الدكتور أحمد بورة.. من ذاكرة مناضل تقدمي

الحلقة 15

شهد مغرب ما بعد الاستقلال وقائع سياسية كبرى مست الدولة والمجتمع، وأحداثا مؤلمة ميزت التاريخ السياسي للمغرب المعاصر، ومحطات كان لها تأثير كبير على ما نحياه اليوم من حراك لا يختلف في أهدافه، برغم اختلاف الأسلوب والأدوات المستعملة فيه، عن حراك أشد وأقسى كان فاعلوه مناضلين من طينة متميزة، استماتوا من أجل حق الشعب في إسقاط الفساد وفي نظام ديمقراطي وفي عيش كريم. فظلت أعينهم على الدوام شاخصة نحو وجه مغرب مشرق وجميل.
ليس كل تاريخ هذه المرحلة من مسار الوطن مدونا. فمن المؤكد أن تفاصيل بقيت مخبأة تنتظر منا النبش في الركن الخفي من الذاكرة السياسية لرجالات رسموا بنضالاتهم أخاديد شاهدة على معلومات تفيد في إزالة بعض العتمة المحيطة بكثير من التفاصيل الغائبة.
في حياة هذا الرعيل الأول من زعماء وقادة سياسيين أحداث مختلفة، فردية وجماعية، لا يمكن الاستهانة بأهميتها، لأنها تشكل عناصر من شأن إعادة قراءتها وترتيبها تسليط أضواء كاشفة على صرح الحدث أو الأحداث التي كانوا شهودا عليها أو اعتبروا جزء لا يتجزأ منها.
لم يكن لنا من خيار للإسهام المتواضع في قراءة مرحلة ما بعد استقلال المغرب سوى طرق ذاكرة شخصية سياسية من الشخصيات التي راكمت خبرة سنين طويلة من النضال الملتزم، وما تعنيه من نضج ودراية وصدق في استحضار معطيات هامة ومثيرة يحصرها البعض في خانة «واجب التحفظ».
وقع اختيارنا على الدكتور أحمد بورة كذاكرة مفتوحة على أحداث النصف الثاني من القرن الماضي وعلى عقد من هذا القرن الجديد عاشها أو عايشها. لم يكن هذا الاختيار اعتباطيا. فالرجل لازالت شرايينه تنبض بالوطنية وبالأفكار التقدمية، يتابع عن قرب وعن كتب أخبار الوطن وقضايا الشعب. لا يختلف في ذلك عن أي  قائد سياسي تمتزج بين طيات شخصيته المتناقضات والمتآلفات.
يفتح لنا الدكتور أحمد بورة، طيلة هذا الشهر الفضيل، صفحات سجل حياته بنوع من الحنين لتلك الأعوام التي عاشها أو عايشها والتي يمكن أن تشكل بالنسبة إلى الباحثين والقراء  مرتعا خصبا  لكل من يريد البحث عما تختزنه الذاكرة من رؤى ومواقف وآراء ومعطيات….
أحمد بورة شخصية بارزة في حزب التقدم والاشتراكية العريق. حزب  ناضل، منذ أربعينات القرن الماضي، بتميز وبصدق وإصرار، رغم المنع والقمع، وذلك تحت يافطات متنوعة، فرض تغييرها صموده من أجل الأفضل للبلاد.
أحمد بورة، ابن الطبقة الشعبية التي ظل ملتصقا بها، بهمومها ونضالاتها وأحلامها، بادلا لها من ذات نفسه كل ما يستطيع أن يبذله المواطن الصالح لوطنه، وجاعلا من صدر الطبقة الكادحة، في أشد لحظات النضال قتامة، متكئا لينا يلقي رأسه عليها فيجد فيه برد الراحة والسكون.
من معين هذا المناضل، ومن  تفاصيل حياته الشخصية، نقدم لقرائنا هذه الحلقات التي حاولنا صياغتها على شكل قصص وروايات وأحداث، وأحيانا طرائف ومستملحات، لتعميم الفائدة ولتسجيل أوراق شاهدة على مرحلة من تاريخ ما بعد استقلال المغرب.

جو سياسي مشحون يرفع عدد الراسبين في كلية الطب

رغم جنوح الحكم إلى بلوغ الانفراج السياسي بإعفاء الفقيه البصري من عقوبة الإعدام، وإصدار العفو عن الانقلابيين، فإن جذوة التوتر ظلت مشتعلة. ولم يعد بالهين على زملاء أحمد بورة، كطلبة دارسين، متابعة رسم معالم غد لا يعد بالخير. فالتشاؤم بلغ بهم حده، والثقة فيما بين الطلبة وأطر وإدارة الجامعة ومحيط التكوين، كانت كلها تحت مؤشر الصفر. فالحكومة الأولى للملك الحسن الثاني لم تدم غير أربعة أشهر تخللها تعديل أُسندت فيه وزارة الداخلية الى المستشار أحمد رضا اكديرة. وكان لافتاً أن الموريتاني خال ولد عمير أصبح وزير دولة في الحكومة الجديدة التي ضمت زعيم حزب الاستقلال علال الفاسي في منصب وزير الشؤون الاسلامية، وزعيم الشورى والاستقلال بلحسن الوزاني وزير دولة، والدكتور عبد الكريم الخطيب وزيراً للشؤون الافريقية، ومحمد بوستة وزيراً للعدل، والمحجوبي احرضان وزيراً للدفاع. غير أن تلك الحكومة خلت من مهمات وزارة الخارجية التي احتفظ بها الملك الحسن الثاني إلى جانب رئاسة الوزراء، في حين أن طبيعة الائتلاف الحكومي فيها توزع بين الاستقلال والشورى والاستقلال والحركة الشعبية، وإن كان حزب الشورى قرر بدوره مقاطعة الدستور. غير أن ذلك التحالف لم يدم طويلاً. فمن جهة تعرض وزير سابق في الاستقلال الى حملة إعلامية اتهمته بتجاوزات في بناء منشآت اقتصادية في مدينة أسفي على الساحل الاطلسي أدت الى إقامته دعوى قضائية ضد صحيفة محسوبة على نقابة الاتحاد المغربي للعمل. ومن جهة ثانية، بدا أن الاستقلال لم يكن راضياً عن حجم حضوره في الحكومة، على رغم أنه انحاز الى النظام في الدفاع عن التصويت لفائدة دستور 1962. وكان من نتيجة ذلك انسحاب الوزراء علال الفاسي ومحمد بوستة ومحمد الدويري من الحكومة وإعلان الحزب انضمامه الى المعارضة. وكرد فعل على ذلك أعلن وزير الداخلية وقتذاك أحمد رضا اكديرة تشكيل تحالف سياسي ضم أحزاب الحركة الشعبية وفصائل صغيرة ضمن ما عرف بـ”جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية”. لكن التطور السياسي البارز في هذه الفترة يكمن في إعلان السلطات المغربية وقتذاك إحباط “مؤامرة لإطاحة النظام” في تموز يوليو 1963 يترتب عليها اعتقال أعداد كبيرة من قياديي ومنتسبي الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، إضافة الى رئيس الاتحاد الوطني لطلبة المغرب حميد برادة، وإصدار حكم بإعدام المهدي بن بركة ورفيقه الفقيه محمد البصري. وعزت الأحكام حيثيات ذلك الى موقف بن بركة المؤيد للجزائر في حرب الرمال بينها وبين المغرب، في حين دانت الفقيه البصري بالضلوع في مؤامرة إطاحة النظام.
الوقائع المرتبطة بهذه الاعتقالات قادها مدير الشرطة وقتذاك الجنرال محمد اوفقير. ولم يمر عام 1964 الذي أصدرت فيه محكمة الرباط حكماً بإعدام الفقيه محمد البصري في 14 مارس، الى جانب آخرين، حتى اندلعت، في صيف العام ذاته، اضطرابات على الحدود المغربية ـ الجزائرية صدرت أحكام بإعدام المتورطين فيها. وشكّل الملك حكومة جديدة في نونبر عام 1963 برئاسة احمد باحنيني، وأصبح فيها المستشار احمد رضا اكديرة وزيراً للخارجية، والمستشار عبد الهادي بوطالب وزيراً منتدباً، واحتفظ المحجوبي احرضان بوزارة الدفاع في نطاق تحالف الأحزاب المُشكِّلة لـ”جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية” بعد انسحاب “الاستقلال”، كما اسندت الداخلية لعبد الرحمن الخطيب شقيق الدكتور عبدالكريم الخطيب.
كان أحمد بورة، الطالب في كلية الطب بالرباط، يذرك بإحساسه المرهف، وحدسه السياسي، أن البلاد تسير نحو أجواء احتقان خطيرة، وكان يقدم الحظر قبل اتخاذ أية خطوة نضالية في إطار خليته داخل الحزب الشيوعي المغربي. فالبلاد  تسودها الشرطة السرية سيادة مطلقة من دون حد أو رقيب. وسيكون لافتاً في غضون هذه التطورات التي عكست درجة عالية من الاحتقان السياسي، أن وزير الخارجية أحمد رضا اكديرة الذي كان يُوصف بأنه صاحب أكبر عدد من الوزارات الزراعة والداخلية والتعليم والخارجية سيقدم استقالته من الحكومة في صيف 1964، مما أفسح المجال أمام إسناد الداخلية الى الجنرال محمد اوفقير، “مكافأة” له على دوره في إحباط الحركات الاحتجاجية وقمعها. وعلى رغم أن الحكومة حاولت استباق الأحداث لدى رفعها دعوى قضائية لحل تنظيم “الاتحاد الوطني لطلاب المغرب”، فإن محكمة في الرباط حكمت لمصلحة عدم تعليق التنظيم. لكن الغليان الشعبي كان بلغ ذروته، خصوصاً في أوساط الطلاب والتلاميذ، ونتجت عنه اضطرابات وقلاقل مدنية في مارس من عام 1965، مما أدى الى تدخل قوات الجيش والشرطة بعنف.
في ذلك الجو السياسي المشحون وتلك الساحة النقابية الجد متوترة، وعلى إيقاع متابعة المتهمين فيما اصطلح عليه بمؤامرة 16 يوليوز 1963، وإحالتهم على المحكمة الإقليمية بالرباط، وإصدار أحكامها بتاريخ 14 مارس 1964، تجاوز أحمد بورة العقبة الكأداء للسنة الثانية طب، علما أن هذا الجو السياسي المشحون رافقته نسبة هامة من الطلبة المنسحبين والراسبين والتي سجلت بكلية الطب على الخصوص معدلا قياسيا ما بين السنتين الأولى والثانية.
بلغ عدد المسجلين بالدفعة الأولى لكلية الطب 180 طالب، لم ينتقل منهم إلى السنة الثالثة سوى 130، أي أن سنتين من التكوين تمكنت من حصد رأس حوالي 28 في المائة من مجموع الطلبة المسجلين.
وإن تباينت أسباب الرسوب فلا يمكن إيعازها بأي شكل من الأشكال إلى الإطارات المكونة، لأنها صراحة كانت مشكلة من ألمع الأساتذة الأجانب المشهود لهم بمكانة عملية رصينة في مجالات تأطير وتكوين طلاب تخصصات العلوم الطبية والصيدلة. ولم يكن ضعف مستوى الطلاب هو السبب في تأجيل النجاح إلى الدورات الاستدراكية بدل العادية. وبرأي أحمد بورة الخاص، فإن الخلل كان كامنا في الوضع المأزوم للبلاد سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، ذلك الوضع الذي كان سببا في تدهور المستوى التعليمي والمعرفي، وأفضى إلى نتائج أثرت بدورها سلبا على مستوى التحصيل العلمي.

 إعداد: مصطفى السالكي

Related posts

Top