الدكتور أحمد بورة.. من ذاكرة مناضل تقدمي

الحلقة السابعة

شهد مغرب ما بعد الاستقلال وقائع سياسية كبرى مست الدولة والمجتمع، وأحداثا مؤلمة ميزت التاريخ السياسي للمغرب المعاصر، ومحطات كان لها تأثير كبير على ما نحياه اليوم من حراك لا يختلف في أهدافه، برغم اختلاف الأسلوب والأدوات المستعملة فيه، عن حراك أشد وأقسى كان فاعلوه مناضلين من طينة متميزة، استماتوا من أجل حق الشعب في إسقاط الفساد وفي نظام ديمقراطي وفي عيش كريم. فظلت أعينهم على الدوام شاخصة نحو وجه مغرب مشرق وجميل.
ليس كل تاريخ هذه المرحلة من مسار الوطن مدونا. فمن المؤكد أن تفاصيل بقيت مخبأة تنتظر منا النبش في الركن الخفي من الذاكرة السياسية لرجالات رسموا بنضالاتهم أخاديد شاهدة على معلومات تفيد في إزالة بعض العتمة المحيطة بكثير من التفاصيل الغائبة.
في حياة هذا الرعيل الأول من زعماء وقادة سياسيين أحداث مختلفة، فردية وجماعية، لا يمكن الاستهانة بأهميتها، لأنها تشكل عناصر من شأن إعادة قراءتها وترتيبها تسليط أضواء كاشفة على صرح الحدث أو الأحداث التي كانوا شهودا عليها أو اعتبروا جزء لا يتجزأ منها.
لم يكن لنا من خيار للإسهام المتواضع في قراءة مرحلة ما بعد استقلال المغرب سوى طرق ذاكرة شخصية سياسية من الشخصيات التي راكمت خبرة سنين طويلة من النضال الملتزم، وما تعنيه من نضج ودراية وصدق في استحضار معطيات هامة ومثيرة يحصرها البعض في خانة «واجب التحفظ».
وقع اختيارنا على الدكتور أحمد بورة كذاكرة مفتوحة على أحداث النصف الثاني من القرن الماضي وعلى عقد من هذا القرن الجديد عاشها أو عايشها. لم يكن هذا الاختيار اعتباطيا. فالرجل لازالت شرايينه تنبض بالوطنية وبالأفكار التقدمية، يتابع عن قرب وعن كتب أخبار الوطن وقضايا الشعب. لا يختلف في ذلك عن أي  قائد سياسي تمتزج بين طيات شخصيته المتناقضات والمتآلفات.
يفتح لنا الدكتور أحمد بورة، طيلة هذا الشهر الفضيل، صفحات سجل حياته بنوع من الحنين لتلك الأعوام التي عاشها أو عايشها والتي يمكن أن تشكل بالنسبة إلى الباحثين والقراء  مرتعا خصبا  لكل من يريد البحث عما تختزنه الذاكرة من رؤى ومواقف وآراء ومعطيات….
أحمد بورة شخصية بارزة في حزب التقدم والاشتراكية العريق. حزب  ناضل، منذ أربعينات القرن الماضي، بتميز وبصدق وإصرار، رغم المنع والقمع، وذلك تحت يافطات متنوعة، فرض تغييرها صموده من أجل الأفضل للبلاد.
أحمد بورة، ابن الطبقة الشعبية التي ظل ملتصقا بها، بهمومها ونضالاتها وأحلامها، بادلا لها من ذات نفسه كل ما يستطيع أن يبذله المواطن الصالح لوطنه، وجاعلا من صدر الطبقة الكادحة، في أشد لحظات النضال قتامة، متكئا لينا يلقي رأسه عليها فيجد فيه برد الراحة والسكون.
من معين هذا المناضل، ومن  تفاصيل حياته الشخصية، نقدم لقرائنا هذه الحلقات التي حاولنا صياغتها على شكل قصص وروايات وأحداث، وأحيانا طرائف ومستملحات، لتعميم الفائدة ولتسجيل أوراق شاهدة على مرحلة من تاريخ ما بعد استقلال المغرب.

افترش الكارطون وانتظر حتى الثانية صباحا الإعلان عن نتيجة الباكالوريا قرب مقهى فرنسا

تزامنت سنة حصول أحمد بورة على شهادة الباكلوريا الأولى مع سنة إطلاق اسم ثانوية مولاي الحسن على الإعدادية الإسلامية. وكان طلبة شعبة الفلسفة يحضرون شهادة الباكلوريا الثانية بنفس المؤسسة. أما طلبة تخصص الرياضيات فكانوا يوجهون إلى ثانوية المولى عبد الله. في حين اختصت ثانوية ليوطي بالمسجلين بشعبة العلوم التجريبية.
مع بداية الحقبة الاستعمارية، بعد توقيع عقد الحماية، نشأت أولى المؤسسات التعليمية الثانوية بالمغرب، وكان يطلق عليها اسم المدارس الإسلامية.
 مبادرة المستعمر هذه لم تكن سوى محاولة لعزل الشباب ذوي التكوين العصري عن النضال الوطني.
تحولت أغلب هاته المؤسسات إلى منبت للقادة الوطنيين حيث قدمت للحركة الوطنية أبرز أطرها القيادية من قبيل أحمد بلافريج ومحمد بلحسن الوزاني والمهدي بن بركة. لذا كانت مؤسسات فرنسية المناهج لكنها لم تمنع المغاربة من منافسة الفرنسيين على كراسي التمدرس أولا، وفي درب النضال التقدمي ضد السياسات الاستعمارية.
كان المقيم العام الفرنسي هوبير ليوطي وراء فكرة تأسيس “كوليج” مولاي يوسف بالرباط وفق ظهير فبراير 1916 و”كوليج” مولاي إدريس بفاس سنة 1925، وغيرهما من المؤسسات التي تعد جسورا نحو الدراسات العليا والوظائف السامية، لكن بموازاة مع ذلك قام بعض الوطنيين بتأسيس التعليم الحر، وهي تجربة مستلهمة من النموذج المصري والسوري.
كانت الثانويات التي بناها المستعمر أشبه بمصنع للكفاءات المغربية، و”ماكينة” لمشاريع النخب، لكن مع مرور الوقت تغيرت أسماؤها وتم تعريبها، كي تتخلص من الإرث الاستعماري، فثانوية الحسن الثاني، بالعاصمة، وهي أحد أقدم ثانويات المغرب، والتي يعود تاريخها إلى 1919 كانت تسمى “ليسي كورو”، و”ليسي آزرو” أصبح يحمل اسم طارق بن زياد، وقس على ذلك، لكن مهما تغيرت الأسماء فإن سجلات هذه المؤسسات تحفظ ذاكرة التعليم وتشهد على مرور تلاميذ كانوا يمزجون بين الدراسة والشغب التعليمي إلى نخب سياسية تحكم البلاد والعباد..
لقد انطوى موقف النخبة المغربية من التعليم الأوروبي بالمغرب، أيام الحماية، على تناقض صارخ، تجلت أبرز معالمه في انتقادها هيمنة اللغة الفرنسية على برامج ومواد المدارس الفرنسية – الإسلامية والثانويات الإسلامية من جهة، وسعيها الحثيث لتمدرس أبنائها رفقة أبناء الأوربيين من جهة أخرى. ولعل الرغبة في التميز والاختلاف والطموح إلى الحصول على الباكالوريا لمتابعة الدراسة، شكلت أسبابا حقيقية لإقبال المغاربة المسلمين على هذا “النوع” التعليم الأوربي، الذي يرجع تاريخ وجوده به إلى فترة سابقة عن الحماية، ممثلا في المدارس التي أنشأتها البعثة الفرنسية، حيث تم خلق أول مؤسسة للتعليم الثانوي بالمغرب سنة 1909 بمدينة طنجة، بعد ذلك توالى تطور أعداد هذه المؤسسات، وتطور عدد المتمدرسين تماشيا مع تزايد وفود المعمرين والجنود على المغرب. وأولى ليوطي اهتماما بالغا بتعليم أبناء الأوربيين، حيث عمل على استقدام أستاذين من جامعة بوردو لتنظيم أولى امتحانات البكالوريا بالمغرب سنة 1915. وبلغ عدد المرشحين لنيل هذه الشهادة 13 مرشحا.
كما حرصت إدارة التعليم من جهتها على توفير أجود الأطر الحاصلة على  المؤهلات نفسها التي لدى نظيرتها في الميتروبول، للإشراف على هذا التعليم وتلقين صغار الأوربيين دروسا في التاريخ والجغرافيا والمؤسسات الإسلامية والتنظيم الإداري بالمغرب. ووصل عدد المؤسسات الثانوية سنة 1950 إلى حوالي 14 مؤسسة، تتوزع على كبريات المدن المغربية، من أهمها ثانوية ليوطي بالبيضاء التي تحفظ ذاكرة أحمد بورة حكايات عنها وصور حية للقاءات كان يجريها، بموازاة مع الدرس والتحصيل، مع قياديين في الحزب الشيوعي المغربي من بينهم على سبيل الذكر لا الحصر شمعون ليفي ومحمد أنيق وعبد الواحد سهيل…
يعود أحمد بورة بذاكرته لذاك العهد الجميل على علاَته، وتعود معه أجواء الدراسة، ولحظات الفرحة التي لا توصف بعد حصوله على علامات متقدمة جدا في جل المواد العلمية من رياضيات وفيزياء وكيمياء، وتحضره أيضا نتف من سيرته وهو يتقدم لامتحانات الباكلوريا ضمن ما يزيد عن مائتي ممتحن، وشريط ماض يعيده إلى صفوف تلك الطوابير المفترشة لعلب الكارطون المنتظرة حتى الثانية صباحا الإعلان عن النتائج قرب مقهى فرنسا بشارع محمد الخامس بالدار البيضاء.
أجواء ترقب النتائج تختلف شيئا ما عن حالها اليوم، فإذا كان أغلب المترشحين اليوم يتلقى النتائج والكشف التفصيلي للنقط عبر الخدمة الإلكترونية موازاة مع الإعلان عنها بجميع مؤسسات التعليم الثانوي التأهيلي وعبر الوسائط الأخرى، فالمجتازون لامتحان الشهادة العامة –الباكلوريا- منذ نهاية الخمسينيات وإلى غاية ثمانينيات القرن الماضي- كانوا ملزمين بانتظار تلقي نتائجهم متجمهرين بالشارع العام حتى ساعات متأخرة من الليل مرفوقين بعائلاتهم وأقربائهم.
كم كانت طويلة ومتعبة تلك الساعات الفاصلة بين الانتظار ولحظة الحسم، كان أحمد بورة يعد ثوانيها أياما ويعيش حمى احتمالاتها توترا وترقبا واحتراقا.
وكان لساعة الحقيقة وقع خاص بطعم زمن ولى ولن يعود، زغاريد فرح الناجحين تختلط بصرخات وإغماءات الراسبين، ممتزجة بأصوات المهنئين والمواسين والمحتجين.
صفحة الباكلوريا الأولى طويت، وفتحت بدلها صفحة الباكلوريا الثانية التي قضاها أحمد بورة  بين فصول وأقسام ثانوية ليوطي التي ولجها ضمن شعبة العلوم التجريبية بتوجيه من السيد العربي بالعربي الذي أصبح فيما بعد مديرا عاما بشركة صوماكا.
بذات الثانوية كان أحمد بورة يوزع الوقت بين متابعة دروسه، وبين مسؤوليته كمشرف على داخلية ثانوية مولاي الحسن، والاشتغال كنادل مقهى خلال نهايات الأسبوع والعطل، وإعطاء دروس التقوية والدعم الليلية بالمجان للطلبة الراغبين في سد النقص الحاصل لديهم بمواد الرياضيات والفيزياء والكيمياء، مما قوَى بين القائمين على الداخلية والمقيمين بها لحمة الانسجام التام والصداقة المتينة.
ومن صداقات الفترة ما بين 1959 و 1961 يذكر أحمد بورة :
– الأستاذ سكيرج عبد الحي الذي شغل منصب مدير المحافظة العقارية بالدار البيضاء.
– الدكتور أوتكنزة أحمد من أكادير
-المرحوم الغانمي التيجاني الكاتب العام السابق لوزارة الملاحة.
– حمودة القايد، والي الدار البيضاء الكبرى.
– حسين الكأس، رجل أعمال وإطار سابق في مكتب التبغ.
– الدكتور عبد الوهاب السلاوي، الأخصائي في أمراض القلب والشرايين.

 إعداد: مصطفى السالكي

Related posts

Top