الدكتور أحمد بورة.. من ذاكرة مناضل تقدمي

الحلقة19

شهد مغرب ما بعد الاستقلال وقائع سياسية كبرى مست الدولة والمجتمع، وأحداثا مؤلمة ميزت التاريخ السياسي للمغرب المعاصر، ومحطات كان لها تأثير كبير على ما نحياه اليوم من حراك لا يختلف في أهدافه، برغم اختلاف الأسلوب والأدوات المستعملة فيه، عن حراك أشد وأقسى كان فاعلوه مناضلين من طينة متميزة، استماتوا من أجل حق الشعب في إسقاط الفساد وفي نظام ديمقراطي وفي عيش كريم. فظلت أعينهم على الدوام شاخصة نحو وجه مغرب مشرق وجميل.
ليس كل تاريخ هذه المرحلة من مسار الوطن مدونا. فمن المؤكد أن تفاصيل بقيت مخبأة تنتظر منا النبش في الركن الخفي من الذاكرة السياسية لرجالات رسموا بنضالاتهم أخاديد شاهدة على معلومات تفيد في إزالة بعض العتمة المحيطة بكثير من التفاصيل الغائبة.
في حياة هذا الرعيل الأول من زعماء وقادة سياسيين أحداث مختلفة، فردية وجماعية، لا يمكن الاستهانة بأهميتها، لأنها تشكل عناصر من شأن إعادة قراءتها وترتيبها تسليط أضواء كاشفة على صرح الحدث أو الأحداث التي كانوا شهودا عليها أو اعتبروا جزء لا يتجزأ منها.
لم يكن لنا من خيار للإسهام المتواضع في قراءة مرحلة ما بعد استقلال المغرب سوى طرق ذاكرة شخصية سياسية من الشخصيات التي راكمت خبرة سنين طويلة من النضال الملتزم، وما تعنيه من نضج ودراية وصدق في استحضار معطيات هامة ومثيرة يحصرها البعض في خانة «واجب التحفظ».
وقع اختيارنا على الدكتور أحمد بورة كذاكرة مفتوحة على أحداث النصف الثاني من القرن الماضي وعلى عقد من هذا القرن الجديد عاشها أو عايشها. لم يكن هذا الاختيار اعتباطيا. فالرجل لازالت شرايينه تنبض بالوطنية وبالأفكار التقدمية، يتابع عن قرب وعن كتب أخبار الوطن وقضايا الشعب. لا يختلف في ذلك عن أي  قائد سياسي تمتزج بين طيات شخصيته المتناقضات والمتآلفات.
يفتح لنا الدكتور أحمد بورة، طيلة هذا الشهر الفضيل، صفحات سجل حياته بنوع من الحنين لتلك الأعوام التي عاشها أو عايشها والتي يمكن أن تشكل بالنسبة إلى الباحثين والقراء  مرتعا خصبا  لكل من يريد البحث عما تختزنه الذاكرة من رؤى ومواقف وآراء ومعطيات….
أحمد بورة شخصية بارزة في حزب التقدم والاشتراكية العريق. حزب  ناضل، منذ أربعينات القرن الماضي، بتميز وبصدق وإصرار، رغم المنع والقمع، وذلك تحت يافطات متنوعة، فرض تغييرها صموده من أجل الأفضل للبلاد.
أحمد بورة، ابن الطبقة الشعبية التي ظل ملتصقا بها، بهمومها ونضالاتها وأحلامها، بادلا لها من ذات نفسه كل ما يستطيع أن يبذله المواطن الصالح لوطنه، وجاعلا من صدر الطبقة الكادحة، في أشد لحظات النضال قتامة، متكئا لينا يلقي رأسه عليها فيجد فيه برد الراحة والسكون.
من معين هذا المناضل، ومن  تفاصيل حياته الشخصية، نقدم لقرائنا هذه الحلقات التي حاولنا صياغتها على شكل قصص وروايات وأحداث، وأحيانا طرائف ومستملحات، لتعميم الفائدة ولتسجيل أوراق شاهدة على مرحلة من تاريخ ما بعد استقلال المغرب.

*في خدمة المرضى الفقراء مباشرة بعد العودة من فرنسا

عرفت أوربا أعقاب الحرب العالمية الأولى وباء الأنفلونزا الاسبانية الفتاك الذي تسبب في مقتل قرابة 100 مليون نسمة، غالبيتهم العظمى من البالغين واليافعين الأصحاء. وما شهدت أوبئة تدانيه فتكا بقدر ما حصدته الأمراض التناسلية من أرواح. وما بين 1696-1971 كانت فرنسا قد سجلت ارتفاعا مهولا في عدد المصابين بهذه الأمراض المنقولة جنسيا بين أفراد الجاليات المغاربية خاصة الفئات الشابة منها، مما دعا مسؤولي الوقاية الصحية إلى دق ناقوس الخطر والعزم على مكافحة هذه الأمراض اعتمادا على مخططات مدروسة دقيقة وهادفة.
تقديرات ذوي الاختصاص المعتمدين على إحصائيات الهيئات الصحية العاملة بالقطاع العمومي كانت تنذر بالأسوأ إن لم يعجل بإطلاق حملة تحسيسية لتطويق أمراض المسالك البولية والتناسلية المتفشية عن طريق الجنس بين الجاليات المذكورة.
وحتى لا يزيح نشاط أحمد بورة التوعوي بعيدا عن إطاره الصحيح، عمل على التنسيق مع القنصل المغربي بليل آنذاك محمد عيوش الذي لعب دورا مهما لإنجاح تلك الحملات. وكثف من أنشطته التحسيسية بتنظيم لقاءات مع الفئات الأكثر عرضة للعدوى خاصة منها الشباب والنساء والرجال النشطاء جدا على المستوى الجنسي.
وجعل أحمد بورة في الغالب من قاعات السينما فضاء لتبسيط وسائل التعريف بالأمراض التناسلية وعلى الخصوص منها أمراض السفليس، والزهري، والسيلان والتهاب مجرى البول urétrites، والالتهابات والإفرازات القيحية والتقرحات والنتوءات والدمامل التي ترافقها، ومسببات وأعراض ومضاعفات العدوى من عسر البول حتى حالات الحمى وتورم المناطق الجنسية الحساسة.
التشخيص، آنذاك، كان معتمدا على إخضاع المصابين لفحوصات عينية والعلاج إلى ذلك الحين ظل مرتكزا على حقنات البينيسيلين التي أثبتت فعاليتها ضد الكثير من البكتيريا خاصة منها المسببة لبعض الأمراض التناسلية، قبل أن تتطور المضادات الحيوية وتنتج المختبرات الطبية أدوية أنجع من سالفاتها.
ولم يمر عام كامل على برنامج التوعية الطموح الذي سهر أحمد بورة  على تسطيره حتى انخفض مؤشر العدوى بين فئات الجاليات المغاربية، وتلقى تشجيعات من طرف كل المسؤولين عن القطاعات المعنية وعلى رأسهم عمدة مدينة ليل السيد فرانسوا موروا، الذي استمر في دعمه لمخطط أحد بورة  الطموح طيلة سنتين توصل خلالها –زيادة على الساعات الإضافية التي على أساسها كان يقوم فيها بتلك الحملات- بمكافآت مالية جد مشجعة من مجلس مدينة ليل الفرنسية .. المدينة التي سعد باقترابه من بلوغ صفر حالة من الإصابات بالأمراض المنقولة جنسيا، بفضل ما بذله الجميع من أجل إنجاح تلك الحملات التحسيسية التي أخذت بعدا وامتدادا على مستوى فرنسا ككل.
كان أحمد بورة، بفضل نصائح أساتذته، يعلم أن الله رفع منزلة الطبيب وأعلى من قدره، وجعله مفتاحاً لعلاج خلقه بعد إذنه سبحانه وتعالى، وكان يعلم أن مهنة الطب من أرفع المهن، وهي ذات طابع خاص و حساس لتعاملها مع حياة البشر مباشرة، لذا تتطلب شخصية سوية على اعتبار أن كمال أخلاقيات الطبيب ركن من أركان المهنة الطبية ككل، فإن افتقدها الطبيب لن يستطيع تقويم مبنى المهنة الطبية، بل لا تتشرف المهنة بانضمامه لها، و هي في غنىٍ عنه، ومن على نهجه.
كان أحمد بورة يتقن حسن التعامل، والرحمة، والعطف على المرضى، وفي الوقت ذاته، يغلب الحكمة، والعقل في تقديم الخدمة الطبية، والحلم، والصبر، لا يتعامل مع المريض في عيادة المستشفى الحكومي بجفاة، وغلظة بعكس تعامله في العيادة الخاصة خارج المستشفى!! .
إن الأطباء الذين نعموا بطراوة الاشتغال بالعيادات الخاصة بدايات تخرجهم يعز عليهم أن يغيروا الوجهة إلى القطاع الصحي العام بعد أن وطنوا حياتهم المهنية على وتيرة جد مترفة.
لكن شرف مهنة الطب لا يقاس بمقدار ما تهب وما تعطي بقدر ما تقاس بنبل الرسالة التي يجب على كل منتسب لها أن يضعها نصب عينيه.
ولكون أحمد بورة عايش طبقة معينة من المغاربيين، وهدأ عليهم، بخبرته، شح الحياة وضنك الغربة.. فقد اختار له موقعا بينهم. وهذه المرة على أرض بلاده.
زيارات أحمد بورة السنوية للمغرب خلال العطل الصيفية كان يقضيها مع الوالدين والعائلة بمسكن  بالحي الصناعي ببني ملال. وسنة تخرجه كان على موعد مع حدث هام في مساره المهني، ولازال ملتصقا بجدار ذاكرته ذلك اليوم الذي التحق فيه بمقر وزارة الصحة بالرباط على عهد وزير الصحة العامة الأسبق الدكتور الشرايبي العربي.
وحينئذ دار بينه وبين الوزير الحوار التالي:
-هل ينقصكم طبيب بأحد المستشفيات العمومية؟
-غريب أمر طلبك هذا. فجل الأطباء الذين يتوافدون على مكتبي يلتمسون مني تسهيل إلحاقهم بمصحات خاصة للعمل بها كأطباء رئيسيين أو أطباء بالنيابة.. أما أنت فقد جئت قاصدا عكس ذلك.
-هدفي أن أكون في خدمة المرضى الفقراء.. فهم أحوج الناس إلى إسهامنا. والأحوج للاستفادة من خبرات الأطباء. مجتمع متكافل اجتماعيا وإنسانيا، يقتضي سعينا بالأساس لتغليب المصلحة العامة عن الشخصية.
وهكذا تم التحاقي سنة  كطبيب عام بواويزغت بإقليم أزيلال، تلك القرية التي تغفو بين أحضان الأطلس المتوسط، بطبيعتها العذراء الساحرة، وأناسها البسطاء، وبيوتها الترابية. قرية تنسيك صخب مدن الغرب. وتقربك من صفاء السماء حين تشع شمسا، وعبوسها حين تلبدها الغيوم، وبياضها الأخاذ حين تزين رؤوس جبالها تيجان الثلوج.
تلك القرية التي تبعد عن بني ملال بحولي 40 كيلومترا، مسافة قطع أحمد بورة ووالده جيئة وذهابا طيلة فترة  ممارسة الطب العام التي حددت في ثلاثة أشهر. في تلك الفترة، لم يكن أحمد بورة يسمع بمنع أطباء القطاع العام من الاشتغال بالقطاع الخاص. فالبلاد كانت بحاجة إلى تثمين مواردها البشرية العاملة في مؤسساتها العمومية والخصوصية بغاية تغطية الاحتياجات الصحية لوطن حديث العهد بالاستقلال.
وفرت السلطة المحلية لأحمد بورة سكنا جميلا بفيلا هيئت له خصيصا، وأجره الشهري البسيط الذي لا يتعدى 1600 درهم، لم يكن ليمنعه من استقدام أبويه إلى واويزغت.. وحتى لا يشعر برتابة حياة البلدة كان يستغل نهايات الأسبوع للتجوال بأزيلال وحواضر الجوار كآيت امحمد وآيت بوكماز.
سفريات كانت تغمر والديه بسعادة لا توصف وتجعله يوثر الله تعالى بالحمد والثناء لتمكينه من البر بوالديه والإحسان إليهما عملا بقوله جل شأنه “وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا”.
لم يكتف بتقديم العلاجات والخدمات الطبية للمواطنين بالمستوصف الذي كان قبل مجيئه مجرد بناية مهجورة، بل استعان بأفلام التوعية الصحية التي طلبها من وزارة الصحة العمومية ليقدم للأهالي معلومات شاملة في مجال الأمراض المعدية كالسل والكوليرا والأمراض التناسلية. أشرطة تحسيسية كان يعرضها أيام التسوق الأسبوعي لمدة ساعة زمنية كانت كافية للرفع من مستوى الوعي الصحي لمواطني البلدة.

إعداد: مصطفى السالكي

Related posts

Top