خلد الشعب المغربي وأسرة المقاومة أول أمس السبت الذكرى 86 لمعركة بوفكران التي تعد واحدة من المحطات البارزة في مسيرة الكفاح البطولي للشعب المغربي من أجل كرامة الوطن وملحمة مجيدة في النضال من أجل نيل الحرية والاستقلال . وشكل الاحتفال بذكرى هذه المعركة البطولية المعروفة أيضا باسم “معركة الما لحلو” (المياه العذبة ) المحفورة إلى الأبد في الذاكرة الوطنية الجماعية فرصة لاستعادة التضحيات الجسيمة التي قدمها الشعب المغربي من أجل الانعتاق من رقبة الاستعمار والحفاظ على ثوابت ومرتكزات الأمة المغربية . اندلعت انتفاضة ماء بوفكران في مستهل شهر شتنبر من سنة 1937 عندما اصطدمت ساكنة مكناسة الزيتون بغلاة المستوطنين والمعمرين المتطاولين على الموارد المائية للسكان والفلاحين. وجاءت تلك المعركة الحاسمة التي خاضتها الجماهير الشعبية الغاضبة بالعاصمة الإسماعيلية لتنذر الاحتلال الأجنبي باستمرار روح النضال وصمود المغاربة في الدفاع عن وطنهم ومقدراته وخيراته وسيادته، وبأن الإجهاز على المقاومة بجبال الأطلس والجنوب المغربي في أواخر سنة 1934 لم يكن يعني استسلام المغاربة للأمر الواقع. فلقد أصر المناضلون على سلوك خيار جديد بنقل المعركة من الجبال والأرياف إلى المدن والقرى، والانتقال من أسلوب المواجهة المسلحة المتفرقة إلى مرحلة المقارعة السياسية الواعية، وتعبئة الجماهير الشعبية منذ منتصف الثلاثينات بالعديد من الحواضر المغربية إلى حين إنهاء عهد الحماية ووضع حد للتسلط الاستعماري. لقد تضافرت عدة عوامل موضوعية لاندلاع المواجهة فيما عرف بـ “معركة الماء لحلو”، كان من أبرزها إقدام السلطات الاستعمارية على تحويل جزء من مياه وادي بوفكران وحصره على المعمرين لتستفيد منه ضيعاتهم، وكذا المرافق المدنية والعسكرية الفرنسية بالمدينة الجديدة في وقت كانت فيه حاجة السكان إلى هذه المياه ملحة ومتزايدة. حدث هذا في بداية تبلور الوعي الوطني عند ثلة من الوطنيين المكناسيين الذين كانوا على اتصال دائم بقيادة الحركة الوطنية بأهم المدن المغربية وخاصة بفاس، فاستشعر هؤلاء الوطنيون تذمر السكان من جراء النقص الحاصل في المياه التي تتزود بها المدينة وأحياؤها الشعبية العتيقة، خاصة أن الأمر يتعلق بمادة حيوية. وكان هذا الوضع الاجتماعي سانحا لشحذ همم وعزائم المواطنين وإلهاب حماسهم لخوض غمار المواجهة المباشرة مع قوات الاحتلال الأجنبي في بداية شهر شتنبر 1937 بعــد إصدار السلطات الاستعماريـة لقرار وزاري فـي 12 نونبر 1936، ونشره بالجريدة الرسمية عدد 1268 بتاريخ 12 أبريــل 1937 لتوزيــع ماء وادي بوفكران بين المستوطنين والمعمرين وسكان المدينة، وإحداث لجنة لتنفيذ هذا القرار في 12 فبراير 1937. وقد نجم عن هذا الوضع الجديد والطارئ انعكاس سلبي وتأثير قوي في تفاقم أحوال ساكنة مكناس، لاسيما وأن المجتمع المكناسي كان يعيش ظرفية صعبة تمثلت في الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي مست أوسع الفئات والشرائح الاجتماعية مع قيام السلطات الاستعمارية بفرض ضرائب مجحفة، وحرمان السكان والتنكيل بهم وتهجيرهم من المدينة القديمة إلى المدينة الجديدة بغية الاستحواذ على أجود الأراضي الفلاحية الخصبة بنواحي المدينة. وقد أدت هذه الأوضاع المتأزمة إلى تفجير ثورة المكناسيين بعد أن استنفذوا كل أشكال النضال السلمي والاحتجاجات الهادئة وتقديم العرائض وتكوين لجنة الدفاع عن ماء بوفكران، حيث تمادت السلطات الاستعمارية في تعنتها وتماديها في تطبيق قرارها الجائر وفي تقليص وإضعاف صبيب ومنسوب مياه واد بوفكران وتحويله لصالح أهدافها التوسعية، فكانت انطلاقة انتفاضة ماء بوفكران في فاتح وثاني شتنبر 1937 حدثا تاريخيا وازنا ومتميزا، جسد فيه المكناسيون أروع صور ومواقف النضال الوطني، مسترخصين التضحيات الجسام في مواجهة القوات الاستعمارية التي أدهشها رد فعل أبناء المدينة، ولم تكن تتوقع أبدا أنهم وصلوا بعد إلى مستوى النضج والتنظيم السياسي القادر على مواجهة القوات الاستعمارية الكثيرة العدد والمجهزة بأحدث الآليات والمعدات العسكرية، فكانت معركة ضارية ورهيبة لم يتوان الوطنيون والمناضلون وساكنة مكناس بكل فئاتهم وشرائحهم في خوض غمارها بشجاعة وإقدام، تحديا للوجود الأجنبي، وتصديا لمؤامراته، وصونا للعزة والكرامة، ودفاعا عن المقدسات الدينية والثوابت الوطنية. كما مثلت هذه الثورة المباركة لساكنة مكناس والنواحي فاتحة عهد جديد في مناهضة سياسة المحتل الأجنبي، وكانت هذه المعركة الغراء إيذانا بالتحول الذي طال إستراتيجية مواجهة المغاربة للاستعمار، بنقل المعركة من الجبال والأرياف إلى الحواضر والمدن والدخول في صيغة جديدة لأعمال المقاومة، تُزَاوِجُ بين الكفاح المسلح والنضال السياسي الذي بدأت إرهاصاته الأولى تظهر على الساحة الوطنية في منتصف الثلاثينات من القرن الماضي. وحسبنا أن نستحضر في هذا المقام ما قاله جلالة المغفور له الحسن الثاني عن معركة ماء بوفكران عند زيارته لهذه الربوع العريقة يوم 27 يوليوز 1992م “… قضية بوفكران: بوفكران وما أدراك ما بوفكران، لأنني لما فتحت عيني في الثامنة من عمري وقعت واقعة بوفكران، واستشهد فيها الرجال والنساء، حيا الله شهداء بوفكران، وحيا الله الناس الذين ضحوا بكل غال ونفيس في سبيل الحفاظ على مائهم، ذلك الماء الذي حَبَّسَهُ جدي المولى إسماعيل رحمة الله عليه على مدينة مكناس، وها هو حفيده اليوم بكل سرور وفرح يقول لكم: إن بوفكران سيرجع كما كان أو أحسن ..”. لقد أبانت حاضرة مكناس عن ادوار بطولية مجيدة أربكت مخططات القوات الاستعمارية، فكانت تتويجا للمقاومة والممانعة التي خاضها الوطنيون وعموم المواطنين بالمدينة ونواحيها منذ احتلالها سنة 1911 من قبل الجنرال “مواني” والتي سجلت خلالها القبائل المجاورة صفحات بطولية خالدة من المقاومة، قبائل بني مطير وكروان وعرب سايس ضد القوات الغازية المحتلة. ولم تهدأ ثائرة المكناسيين في تجسيد مواقفهم النضالية التي تجلت مرة أخرى بقوة في معركة ماء بوفكران سنة 1937، فضلا عن الدور الوطني الكبير لرجالاتها في ملاحم النضال السياسي ونشر الوعي الوطني وإذكاء التعبئة وخوض غمار المواجهة المباشرة والمستميتة للوجود الأجنبي والتسلط الاستعماري، حيث كان لأبنائها حضور وازن في مناهضة ما سمي بالظهير البربري، وفي المواقف النضالية للحركة الوطنية، وفي تقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال، ثم في تعزيز انطلاقة المقاومة الفدائية إلى أن تحققت إرادة العرش والشعب بعودة الشرعية والمشروعية التاريخية وإشراقة شمس الحرية والاستقلال، لتتواصل نضالات أبناء هذه الربوع في ملاحم الجهـاد الأكبر الاقتصادي والاجتماعي لبناء المغرب الجديد وإعلاء صروحه. إن أسرة المقاومة وجيش التحرير، ككل سنة، وهي تخلد هذه الذكرى، لتجدد الموقف الثابت من قضية وحدتنا الترابية مؤكدين أن المغرب في صحرائه والصحراء في مغربها فهذه هي الحقيقة الساطعة المفندة لمناورات ومؤامرات الخصوم والحسابات المغلوطة للمتربصين بالوحدة الترابية والسيادة الوطنية، وستظل بلادنا متمسكة بروابط الإخاء وحسن الجوار والدفع في اتجاه بناء الصرح المغاربي وتحقيق وحدة شعوبه، إيمانا منها بضرورة إيجاد حل سلمي واقعي ومتفاوض عليه لإنهاء النزاع المفتعل حول أقاليمنا الجنوبية. والمناسبة سانحة لاستحضار ما ورد في الخطاب الملكي السامي لعيد العرش في ذكراه 24، الذي دعا فيه جلالته المغاربة إلى التمسك بخصال وقيم طالما شكلت مكونا هاما من الهوية التاريخية الوطنية، وهي الصدق والجدية والتسامح والانفتاح والاعتزاز بالتقاليد العريقة والهوية الوطنية الموحدة. وخص جلالة الملك بالذكر في خطابه السامي خصال وقيم الجدية والتفاني في العمل، ودعا جلالته إلى استحضار هذا المكون الهام من أجل الارتقاء بالمسار التنموي المغربي المتفرد إلى مرحلة جديدة، من أجل فتح آفاق أوسع من الإصلاحات والمشاريع والبرامج والأوراش الكبرى.
إعداد للنشر: سعيد ايت اومزيد