التعليم العمومي، ضرورة مستعجلة اليوم

 تشتكي عدد من الأسر المغربية هذه الأيام بمختلف مدن المملكة من تشدد عدد من مدارس التعليم الخصوصي بشأن تسديد القسط المالي المتعلق بالشهر الجاري، وذلك دون أي مراعاة لما نجم عن تفشي الوباء من تضرر في مداخيل بعض الأسر، أو حتى استعصاء تنقل الأسر، في ظل ظروف الحجر الصحي، إلى غاية مقرات المدارس لتأدية هذه المستحقات المطلوبة.

فعلا، هذه المدارس تؤمن استمرار التعليم عن بعد، وإن بكثير من التباين في الجودة والانتظامية على كل حال، ومن ثم هي مستمرة في تشغيل مواردها البشرية، وخصوصا الهيئة التربوية وبعض التقنيين والإداريين، ولكن مع ذلك، كان بإمكانها القيام ببعض التضحيات نتيجة الظرفية العامة في البلاد، واستحضار كل ما جرت مراكمته من أرباح ومداخيل طيلة سنوات، وعلى الأقل الاستغناء عن مداخيل شهر واحد، أو تقديم بعض التسهيلات والمرونة والتعاون، كما كانت قد حثتها الوزارة الوصية على ذلك.

الغريب، أن بعض هذه المدارس الخصوصية، ورغم أن طاقمها التعليمي يواصل دوره المهني، والعلاقة الشغلية بينهما لا زالت مستمرة وقائمة من دون أي توقف أو تغيير، ورغم كون عدد من الأسر سددت فعلا واجباتها المالية لهذه المدارس، ما وفر لها مداخيل مهمة على كل حال، فأربابها وملاكها لم يترددوا، رغم ذلك، في خفض رواتب هؤلاء المستخدمين، أو إحالة أغلبهم على تعويضات الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، وبالتالي، فضلا على أن هؤلاء الخواص لم يروا ضرورة لأي تضحية تجاه أسر التلاميذ، فهم لم يقدموا أي تضحية كذلك لمستخدميهم، ولَم يتحملوا كلفة حتى شهر واحد.

هنا يبرز مشكل حقيقي في المسؤولية الاجتماعية لهؤلاء المقاولين، ويدفع الجميع لقراءة طبيعة هذا السلوك العام والعقلية المنتجة له.

لسنا هنا في موقع استهداف كامل قطاع التعليم الخصوصي، أو اقتراف توصيف إطلاقي لا يقر بوجود استثناءات هنا أو هناك، ولكن نلفت إلى درس جوهري أكده زمن “كورونا”، ومؤداه حاجة بلادنا اليوم إلى إعادة الاعتبار للمدرسة الوطنية العمومية، وتقوية جودتها وتنافسيتها وجاذبيتها.

المدرسة العمومية هي المجسدة لتكافؤ الفرص بين أبناء شعبنا والضامنة لحقهم في التربية والتعليم وتحقيق المساواة بين الطبقات الاجتماعية والفئات والمناطق،  وهي أيضا مجال تأمين بناء الذات وتحقيق الارتقاء الاجتماعي، ومن شأن مدرسة كهذه أن تعزز السير العام لبلادنا نحو بناء المواطن وتطوير معارف ووعي ومدارك الإنسان، ومن ثم المساهمة في خلق شروط التنمية والتحديث.

ويمكن للقطاع الخصوصي، على هذا المستوى، أن يلعب دور الداعم والمكمل، لا أن يراكم الأرباح على حساب شعبنا، وفي المقابل يقود المدرسة العمومية إلى الانهيار والاختفاء.

وفي هذه الأيام الصعبة، لا بد أن نسجل، بناء على ما سبق، بروز نساء ورجال التعليم العمومي بمثابة جنود حقيقيين لضمان استمرار العملية التعليمية وتفادي حرمان أبناء المغربيات والمغاربة من استكمال موسمهم الدراسي الجاري، وهم اليوم منخرطون، فعليا وبشكل يومي، في تنفيذ مقتضيات التعليم عن بعد، وذلك، برغم ما قد يسجل على هذه المنظومة برمتها من ارتباكات أو تجليات قصور على هذا المستوى أو ذاك، ولكن  يبقى الأساس هو أن جهدا كبيرا ومضنيا وحقيقيا يجري اليوم القيام به وبذله.

وهذه التعبئة التي يخوضها قطاع التربية والتعليم في كل الأسلاك والشعب والمستويات، تستحق فعلا تقدير الدولة والمجتمع والتنويه بها، وتوجيه التحية لمختلف أطقم التدريس والتفتيش والتوجيه والإدارة، والإشادة بأدوارهم الوطنية الواضحة اليوم للجميع.

وهذا أيضا يلفت نظرنا كلنا إلى عديد دروس، وفي مقدمتها  ضرورة الانكباب، مباشرة بعد الانتصار على الوباء، على ملف المدرسة والتعليم العموميين، وذلك بداية بالعناية المادية والاجتماعية بكل العاملين في القطاع وتحفيزهم وشكرهم على ما بذلوه من جهد خلال هذه الفترة.

وأيضا لا بد من جهد استثنائي على مستوى ميزانية الدولة لتمكين القطاع من موارد كافية لتطوير البنيات التحتية والتجهيزات وتحسين ظروف العمل داخل المؤسسات في كل مناطق البلاد، ثم يجب صياغة منظومة تطوير عملية طموحة لتقوية جودة العملية التعليمية في القطاع العمومي والتكوين المستمر للأطقم التربوية وانفتاح القطاع على التكنولوجيات الحديثة وعلى اللغات، وتحسين الصورة العامة للمدرسة العمومية وسط المجتمع ولدى الأسر وفي عالم الشغل، وكل هذا، في إطار  الاستثمار في بناء الإنسان  المغربي، وإنماء مهاراته وتكوينه ومعارفه، وتأمين مصداقية وجودة التعليم العمومي المغربي.

زمن “كورونا” أبان للجميع اليوم على أن تعبئة الهيئة التعليمية والتدبيرية في التعليم العمومي، وانخراطها القوي عبر بذل جهد مهني استثنائي وإضافي، أمر ممكن، ويجب الاعتراف لها بهذا الإحساس الوطني العالي، وأيضا البناء على ذلك لتطوير دينامية حقيقية وناجعة لإصلاح جذري للقطاع، وتطوير المدرسة العمومية وتمتين جاذبيتها وتنافسيتها.

هذا يتطلب ميزانيات كافية من الدولة، ورؤية إصلاحية لا تكتفي بمراكمة وضع البرامج والمخططات والخطب والنوايا، وإنما تضع مخططا عمليا وتشرع في تنفيذه بقوة، وتأخذ بعين الاعتبار أهمية إشراك العاملين في القطاع وتحسين أوضاعهم، وأساسا وضع مطالب التلاميذ والأسر على رأس الانشغالات إلى جانب صورة البلاد وأهمية امتلاكها لتعليم عمومي منتج وذي مصداقية علمية.

وكما أن زمن “كورونا” كشف لنا حاجتنا إلى منظومة صحية عمومية قوية وناجعة، فهو أكد ضرورة امتلاك بلادنا تعليما عموميا قويا ومنتجا وجاذبا، ومدرسة عمومية تجسد المساواة وتكافؤ الفرص بين أبناء المغاربة وتمكنهم من المعرفة والارتقاء الاجتماعي.

ويمثل التعليم والصحة العموميان التجسيد الواضح للمطلب الوطني القاضي بتفعيل دور أكبر للدولة والقطاع العمومي، خصوصا في الميادين الاجتماعية الأساسية، ذلك أن هذه المحنة الصحية والمجتمعية أعادت للواجهة أهمية الدولة الديمقراطية الاجتماعية القوية، وضرورة حضورها في القطاعات الاجتماعية لتلبية مطالب الناس وحفظ صحتهم وتأمين حقهم في التعليم، وهو ما برز اليوم عبر العالم كله، بما في ذلك في الدول  الليبرالية الكبرى، التي كانت تؤمن بالقدرات الخارقة للقطاع الخصوصي وأوساط الأعمال والمال، وإمكانية تدبير وحل مشكلات المجتمعات والشعوب من خلال نهجها الاقتصادي القائم على الربح.

ولقد اصطدم كل هذا اليوم بحائط “كورونا” وأحدث رجة مهولة في يقينيات عديدة، وجر الكل إلى الوعي بأهمية عودة الدولة والقطاع العمومي إلى القطاعات الاجتماعية الأساسية.

تحية عالية إذن لكل العاملين في قطاعي التعليم والصحة العموميين، ولمهنيي ومستخدمي قطاعات أخرى برزت هذه الأيام أهميتها وضرورتها لنا جميعا.

 محتات الرقاص

Related posts

Top