التدبير الاستباقي والتدبير التأجيلي

ثمة مقاربتان في التدبير الحكومي للشأن العام، مقاربة استباقية بناء على دراسات وتحليلات وتوقعات، ومقاربة “تأجيلية” إن صح التعبير مبنية على تدبير الحاضر دون توقع المآلات المستقبلية للقضايا المطروحة، أي تأجيل تدبير هذه المآلات إلى حين وقوعها (قريب من التعبير الشعبي حتى يزيد ونسميوه بوزيد).

ففي المجال الفلاحي مثلا يعتمد التدبير الاستباقي على احتمالات الجفاف في السنة أو السنوات المقبلة ويتم تهيئ الإجراءات والآليات التي تمكن من مواجهة الجفاف إن حصل، بينما التدبير التأجيلي ينتظر حصول الجفاف فعلا لمواجهة انعكاساته وبلورة إجراءات على عجل ودون ما يكفي من زمن لتكون هذه الإجراءات فعالة ومجدية.

في الشهور الماضية، عشنا نموذجا للتدبير التأجيلي لمشكلة كبيرة ولها تأثير على كل الأسر المغربية وهو الاحتقان الشديد في مجال التعليم، كانت هناك مبادرات من أطراف فاعلين في هذا الحقل لتدبير استباقي لما سيؤول إليه الوضع في الساحة التعليمية ومعالجة المطالب المشروعة لأسرة التعليم.

الحكومة في مقاربتها التأجيلية أصمت آذانها ولم تتفاعل بالجدية اللازمة مع مطالب الأسرة التعليمية وتركت الاحتقان يتواصل دون أي مبادرة جدية للحد منه، أي أنها أجلت الحل إلى أن يصل الاحتقان إلى درجة الانفجار. وما حدث أن المتمدرسين والمتمدرسات أضاعوا شهورا من التحصيل الدراسي لا يمكن تعويضها، وهو ضياع مهول بالنظر لانعكاساته السلبية على مستوى ودرجة التكوين.

ماذا كان مبرر الحكومة لرفض كل الحلول المقترحة لإنهاء الاحتقان؟ الإمكانيات المالية للدولة لا تسمح بالرفع من أجور وتعويضات  الأسرة التعليمية. ثم عندما وصل الاحتقان إلى مداه توفرت الأموال لتلبية المطالب المادية، بل إن التكلفة المالية أصبحت أعلى بكثير من التكلفة التي كان يتطلبها التدبير الاستباقي.

اليوم يطرح إشكال مشابه في قطاع الصحة ولم تأخذ الحكومة أي درس مما حدث في التعليم وما تسبب فيه تدبيرها التأجيلي من ضياع شهور من التكوين للتلاميذ.

المشكل في قطاع الصحة اتخذ مسارا أخطر، فقد تم توقيع اتفاق رسمي بين القطاع الحكومي ونقابات القطاع بتوافق ينهي الاحتقان فورا ومنذ بداية السنة الجارية، كان ذلك نموذجا جيدا للتفاعل الإيجابي بين مكونات القطاع، كل مكوناته. والذي حدث أن الحكومة تملصت بكل بساطة من التزاماتها ومما وقعته مع النقابات وذلك بتجاهل الاتفاق كأنه لم يكن ولم يبذل جهدا كبيرا سواء من طرف الوزارة أو من طرف نقابات القطاع للوصول إليه.

ماذا يعني ذلك؟

يعني أولا طعنا علنيا في مصداقية وزير الصحة.

ويعني ثانيا نزع المصداقية والثقة في النقابات من طرف موظفات وموظفي القطاع، ومن ثمة الثقة في العمل النقابي وكل عمل منظم ومسؤول.

فهل تدرك الحكومة مخاطر ذلك وما يمكن أن يؤدي إليه مستقبلا من أشكال احتجاج بدون تأطير ولا أفق واضح.

لقد حدث مثل هذا السلوك في التعليم وكان الثمن باهظا على مستوى التكوين من جهة وخزينة الدولة من جهة أخرى.

علينا أن نتساءل هل الحكومة تسعى من خلال هذه السلوكات المتخبطة إلى تبخيس العمل النقابي وكل عمل منظم ومسؤول؟

وحتى في المجال السياسي فتصور التبخيس حاضر كذلك من خلال الرغبة في حصر العمل السياسي في البرلمان، بل حتى في هذا الأخير اعتبر رئيس الحكومة أن رأي نواب الأمة لا يهمه!!!

ماذا يهم إذن، لا رأي النقابات ولا رأي الأحزاب ولا رأي ممثلي الأمة؟

إلى أين أيها السيدات والسادة في هذه الحكومة العجيبة، تسيرون بالمغرب؟

لابد من وقفة قوية وصارمة من طرف كل الفعاليات الوطنية، بالمعنى السياسي وليس الجغرافي، لوضع حد لهذا التخبط في الخطاب والتدبير والسلوك وتقويم هذا المسار الأعوج.

القضايا المطروحة بحاجة إلى تدبير استباقي وليس تأجيل الحلول إلى حين حدوث احتقان وحدوث إضرار واشتعال النيران.

إذا بدأ حريق صغير في غابة يلزم الإسراع بإطفائه فورا وليس التأجيل حتى احتراق الغابة.

بقلم: عبد الصادقي بومدين

Top