الدكتور أحمد بورة.. من ذاكرة مناضل تقدمي

الحلقة 24

شهد مغرب ما بعد الاستقلال وقائع سياسية كبرى مست الدولة والمجتمع، وأحداثا مؤلمة ميزت التاريخ السياسي للمغرب المعاصر، ومحطات كان لها تأثير كبير على ما نحياه اليوم من حراك لا يختلف في أهدافه، برغم اختلاف الأسلوب والأدوات المستعملة فيه، عن حراك أشد وأقسى كان فاعلوه مناضلين من طينة متميزة، استماتوا من أجل حق الشعب في إسقاط الفساد وفي نظام ديمقراطي وفي عيش كريم. فظلت أعينهم على الدوام شاخصة نحو وجه مغرب مشرق وجميل.
ليس كل تاريخ هذه المرحلة من مسار الوطن مدونا. فمن المؤكد أن تفاصيل بقيت مخبأة تنتظر منا النبش في الركن الخفي من الذاكرة السياسية لرجالات رسموا بنضالاتهم أخاديد شاهدة على معلومات تفيد في إزالة بعض العتمة المحيطة بكثير من التفاصيل الغائبة.
في حياة هذا الرعيل الأول من زعماء وقادة سياسيين أحداث مختلفة، فردية وجماعية، لا يمكن الاستهانة بأهميتها، لأنها تشكل عناصر من شأن إعادة قراءتها وترتيبها تسليط أضواء كاشفة على صرح الحدث أو الأحداث التي كانوا شهودا عليها أو اعتبروا جزء لا يتجزأ منها.
لم يكن لنا من خيار للإسهام المتواضع في قراءة مرحلة ما بعد استقلال المغرب سوى طرق ذاكرة شخصية سياسية من الشخصيات التي راكمت خبرة سنين طويلة من النضال الملتزم، وما تعنيه من نضج ودراية وصدق في استحضار معطيات هامة ومثيرة يحصرها البعض في خانة «واجب التحفظ».
وقع اختيارنا على الدكتور أحمد بورة كذاكرة مفتوحة على أحداث النصف الثاني من القرن الماضي وعلى عقد من هذا القرن الجديد عاشها أو عايشها. لم يكن هذا الاختيار اعتباطيا. فالرجل لازالت شرايينه تنبض بالوطنية وبالأفكار التقدمية، يتابع عن قرب وعن كتب أخبار الوطن وقضايا الشعب. لا يختلف في ذلك عن أي  قائد سياسي تمتزج بين طيات شخصيته المتناقضات والمتآلفات.
يفتح لنا الدكتور أحمد بورة، طيلة هذا الشهر الفضيل، صفحات سجل حياته بنوع من الحنين لتلك الأعوام التي عاشها أو عايشها والتي يمكن أن تشكل بالنسبة إلى الباحثين والقراء  مرتعا خصبا  لكل من يريد البحث عما تختزنه الذاكرة من رؤى ومواقف وآراء ومعطيات….
أحمد بورة شخصية بارزة في حزب التقدم والاشتراكية العريق. حزب  ناضل، منذ أربعينات القرن الماضي، بتميز وبصدق وإصرار، رغم المنع والقمع، وذلك تحت يافطات متنوعة، فرض تغييرها صموده من أجل الأفضل للبلاد.
أحمد بورة، ابن الطبقة الشعبية التي ظل ملتصقا بها، بهمومها ونضالاتها وأحلامها، بادلا لها من ذات نفسه كل ما يستطيع أن يبذله المواطن الصالح لوطنه، وجاعلا من صدر الطبقة الكادحة، في أشد لحظات النضال قتامة، متكئا لينا يلقي رأسه عليها فيجد فيه برد الراحة والسكون.
من معين هذا المناضل، ومن  تفاصيل حياته الشخصية، نقدم لقرائنا هذه الحلقات التي حاولنا صياغتها على شكل قصص وروايات وأحداث، وأحيانا طرائف ومستملحات، لتعميم الفائدة ولتسجيل أوراق شاهدة على مرحلة من تاريخ ما بعد استقلال المغرب.

بنعبدالله:  زعيم شاب كرس الشجاعة السياسية لحزب علي يعتة واستقلالية أفكاره وقراراته

بدأ تعرف أحمد بورة على رفاقه في الحزب الشيوعي المغربي منذ التحاقه بالدراسة بثانوية ليوطي.
نعم. كان شمعون ليفي حريصا على الاتصال المكثف بالشباب. لبى أحمد الدعوة التي وجهها إليه.
كانت العلاقات الداخلية وسط الحزب، في ستينات القرن الماضي، تنتظم على شكل هرمي. كان أحمد بورة ورفاقه في حالة “شبه سرية” تقتضي منهم توخي الكثير من الحذر خلال اللقاءات التي ينظمونها أو خلال عمليات التواصل التي يجرونها مع بعضنا البعض، سواء داخل الخلية الأساسية بكلية الحقوق، أو مع خلية تلامذة ثانوية مولاي الحسن والخوارزمي وخلية ثانوية الخنساء التي كانت تضم رفيقات مناضلات.
كان أحمد بورة ينشط داخل هذا المحور الطلابي –التلاميذي. ولم يكن مسموحا له، إلى حدود تلك المرحلة، تجاوزه. كان يغبط بعض الرفاق الطلبة الذين كانوا مكلفين بالاتصال بالفلاحين داخل البوادي، كتقليد دأب عليه الحزب. كان نشاطه محصورا في الدار البيضاء. كان مسؤوليته لا تتجاوز الإطار الطلابي بالتنسيق مع الرفاق الطلبة الآخرين.
بعد تمرسه على صعيد هذه المسؤولية، أصبح يتابع نشاطات رفاق من أمثال أحمد بيوض وسي أحمد السربوتي وعبد الكريم فكري والحاج احمد بن بلا، والفقيه القوقجي الذي كان الكاتب الأول لناحية الدار البيضاء، آنذاك، وتمكن من معرفة العديد من الأمور، وبات لديه إلمام بالتنظيم على مستوى العاصمة الاقتصادية.
يتذكر أحمد بورة مؤتمر سنة 1966 الذي انعقد في أجواء تطبعها وتفرضها حالة السرية التي كان ورفاقه مجبرين على العمل في ظلها. كان التهيئ لهذا المؤتمر جيدا جدا، وتمت مناقشة أطروحته بعمق على مستوى الخلايا. لم يتم الاعتماد على تنظيم انتخابات، بل تم اللجوء إلى أسلوب التعيين تفاديا للتشهير بأنشطة الحزب، وحتى لا يتم الاطلاع على أسماء المؤتمرين الذين لم يكونوا سوى الكتاب الأولين للفروع والخلايا. وبالتالي كان عددهم لا يتجاوز بضع عشرات “40 إلى 50 مؤتمرا”. هذا العدد القليل سمح بألا تتعدى أشغال المؤتمر يوما واحدا فقط، خصوصا وأنه التأم بمنزل عبد المجيد الذويب بعين السبع في الدار البيضاء.
ورغم ضيق الفضاء الذي التأم فيه المؤتمر، والذي لم يكن سوى منزل الرفيق عبد المجيد الذويب، الذي كان يشغل آنذاك منصب مدير مدرسة تكوين الأطر، كان المؤتمر ناجحا على مستوى القرارات التي تم اتخاذها. فالحزب وضع، خلال هذه المحطة الهامة، قراءته الخاصة للاشتراكية العلمية بارتباط مع التراث التقدمي للحضارة العربية الإسلامية، وأعلن الديمقراطية اختيارا أساسيا لأسلوب تأطير المواطنين والارتباط أكثر بالشعب. كلها أفكار مهمة جدا تم تهييئها على مدار السنين من طرف قادة ومناضلي الحزب الذي سيعرف طريقه نحو الشرعية.
وقد اختتم المؤتمر أشغاله دون وقوع حوادث ولا طرائف. كانت النصيحة التي يتبعها جميع الرفاق لتفادي الوقوع في أيدي رجال المخابرات هي “احضي اجنابك ورد بالك لا يشدوك البوليس “.
كان عدد الرفاق أعضاء اللجنة المركزية فيها يعدون على رؤوس الأصابع. كان ولوج قاعة اجتماع اللجنة المركزية يتطلب أن يحظى الرفيق بمستوى عال من الثقة.وفي بداية السبعينات بدأ العدد في الارتفاع شيئا فشيئا وتواصل هذا التزايد بعد بروز حزب التقدم والاشتراكية الذي عقد مؤتمره الأول سنة 1975 الذي شدد على التوجه الوحدوي مع اليسار والوحدة النقابية ومواصلة العمل والتعامل مع حزب الاستقلال رغم اختلاف الرؤى والمواقف في أكثر من محطة.
ورغم إكراهات الدراسة والنضالات على الواجهة الطبية بعد التخرج، وتخصيص حيز هام من الوقت لمعالجة الفقراء والمحتاجين، ظل أحمد بورة لصيقا بحزبه الذي يعتبره مدرسة ونواة لإنتاج المناضلين، ومؤسسة تضم رفاقا عاهدوا أنفسهم على التمسك ا بآليات اشتغال حزبهم سواء في التحليل أو إنتاج الأفكار والتصورات، و الإسهام المشترك في تشخيص أوضاع البلاد وتحديد المواقف بخصوص عدد من القضايا.
ويرى أحمد بورة أن حزب التقدم والاشتراكية اليوم، بقيادة محمد نبيل بنعبدالله لازال متشبثا بالمفاهيم المؤسسة لفكر الحزب والمهيكلة لسلوكه انطلاقا من منهحية تحليل هذا الأخير للمجتمع ومن منطلقاته العامة المبنية على الفكر الماركسي بأسلوب وصيغة “ممغربة”، مشددا على أن الاختلاف الذي يميز حزب التقدم والاشتراكية المتشبث بقيمه ومبادئه التقدمية الاشتراكية عن باقي الأحزاب الأخرى، وهو الاختلاف المتجلي في المقاربة والمنهجية المتجددة التي يعتمدها في تحليله للواقع كما هو، والتي يبقى بها بعيدا على الدغمائية التي تسيطر على مواقف بعض الأحزاب وتجعلها متحجرة وخارج زمانها.
 تمضي السنون، يقول بورة، وتنتقل القيادة إلى الزعيم الشاب بنعبدالله، الذي كرس، من جهة، الشجاعة السياسية لحزبه واستقلالية أفكاره وقراراته، والتي عبر عنها بتحالفه مع العدالة التنمية الحزب المحافظ، هذا التحالف الذي يقول بشأنه أحمد بورة ، إنه جاء على أساس برنامج إصلاحي أملته ظروف المرحلة التي تجتازها بلادنا. ومن جهة أخرى خلق دينامية تواصلية قوية بين الرفيقات والرفاق والمواطنات والمواطنين من خلال اللقاءات التواصلية التي تساهم في إقدار مناضلين ومناضلات الحزب على فهم محيطهم وإكسابهم مهارات التحليل لتفكيك الواقع وسبر أغواره بناء على مناهج علمية، ومن ثمة تكوين مناضلين باستطاعتهم إنتاج الأفكار والتصورات. وهي لقاءات، برأي أحمد بورة، تؤكد تشبث كل المناضلات والمناضلين بهوية حزب التقدم والاشتراكية المبنية على قيم ومرجعيات اشتراكية تقدمية ثابتة من حيث الجوهر، وعلى مقاربته المتجددة في التحليل وتقديم البدائل الممكنة لحل القضايا والمشاكل المطروحة الشيء الذي مكنه ويمكنه من تفادي دغمائية المواقف ويجنبه الوقوع في البرغماتية والانتهازية التي كثيرا ما تقع فيها عدد من الأحزاب التي يعج بها المشهد الحزبي.

> إعداد: مصطفى السالكي

Related posts

Top