إن التوجه من مجال الكتابة الاعتيادية إلى مجال الخط العربي الكلاسيكي ثم إلى الحروفية قد فسح الطريق للمبدعين العرب كي ينتجوا أعمالا ذات أشكال جمالية مبهرة عبرت عن مرحلة جديدة من التطور، وعن اقتحام المجال الحروفي للتشكيل العالمي بهوية عربية، لتضحى الحروفية العربية بأساليبها المتنوعة تتوافق مع الفن البصري، ما أتاح الوصول إلى المعنى، وإنتاج بلاغة حروفية بمفهوم جديد. خاصة لما تم تنفيذ الأساليب الجمالية المتنوعة والأشكال الفنية ذات التغييرات في التركيب، ما جعل هذا المجال يشكل مساحة واسعة في التشكيل العالمي ويرفع من القيمة الجمالية للحرف العربي، حيث تم تشكيل معالم صور الحروف وفق مسالك جديدة، وبآليات جديدة وأدوات متطورة وتقنيات عالية، ما جعل منها معالجة إبداعية رامت مختلف النصوص الإبداعية داخل اللوحات التشكيلية، فقدمت خطابات تشكيلية بصرية. وهي بهذا المعنى قد أخضعت التشكيل لأنساق حروفية بنائية فأصبحت موصولة بالحركة والإيقاع في بؤر تعبيرية وجمالية تعبر عن الفن العربي المعاصر، بل أصبحت بفعل هذا التطور مكونا أساسيا من مكونات الخطاب التشكيلي المعاصر في العالم.
وفي سياق آخر مناقض لهذا التطور؛ تظهر بين الفينة والأخرى بعض التشكلات الحروفية العربية ذات البعد الكلاسيكي المحدود وهي في عمومها مادة خطية مستقلة في الشأن الفني عن الحروفية المتطورة، لأنها متحت مقوماتها الجمالية من الأسس الكلاسيكية للخط العربي، ولامست باب التقعيد من منظور تشكيلي للحرف العربي في نطاق التمثل الكلاسيكي للخط العربي، ما أكسبها طابعا فنيا متجاوزا في الظرف الحالي ولم تستطع التطور لتساير الفن العالمي، بل ظلت في ركود لأنها التزمت بضوابط لم تستطع التخلص منها كي تُظهر القوة التشكيلية للحرف العربي ليطاوع المجال التعبيري في نطاق واسع. وبذلك فقد شكلت هذه المادة الحروفية إحدى الخيارات التي أدت إلى الركود، وإن صح التعبير؛ فهي لا يمكن أن تدخل في نطاق الفن الحروفي التشكيلي، بل إنها مادة خطية متطورة عن الخط العربي رهينة الضوابط المتعارف عليها، تؤكد هوية خطية عربية في المنجز الحروفي العربي الحديث، استطاع الفنان العربي أن يستثمرها بقدر محدود ولم يستطع أن يدخل بها مجال التشكيل بحرية في الفضاء نتيجة الالتزام بالقواعد، فظلت الإنتاجات في هذا النطاق تتكرر في مشاهد متنوعة محدودة. وظل أصحابها يعتبرونها حروفية جديدة بالرغم من أنها لم تتطور بل يتخذ فيها التركيب تشكلات متنوعة في الفضاء وهو تركيب كلاسيكي مقرون بالضوابط والتقييدات التي تحد من التطور.
وبذلك، تسبح الحروفية العربية عامة في مساحة بعضها يغمره التطور وبعضها الآخر يركن إلى الركود وبينهما يبقى المسار الحروفي رهين تيارين الأول تشكيلي متطور والثاني كلاسيكي راكد.
< بقلم: د. محمد البندوري