لقد برز مفهوم الدولة الاجتماعية في القاموس السياسي خلال القرن التاسع عشر في سياق خاص جدا. إذ يعود إلى مؤسس الوحدة الألمانية بسمارك Bismarck حينما أقبل على إقامة نظام الحماية الاجتماعية من أجل تضييق الخناق على البروز السياسي للحزب الديمقراطي الاجتماعي المحظور، وبالتالي دمج الحركة العمالية الألمانية. وشهد هذا التعريف المقتصر في البداية على الحماية الاجتماعية، انتشارا متزايدا ليشمل أربعة ركائز أساسية للدولة الاجتماعية، وهي على الشكل الآتي؛ الحماية الاجتماعية، وتقنين علاقات الشغل (الحق في الشغل والمفاوضة الجماعية)، والخدمات العمومية، والسياسات الاقتصادية (ميزانياتية، نقدية، تجارية، دخلية…) المدعمة للنشاط الاقتصادي والتشغيل.
وعلى هذا النحو، تبدو هذه المقولة أكثر غنا وعطاءً على المستوى التحليلي، من مقولة الدولة الحامية (أو دولة الرفاه الأنكلوساكسونية). فبينما هذه الأخيرة، أي الدولة الحامية، تفترض نوعا من الصدقة العمومية تجاه ساكنة غير مؤثرة، تقوم الدولة الاجتماعية، على العكس، على مقاربة حقوقية، حيث يتم في غالب الأحيان انتزاع الحقوق الاجتماعية بفضل نضالات اجتماعية.
فكيف هي الأوضاع بالمغرب؟ لقد تم استعمال مقولة الدولة الاجتماعية من قبل الحكومة على نطاق واسع حيث خصصت لها جزءا كاملا في برنامجها. ومنذ ذلك الحين، تعود هذه المقولة باستمرار في الأدبيات الرسمية والتدخلات العمومية، ويتم ذلك دون أن تكلف الحكومة نفسها عناء لتوضيح معناها. وبالعودة إلى البرنامج الحكومي، تشمل الدولة الاجتماعية إحداث دخل أدنى للكرامة، وتقديم الدعم للمسنين والأشخاص في وضعية إعاقة، وتعميم الحماية الاجتماعية، وتنمية الرأسمال البشري (مدرسة تكافؤ الفرص، وتطوير الرياضة والثقافة).
وكما نرى، يتعلق الأمر هنا بدولة اجتماعية في حدها الأدنى: تتجاوز الحماية الاجتماعية، ولكن دون المستوى المنصوص عليه في التعريف الموسع. وهكذا يتم تجاهل مجال السياسات العمومية، وهي القلب النابض للنشاط الحكومي، وإبعادها عن الدولة الاجتماعية. وهو ما يجعلنا نؤكد أن بلادنا لم تتجاوز بعد منطق الدولة الحامية، وهو ما يشكل خطأ سياسيا فادحا.
إن كل إشارة للدولة الاجتماعية تقتضي بالضرورة الحديث عن توسيع الطبقات المتوسطة، حيث عملت الدولة الاجتماعية في البلدان التي عرفت فيها تطورا، على زيادة هائلة للفئات المتوسطة، وذلك إثر توسع الوظائف الاجتماعية للدول بما فيها وظيفة الاحتكار العمومي، ومن الناحية الاقتصادية تُرجمت هذه السياسة بتوزيع جديد للخيرات، وهو ما أدى بدوره إلى خلق دينامية تربط بشكل متين التقدم العلمي والتكنولوجي، وتطوير التكوين والحماية الاجتماعية، علما أن جزءا مهما منها من تمويل هذه الحماية يقوم على مداخيل الفئات المتوسطة.
كما أن الدولة الاجتماعية مرتبطة بشكل قوي بالديمقراطية. فعبر النهج الديمقراطي، يتم التعبير على المواطنة، وتحقيق الانسجام الاجتماعي، وتبرم التوافقات الاجتماعية. وثمة ثلاثة أدلة تؤكد هذه الأطروحة: أولا تعتبر الديمقراطيات أكثر فعالية من الأنظمة السلطوية في تدبير الخلافات، وثانيا تعتبر الديمقراطيات أكثر تأهيلا لتجنب الكوارث وحماية حياة المواطنين في الحالات الخطيرة. وأخيرا تلعب الديمقراطيات «دورا بناءً» لصالح التنمية.
فمن خلال تسهيل انتشار المعلومة وتنظيم الحوار العمومي، تعمل الديمقراطيات على إشاعة المعرفة وتغيير السلوكات. وفي هذا الجانب، نشير أيضا وبنوع من القلق إلى العجز الذي نعرفه على مستوى الديمقراطية، وذلك على الأقل فيما يخص غياب الحوار العمومي حول المشاكل الأساسية لبلادنا.
كما أن الدولة الاجتماعية لا يمكن أن تكون الآلة الطيعة لمصالح الطبقة المهيمنة، أو عكازا للرأسمال، ودولة للاحتكارات أو «مجلس إدارة» للبرجوازية، كما عبر عن ذلك كارل ماركس. إنها أيضا وبصفة أقوى تعبير للتناقض الرئيسي بين تشريك القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج الرأسمالية. فالتشريك الدولتي والعمومي للإنتاج والاستهلاك يحتوي في ثناياه جذور التناقض الرئيسي مع منطق التراكم الخاص للرأسمال. وهكذا فمفهوم «الضمان الاجتماعي» كما تم وضعه من قبل مؤسسيه يقتضي وجود بنك اجتماعي غير خاضع للسوق، والذي لا يحول الاشتراكات المقبوضة إلى رأسمال قابل للتراكم، بل على العكس، يقوم بتوزيعها على المؤمنين والمرتفقين. وهكذا يشكل الضمان الاجتماعي نوعا من تجاوز العلاقة الأجرية الرأسمالية، والقطيعة بين الاجتماعي والاقتصادي، مادام هذا البنك الاجتماعي غير السلعي لا يستثمر ولا يضارب في الاشتراكات التي تم تجميعها. بل يوزعها على المستفيدين، ليس بحسب عمل كل واحد، ولا بحسب اشتراكه (وبالتالي حسب دخله)، ولكن حسب تعضيد مساهمات المأجورين وأرباب العمل، في اتجاه تضامني للمخاطر الاجتماعية. فالحماية الاجتماعية هي بمثابة ميثاق أساسي في البلدان المتحضرة. فهي تعبر عن التضامن بين النشيطين والمتقاعدين، بين المرضى ومن هم في صحة جيدة، بين المأجورين والعاطلين. وللقيام بهذه المهمة يجب على الدولة الاجتماعية، بغض النظر عن إحساسات ممكنة، أن تتمتع باستقلالية نسبية تمكنها من تجاوز المصالح الفئوية المختلفة. وهذا هو المعنى الذي أعطاه التقرير الخاص بالنموذج التنموي الجديد «لدولة قوية». الدولة القوية هي الدولة العادلة، هي دولة الحق والقانون.
فلا وجود إذن لدولة الحق والقانون دون الأجرأة الفعلية لمبدأ تكافؤ المواطنين أمام القانون. فغالبا ما يتم الحديث عن تكافؤ الفرص، لكن الأمور تسير بشكل مغاير في الواقع. وما الفضيحة التي صاحبت مباراة الولوج إلى ممارسة مهنة المحاماة إلا مثال حي عن هذا التناقض.
> بقلم: د. عبد السلام الصديقي