الحلقة الرابعة
شهد مغرب ما بعد الاستقلال وقائع سياسية كبرى مست الدولة والمجتمع، وأحداثا مؤلمة ميزت التاريخ السياسي للمغرب المعاصر، ومحطات كان لها تأثير كبير على ما نحياه اليوم من حراك لا يختلف في أهدافه، برغم اختلاف الأسلوب والأدوات المستعملة فيه، عن حراك أشد وأقسى كان فاعلوه مناضلين من طينة متميزة، استماتوا من أجل حق الشعب في إسقاط الفساد وفي نظام ديمقراطي وفي عيش كريم. فظلت أعينهم على الدوام شاخصة نحو وجه مغرب مشرق وجميل.
ليس كل تاريخ هذه المرحلة من مسار الوطن مدونا. فمن المؤكد أن تفاصيل بقيت مخبأة تنتظر منا النبش في الركن الخفي من الذاكرة السياسية لرجالات رسموا بنضالاتهم أخاديد شاهدة على معلومات تفيد في إزالة بعض العتمة المحيطة بكثير من التفاصيل الغائبة.
في حياة هذا الرعيل الأول من زعماء وقادة سياسيين أحداث مختلفة، فردية وجماعية، لا يمكن الاستهانة بأهميتها، لأنها تشكل عناصر من شأن إعادة قراءتها وترتيبها تسليط أضواء كاشفة على صرح الحدث أو الأحداث التي كانوا شهودا عليها أو اعتبروا جزء لا يتجزأ منها.
لم يكن لنا من خيار للإسهام المتواضع في قراءة مرحلة ما بعد استقلال المغرب سوى طرق ذاكرة شخصية سياسية من الشخصيات التي راكمت خبرة سنين طويلة من النضال الملتزم، وما تعنيه من نضج ودراية وصدق في استحضار معطيات هامة ومثيرة يحصرها البعض في خانة «واجب التحفظ».
وقع اختيارنا على الدكتور أحمد بورة كذاكرة مفتوحة على أحداث النصف الثاني من القرن الماضي وعلى عقد من هذا القرن الجديد عاشها أو عايشها. لم يكن هذا الاختيار اعتباطيا. فالرجل لازالت شرايينه تنبض بالوطنية وبالأفكار التقدمية، يتابع عن قرب وعن كتب أخبار الوطن وقضايا الشعب. لا يختلف في ذلك عن أي قائد سياسي تمتزج بين طيات شخصيته المتناقضات والمتآلفات.
يفتح لنا الدكتور أحمد بورة، طيلة هذا الشهر الفضيل، صفحات سجل حياته بنوع من الحنين لتلك الأعوام التي عاشها أو عايشها والتي يمكن أن تشكل بالنسبة إلى الباحثين والقراء مرتعا خصبا لكل من يريد البحث عما تختزنه الذاكرة من رؤى ومواقف وآراء ومعطيات….
أحمد بورة شخصية بارزة في حزب التقدم والاشتراكية العريق. حزب ناضل، منذ أربعينات القرن الماضي، بتميز وبصدق وإصرار، رغم المنع والقمع، وذلك تحت يافطات متنوعة، فرض تغييرها صموده من أجل الأفضل للبلاد.
أحمد بورة، ابن الطبقة الشعبية التي ظل ملتصقا بها، بهمومها ونضالاتها وأحلامها، بادلا لها من ذات نفسه كل ما يستطيع أن يبذله المواطن الصالح لوطنه، وجاعلا من صدر الطبقة الكادحة، في أشد لحظات النضال قتامة، متكئا لينا يلقي رأسه عليها فيجد فيه برد الراحة والسكون.
من معين هذا المناضل، ومن تفاصيل حياته الشخصية، نقدم لقرائنا هذه الحلقات التي حاولنا صياغتها على شكل قصص وروايات وأحداث، وأحيانا طرائف ومستملحات، لتعميم الفائدة ولتسجيل أوراق شاهدة على مرحلة من تاريخ ما بعد استقلال المغرب.
نضالات أيام طفولة في أحضان بني ملال الدافئة
طيلة مدة دراسته الابتدائية، ظلل مشدودا إلى كل ما له صلة بالقراءة والكتابة وحفظ القرآن الكريم، وجاء التحاقه وهو ابن السادسة بالمدرسة المختلطة بحي القصبة ليشفي غليله وليهزه فرحا وغبطة، ولتزيد تجاهه، كما إخوته، ثقة وتقدير الوالدين. وأقبل على مدرسته الابتدائية منشرح الصدر، وما لبث جده أن أحله منزلة طيبة عند جـل المعلمين، ومنهم يذكر المرحوم مصطفى شفيق مدرس اللغة الفرنسية الذي أصبح فيما بعد رئيسا للصندوق الوطني لمنظمات الاحتياط الاجتماعي CNOPS، وسيكون له على أحمد بورة فضل كبير سنأتي على ذكره في حينه. والذي عرف رمزا من رموز المجال التعاضدي وشخصية نافذة، لها مكانة اجتماعية، وإدارية أهلته ليكون رئيس مجموعة تعاضدية تأمين رجال التعليم، لما يربو عن العشرين سنة، وقد وافته المنية رحمه الله يوم 28 يوليوز 1996.
وبمستوى شهادته الابتدائية، لا ينسى أحمد بورة مدرس الرياضيات السيد إيستيف Estève الذي دأب على منحه دروس تقوية ببيته كان يقوم مقابلها بمصاحبته إلى سوق الأحد الأسبوعي، يترجم له خلالها أثمنة الخضر. وبفضل السيد إيستيف نال أحمد بورة الدرجة الكاملة بمادة الرياضيات وحصل بالسنة الدراسية 1954-1955 على شهادته الابتدائية وكان ضمن طليعة التلاميذ المتفـوقين بصفه.
لم تكن تلك الأيام لتنسى، ففي العطلة الصيفية كان يقضي أوقاتا مع بعض الأصدقاء يراجع الدروس بين أشجار الزيتون والبرتقال وملعب كرة القدم وبين جداول بساتين منتزه عين أسردون حيث كان وأصدقاؤه يسبح ويلهو ويأكل من فواكه الأشجار المحيطة بها. فيا لها من سعادة يشعر بها عند تذكر تلك الأيام الجميلة في فترة الطفولة؟ !!!.. والتي ما ززال يستحضرها مع بعض الأصدقاء الملاليين، حين يلتقي بهم في مقاهي الدار البيضاء.
كان الوالد، رحمه الله، شديد الحرص على تـتـبع خطواته التعليمية، وعلى ألا يسجل في حقه أي غياب أو سلوك غير لائق، وكلما حصل منه أي تهاون، كان يعاقب عليه “بشبحة د العصا” التي كانت آثارها على جسده تلازمه لأسابيع، وحتى يتحاشى الضرب كان ملزما بحفظ دروسه عن ظهر قلب والاقتصار عليها دون غيرها من هواياته التي لم يكن يسمح له بها إلا عند العطل، ككرة القدم والسباحة وكرة الطاولة بدار الشباب وصعود قمة جبل “تصميت” وقضاء فترات جميلة بين أشجار ومياه عين أسردون.. ومن بين أصدقائه الأعزاء في تلك الحقبة الزمنية، يذكر المعطي السليماني وعبد الله أمين أطال الله عمرهما، وآخرين مازال يلتقي بهم في الدار البيضاء
كان الوالد دائم النصح له بمواصلة الاجتهاد والاستقامة ليضمن النجاح ويرفع رأس عائلته ويحقق أمنيتها في مواصلة مشواره الدراسي إلى أبعد مراحله. التحق بإعدادية بن سينا بحي باب فتوح، وبها كان سعيدا برفاقه الجـدد. كانوا دفعـة قسمت في السنة الأولى إلى عـدة فصول، ومن خلال هيئة إدارتها تعلم الصبية أبجدية التزام حدود الأدب فيما بينهم من جهـة، وفيما بينهم وبين هيئة التدريس من جهة أخرى. وكان القائمون على تدريسهم من المشهود لهم بكمال الخلق وغزارة العلم وحب المهنة والتفاني فيها، ومن ضمن هؤلاء المدرسين النابهين أستاذ مادة الترجمة محمد بن داوود الذي أصبح فيما بعد مديرا لنفس الإعدادية، والأستاذ belleuard مدرس مادة التـاريخ والجغرافيا، الذي كان يشجع التلاميذ على قراءة الكتب الخارجة عن المقرر الدراسي لتنمية قاموسهم اللغـوي الخاص.
توطدت بين أحمد بورة وبعض التلاميذ صداقات قوية استمرت طويلا، واعتاد، بمعيتهم، على قضاء عطلته الصيفية بعدة أماكن تخييم بسواحل الدار البيضاء خاصة شاطئ عين الذئاب، ومنهم يذكــر :
فتاح محمد، وزير الطاقة والمعادن الذي تولى رئاسة المكتب الشريف للفوسفاط بعـد السيد كريم العمراني 1990-1995، الذي سبقـه بثلاث سنوات دراسية بذات المؤسسة.
المرحوم علابوش صالح، الذي صار أستاذا لمادة الفلسفة ببني ملال.
وحيد مصطفى، الذي اشتغل كمفتش تعليم بالعاصمة الرباط.
مزداوي عبد الرحمان، عمل بالمكتب الشريف للفوسفاط.
في هذه الفترة ساء بيتنا، وكل بيوت ساكنة بني ملال، أن تتمادى فرنسا في طمس أمجاد المغرب بإبعاد السلطان محمد الخامس إلى المنفى، وفرض صنيعتها محمد بن عرفة على عرش البلاد. واستطاعت الـثـورة الشعبية التي عمت طول البلاد وعرضها تكسير شوكة السلطات الاستعمارية التي انهارت تحت ضربات المقاومة بكل جهات الوطن، من شماله إلى جنوبه، وعبر سهوله ووديانه وجباله، وأرغمت فرنسا على خلع قفاز التحدي. فتحقق رجـوع السلطان إلى عرش البلاد، وسرعان ما ملأت الفرحة كل منطقة الأطلس المتوسط وأرجاء تادلــة، فعطلت المدارس، وخرج أحمد بورة ووالده وكل أفـراد أسرتـه إلى الشوارع يهتف زهــوا وحماسة بحياة الملك المجاهد وزعيم الأمة العائد، الملك محمد الخامس تغمده الله برحمته الواسعة في 16 نونبر سنة 1953.
كل هيئة التدريس كانت من الفرنسيين باستثناء مغربي واحـد وهو أستاذ مادة العلوم الطبيعية سكيرج عمر، الذي ساءه أن تمنع عـنا إدارة المدرسة اللوازم الدراسية لأننا تجرأنا على الانضمام إلى صفوف الحشود المنتشية بزوال عهد الحجر والحمـاية، فما كان من هذا الوطني الغيور إلا أن يتوجه مباشرة إلى مكتب المدير ويعلن في وجهه بصوت عـال استنكـاره الشديد لمصادرة فرحة هؤلاء التلاميذ باستقلال بلادهم.
وقد أسهم هذا الحدث في إذكاء إحساس أحمد بورة وأقرانه بالوطنية الصادقة التي دعـتـهم كجيل الاستقلال ليسارعوا للنهل من منهل التعليم من أجل بناء مغرب الغـد، وتحقيق حلم الوحـدة والبناء الذي داعب أنفسهم وشحـذ هممهم لسنوات عديدة.
ومن صفحات ماض لازالت مسجلة في مكان ما بذاكرة أحمد بورة ، محبة الأساتذة وتشجيعهم وتأكيدهم للطلبة أن لا تفوق بدون اجتهاد، وأن ثمرة المثابرة لا يقطفها إلا المجـدون، وأن قصب النجاح لا يناله إلا المميزون..
ورسخ بذهنه حينها قول أستاذنـا سكيرج عمر :
تسلحـوا بالجـد والتفاني والعمل الدؤوب في دراستكم وثقـوا أن المستقبل أمامكم سيشرع كل الأبواب المغلقة على مصراعيها، اقتدوا بأجدادكم وآبائكم الذين اعتصموا بشواهق الجبال ومجـاهل الكهوف وجعلوا منها قلاعا حصينة وسلكوا المغارات لتعبروا أنتم جسـور الحرية وتـنعموا بها.. من أجل هؤلاء الأحرار، تسلحــوا أبنائي الطلبة بالعـلـم والمعـرفـة، فأنتم حتما الجيل الذي ستتحقق على أياديه آمـال المغرب وغـد المشرق الزاهـر..
جـرعـات روحـيـة صادقة في حب الوطن، قدحت في صدور أحمد بورة، وتزود منها بزاد الثـقــة بالنفس، رغم ضيق ذات اليد وعسر حـال أغلب مجايليه، إلا من رحم الله.
سنة 1958 أنهـى أحمد بورة طور التعليم الإعـدادي، وتهافت النـاجحـون على شغـل وظائف توفرت لهم خاصة بقطاعي التدريس والأمن. وكان من القلـة الذين رفضوا هذه العروض التي بنظر الطفل أحمد بورة كانت تحكم على طموحه بالجمـود وتشل تطلعاته التي تـأمل بها الكثير.
توجـه مديـر الإعـداديـة السيد Alegrain إلي نـاصحا :
أمـامك فرصة ذهبية لتصبح مدرسا لمادة الرياضيات بنفس الحي الذي تقطنه، وستشتغل على مقربة من بيت والديك، وستوفر عليك تعب مسار دراسي عسير قد يستـنـزف عمرك ومجهوداتك بلا طائل.. لا تتعارك مع حلم الحصول على شهادة الباكلوريا في ظل ظروفك المادية الصعبة وفي ظل ظروفك المادية الصعبة وفي ظل استحـالة حصولك على منحة دراسية.. هذه فرصتك فاغـتـنـمها ولا تضيعها..
وبنبرة نفس تأبى الانكسار رفضت العرض.. فأشار علي بضرورة إحضار أبي إلى مكتبه عـاجـلا. فما كان مني إلا أن أتضرع له بكـذبـة اخترعتها، حين ادعيت أن أبي يعمل بعيدا عن مدينتـنـا وبالضبط بأكــادير. انطلت الكـذبة عليه، واستقبلني بعد مدة وبعد تـأكده من عـزمي على مواصلة مشوار التحصيل بمدينة الدار البيضاء، غير رأيـه بقــوله :
بعد شهر من عرضي الأول الذي قابلته بالرفض القاطع، تأكــد لي إصرارك على متابعة دراستك وتحصيلك العلمي خاصة وأنك حصدت نتائج جيدة تخـول لك المضي في طريقـك هذا، لذا فأنا بدءا من اليوم معك، ولن أدخـر جهدا لدعمك وتشجيعك..
وهكذا استبدل المدير لصالحي تشجيـعــا منه، عرضا بنصف إقامة لي عرض بمنحة دراسية داخلية. وبمجـرد تخرجي من كلية الطب كـان مديري Alegrain من أوائـل الذين توصلوا مني برسالة شكـر وامتـنـان، لأنه كـان بالفعـل ممن أخذوا بيدي وممن كان لهم فضل علي بعد الله.
إعداد: مصطفى السالكي