السرد الروائي والقصصي في المغرب، عرف طفرة مهمة، شدت انتباه العالم العربي، رغم أن النقد في المغرب لم يحوله بعد لورشة للاشتغال، ليس قصد التعريف به، بل الكشف في متونه عن القيم الجمالية المضافة لمشهدنا الأدبي، وكيفيات التعبير عن القضايا المطروحة فيه، بأية لغة كتبت، وأية آليات استخدمت، ما مدى أصالتها ومن أين تمتح؟؟
مثل هذه الأسئلة كفيلة ببث روح المتابعات النقدية، التي عليها الانتقال من مقاربات النظرية التي تزخر بها الساحة الفكرية، ومحاولات تطبيقها على نصوصنا، ربما يتم من خلالها كشف الخفي في النص وتأكيد فعالية نظرية ما، وبذلك نثبت كونية النظريات المقاربة والفاحصة لفن السرد وحتى الشعر، بل إن الجديد كما أزعم، ليس في تقنيات الكتابة، كالاسترجاع وتكسير التتابع الزمني، أو جعل السرد نفسه أو صاحبه تيمة، بل إن قوة السرد هي لغته، وهنا ضرورة الشعري في الرواية والقصة، صورة أكثر تعبيرية عن المتخيل وحتى المعاش كما يراه الروائي أو القاص.
قضايا وأشياء
يعرف المشهد السردي المغربي تحولات مست القضايا التي اعتاد الأدب المغربي التطرق إليها، بحثا عن خلق مسافات بينه وبين السرد المشرقي والعربي بشكل عام، وقد اعتاد الفكر المغربي على تمييز نفسه، بما يفيد نزعاته العقلانية، وتجاوزه المبكر لقضايا يبدو أنها كانت محكومة بما يشبه الحكم والمواعظ الروحية التي ميزت السرد المشرقي وروحانياته حتى في جرأته على فضح اليومي، ومراعاته للشعور العام، بحيث ظل الجسد في التجارب التأسيسية محاطا بما يشبه الانزياحات المقصودة والمراعية للحكم الجمعي، النافر مما يمس قيم الاستحياء العام، مع وجود محاولات ذات جرأة زائدة في المشهد العربي، خصوصا العراقي منه ومن الروائيين الذين عاشوا خارج بلدانهم، بعيدين عن التأثيرات العامة، التي كانت تلاحقهم اجتماعيا، وقد كانت التجارب المغربية بعيد الاستقلال محافظة على النزوعات المتجنبة لإثارة الحس الجماعي، ما عدا ما كتب باللغة الفرنسية، وبذلك نوع السرد المغربي تيماته من خلال القضايا التي اختارها الروائيون المغاربة وكيفيات التعامل حتى مع القضايا القديمة، وبذلك وجدت الأشياء طريقها للبروز في السرد المغربي، ولم تعد مجرد أثاث، يسهل استعراض القدرة التوصيفية للقاص أو الروائي، بل غدت الأشياء كائنات فارضة لوجودها، وحتمت اعتبارها وظائف توحي بتشظي العالم، وعدم قدرة الكائن البشري على تملكه والتصرف به كما يشاء.
اللغة والإيحاء
امتدت متغيرات كثيرة للغة السرد المغربي، وتقاسمت التنوع التعبيري، حسب اختيارات المبدعين، فبرز التعبيري المفارق، ذاك الذي يبحث في القول عن لبسه وليس وضوحه، ليرغم القارئ على تجديد الصور المعتادة في ذهنه، وتطهيرها من المكرر والمعتاد، بحيث تبدو التعابير مستجدة في عالم التواصل السردي، بما تحبل به من مفارقات تعبيرية، تغني المشهد، بعيدا عما عرف بالعبثية أو حتى اللاعقلانية، التي تعتبر العالم فوضى نظمها العقل حفاظا على سيادة الإنسان وقبولا بحضوره الجوهري الوهمي، لكن في المقابل كانت للسرد المغربي المعاصر اختيارات أخرى، متحت من الشاعري، بحيث حاولت التأثير جماليا في المتلقي، لينصت من خلال القراءة لإيقاعات الكلمات، وهي تنجز متونها الجميلة حتى وهي في أقصى درجات دراميتها وسوداويتها الجميلة، وهنا أستحضر فعل التخييل بآليات لا تستحضر الأشياء بل صورها المغايرة لها في وجود مخالف للوجود الواقعي كما دشنته الرواية الواقعية والقصة المحاكية لتيمات الحياة المعاشة كيفما اتفق
الشخوص والأزمنة
لم يعد الشخص كائنا، يجد السارد ليجعل منه كائنا منسجما نفسيا مع ما يقدم عليه، كبطل، يواجه، من يعيشون مفارقات بين ما يعتقدون وما يفعلون، كصيغة معوضة لصراعات الشر والخير كما ابتدعت في الأساطير والسرود القيمية والوعظية التي تعيشها التجارب الأدبية في بداياتها وقد تعود إليها بطرق مختلفة في درجات ظهورها واختفائها، فالشخوص صارت حاضرة بأصواتها، وأحيانا كذكرى في الكتابات السير الذاتية أو التاريخية، مع التصريح بتضارب أحكام الناس حولها، بل إن السارد نفسه لم تعد له القدرة على حسم الحكم عليها، فهو واحد ممن عايشوها وليست له أية سلطة مرجعية عليها، وبذلك حتى الزمن نفسه تأثر بهذه التركيبة الأدبية، ولم يعد ممتدا مع حياة الموجودات العاقلة في الأحداث، بل إن الأحداث نفسها لم تعد المجسد الفعلي للزمن، بل إن الزمن لا يستحضر كمرادف للحياة أو استعادة لها، بل هو نفسه لم يعد شاهدا على شيء، بل هو حضور ضبابي، لا يزاح لكنه لا يزيح الأحداث ولا الشخوص.
إبداعية الأدب وسلطته
الفكر في الآداب، مختلف عن كل أصناف الفكر الأخرى، إنه فكر المتعة، وأجمل المتع ما كان لعبا، وليس لعبة، أي ما لا نرجو منه أية منفعة مادية، فليس تجارة، ولا يشبع بطون القراء، إنه فقط مصدر ابتهاج، وليس معنى ذلك أنه مفرح بالضرورة، فالمتعة الجمالية، لا تتحقق فقط بالفرحة، بل حتى بالحزن، عندما تكتئب حزنا على شخص أو من قضية ما، فإنك تجدد انتماءك إلى الإنسانية جمعاء، أليس هذا الشعور منتهى السعادة؟ هذا ما أعتقد، إن الأدب، يجعل من لحظة المتعة وعيا، وربما من الوعي متعة، رغم أنه يخدش الوعي الفردي والجماعي، ويؤجج فيه الجموح والرفض للمعتاد، في القول والحياة، من هنا تبدأ سلطة الآداب، لكنها سلطة، لا تستمد وجودها من السلط المعتادة، ولا من عنفها، ولا من سطوة الفكر الرمزية، سلطة الآداب، إنصات عميق لحاجات لا أحد يريد الاعتراف بها، إن هذا المبتغى، ليس له درب واحد، بل هناك طرق اختلفت باختلاف الحضارات، وتفاعلت فيما بينها، بل تلاقحت، بدون أن تكرر ذاتها، بتقليد الغير فيما لا يمكن اعتباره إبداعا وابتكارا، بل مجرد تشبه به، وإن كان التقليد يعتبر وسيلة للتعلم، فإنه في مجالات الإبداع يعتبر استلابا تشبها روحيا بالمختلف أو محاولة للتماهي معه، فبأية حجة يمكننا الدفاع عن فكرة تقليد آداب الغرب والانتصار لنموذجه، واعتباره أقصى درجات التطور الإبداعي؟؟ وهل رفض ذلك يعني العودة لماضينا الأدبي بغية تكراره والحفاظ على فنياته؟
إنسانية الأدب
فكرة صحيحة، فكل إبداع حتما هو موجه للإنسانية، إذ لم تعد اللغة عائقا بين المواطن الكوني، وقد فرضت العولمة تصور العالم كقرية صغيرة، وغدت حاجات الناس متشابهة بشكل غريب، فالمشتريات في العالم والمستهلكات صارت متطابقة، والنقل سهل إيصال هذه المتطلبات الحيوية لكل بقاع العالم بما فيها القرى النائية، فهل الإبداعات الأدبية سلعة؟ وهل تلبية الحاجات الفنية الروحية هي نفسها؟ فإن كان الغرب نموذجا في الصناعة والحرية وحتى الكرامة الإنسانية، والعلوم خصوصا، هل ذلك مبرر لأن نبدع كما أبدع روائيوه وأصحاب الفكر فيه؟ أليست الأذواق باعتراف فلاسفته مختلفة حتى داخل الحضارة الواحدة، فكيف نريد افتراض قيم جمالية موحدة تبريرا لتكرار نماذجه الأدبية؟ ألا ندرك أنه هو نفسه يساعد على ذلك، بتتويج أعمالنا الأدبية التي كتبت على مقاس مدارسه النقدية، بينما ترفض ثقافات الغرب المختلفة عن بعضها جزئيا تسويق نموذج فرنسي أو أمريكي بحجة انمحاء الحدود باسم القيم الإنسانية المشتركة.
ثقافية الأدب
ينتمي الأدب حتما للثقافة، والحضارات تتمايز عن بعضها باختلاف ثقافاتها، مع ضرورة عدم الوقوع في الخصوصية المغلقة، خصوصا بتبريراتها الدينية المتعصبة، ومادام الأمر كذلك، فالأدب تعبير عن حاجة وجدانية تختلف باختلاف العصور والثقافات، ولم تستطع أية حضارة فرض نموذجها الثقافي إلا على الحضارات المنهارة والمجتثة بفعل عنيف عصف بتراثها الفكري والفني والأدبي، أما وهي موجودة وحية فلها حتما مقوماتها الأدبية، وبصيغة أخرى، فبدل أن أقرأ المقلد لغيره في الأدب الغربي، أفضل الذهاب للجذور بدل الفروع، مادامت اللغات لم تعد تشكل حاجزا، وإن حدث ذلك فهناك اكتشاف قديم اسمه الترجمة هي مرحلة تمر منها كل الحضارات حتى لا تسقط في التكرار الفج لما يبدعه الآخرون، وفي هذه الحلة فإن الصور غير الحقيقية سرعان ما تنسى وتضمر حقيقتها بدون أن تخلف أي أثر يذكر، ولتلافي هذه الحالة، لابد من جهد نقدي يستحضر درجات حضور الغربي أدبيا في الإنتاجات العربية والتدقيق في قدرته على الاستفادة مما هو مغاير بدون تكراره مشوها أو مخفيا بسذاجة أدبية مضحكة.
التفاعل التأصيلي
هي عملية واعية، يمارس بها الأديب قراءاته لما جد في عالم الإبداع العالمي، بدون اختزال ذلك في لغة أوروبية واحدة، بل حتى بتجاوز مركزية الغرب نفسها، فهناك حضارات أخرى، لم تكتشف كليا إبداعاتها الأدبية، والأدباء الغربيون أنفسهم يبحثون فيها أنثروبولوجيا وحتى أدبيا، فالأديب لا يخنق نفسه، لكنه يؤرقها بما يستشعره بعد أن ينهك نفسه أدبيا، ويشعر أن خياله ضاق، وعليه أن ينعشه بإضافات جديدة، وأصيلة، ولا ضير من إطلالات على ثرات الغير الأدبي بدون أي شعور بالدونية أو التفوقية المغايرة، التي نعاني منها خصوصا في المغرب مع الإشادة المفارقة بما ننعته بالآداب المغربية، رواية وقصة وحتى شعرا، بل هناك من يفاخر بمصادره الغربية التي استوحى منها نموذجه في الكتابة الأدبية بدون تمهل أو حتى خجل.
خلاصات
التميز عندما نرغب في تحقيقه في زمن قياسي، ونعتقد بفكرة حرق المراحل، نسقط في تكرارية قاتلة، قد تعطل بناء الذات الأدبية، وتسقطها في عقم لا يبدع نموذجه الخاص، بل يحن للماضي منه أو يستورد الحديث ليؤثث به مشاهده، رغبة في تحقيق عالمية مختزلة بدرجات تحنيط جديد أو دفن قديم حتى لو كان حيا.
بقلم: حميد المصباحي
كاتب روائي