسر والتودد إلى عقود المبادئ والعادات والانفتاح على القيم الدينية والأخلاقية، لذلك اختارت مريم لحلو سبيل السخرية من هذه النماذج البشرية، ومحاولةَ النبش في أسرارها التي تبقى معلومة لدى الكل، لكن ينظر إليها ِبطرَفِ العين رغبة في عدم تأملها والبكاء عليها.

هوامش

1- مريم لحلو أم بثينة: ضحك كالبكاء، (لوحات ساخرة)، مطبعة الجسور، وجدة، ط. 1، 2013  2- نلاحظ أن هذه المهج يتغير في النص الأخير خاصة 3- مريم لحلو: ضحك كالبكاء، ص. 17 4- المصدر نفسه، ص. 25  5- نفسه، ص. 30  6- نفسه، ص. 35  7- نفسه، ص. 44.  8- نفسه، ص. 52  9- نفسه، ص. 57  10- نفسه، ص. 64 11- نفسه، ص. 69  12- المصدر نفسه، ص. 74 13- نفسه، ص. 80 14- أي بر الأمان..  15- نفسه، ص. 30 16- نفسه، ص. 35 17- نفسه، ص. 44  18- نفسه، ص. 52.18  19- نفسه، ص. 64.19  20- نفسه، ص. 69.20  21- المصدر نفسه، ص. 40.21  22- نفسه، ص. 40.22  23- نفسه، ص. 42.23  24- المصدر نفسه، ص. 80.24  25- نفسه، ص. 81- 82 26- نفسه، ص. 83.  27- نفسه، ص.86

بقلم: محمد دخيسي 

Related posts

Top