السرد الروائي..المخاض والولادة

 عند قراءتي لنصوص روائية من الشرق والغرب، تركّز اختياري لها على قاعدتين: الأولى ذاتية، وهي ما شدّ انتباهي، واستحْوذ عليّ، فأحسستُ بشيء جديدٍ، لَمْ ألْمسْهُ في أعْمال أخرى. والثانية موضوعية، وهي الابتعاد، ما أمْكنَ، عن النصوص التي أصبحتْ مبتذلةً، أو متداولةً على نطاقٍ كبير، يَجْترُّها النقاد والقراء، حتى أنّها حَجَبتْ كلَّ الأعْمالِ التي تَلَتْها، ولَمْ تُفْسِح لَها الطّريق للْمُرور والظُّهور. وباختصارٍ شديدٍ، احتكرتْ سوقَ القراءة والنقد، وإن كان بعضُها، وهو قليل جدا، لَمْ أستطعْ أن أتَخلّص منه، لأنّني أصبحتُ رهينةً بين يديه!..وبعد أنْ انتهيتُ من قراءتها، لمستُ بينها عناصرَ التقاءٍ وعناصِرَ افتراقٍ، بالرَّغْم من الاختلافِ الكبير بين البيئين، ثقافيا وسياسيا واجتماعيا…كما لاحظت أنه لا توجد مواصفاتٌ دقيقةٌ ومعيَّنةٌ في الكتابة بصفةٍ عامّة، سواء السّردية أو الشعرية، باستثناء ما يتعلق بالمتعلمين، لأنهم في طَوْر الدراسة والتكوين. أما المبدع، فلا يحتاجها قَطْعا، لأنه بطبيعته متحرر من كل القيود الفنية والفكرية، بل هو من يبدع طرائقَ جديدةً في التعبير، وإلاّ لماذا نُسَمِّيهِ مُبْدِعاً، إذا كُنّا (سنفْتَحُ أمْتِعَتَنا، فَنَجِد بِضاعَتَنا رُدّتْ إلينا)؟!..وهكذا نرى أن الكتابة، دائما، حُبْلى، تُنْجِب صورا ورؤى وأساليبَ متنوعة ومختلفة عما هو كائن وجارٍ. وأمّا الكتابة التي تقتدي بالسائد والْجاهز، فهي لا تَعْدو مُجَرّد نسخة مشوّهة له، لا تُضيف شيئا إلى عالَم الكتابة، ولا  تُسْهِم في صَقْلِها وتَطْويرِها.
ولمّا كان الشيء بالشيء يُذْكَر، يوصي الناقد والروائي كولْنْ وِلْسُنْ الكُتابَ الجُدُدَ، بأنّ عليهم ـ إذا أرادوا أن ينجحوا ـ ألاّ يتأثروا بالرؤية الفنية للروائيين الكبار، لأنهم سيسقطون في فَخِّ التقليدِ والنّسخ، ورُبّما يتعوّدون عليهما، إذ ينبغي أن يعكسوا في كتاباتهم ما يصدُر عن ذواتهم، لأن الكتابة، هي أولا ونهايةً، حَفْر في الأنا العميقة، وغوْص في الذات!   
   ويُمْكِنُني، بلا تَحَفُّظ، أنْ أقول إنّ عددَ طُرُقِ الكتابة، يُعادِل عدد النصوص في العالم، فكلٌّ مِنْها يَحْمِل بين طياته أسلوبا خاصّا به، لا يثْويهِ سواهُ، وذلك هو الإبداع الْحَقيقي الذي يُعَوَّل عليه. وحين نفضتُ يدي من قراءة تلك النصوص المتنوعة، ألفيتُ نفسي قد ودّعتَ بَحْرا من طرق وأساليب الكتابة الفنية، وحتى من القضايا والأفكار والرؤى، وهو ما عناهُ أبو عُثْمانَ عَمْرو الْجاحِظ بقولتِهِ الذَّائعةِ: (الْمَعاني مَطروحةٌ في الطَّريق…)، أي أنّ النّصّ يُنْسَج بالأدواتِ الأوليّة كالكلمات، وليس بالمعاني الْمَعروضة فقط. وفكرة الجاحظ هذه، هي ذاتها التي قال بها، فيما بَعْدُ، الشاعر سْتيفانْ مالارميه: (إنَّ الشعر لا يُصْنع من الأفكار، بل من الأشياء، أو من كلمات تدلُّ على الأشياء). ولتفسير ذلك، يأتي الْجاحِظ بِمِثالٍ؛ فالصائغ يصنع خاتَما من الذهب، وإذا أردْتَ أنْ تُقَيِّم عَمَلَه، تنظر إلى الْخاتَم من حيث إنه خاتم، لا إلى الذّهب، فَهُو ليس إلاّ  مادّةً من الْمَوادِّ الأوليّة، التي تشبه (الْمعاني الْمَطروحة على ناصية الطريق)! ويلتقي هذا الرأيُ مع آخر للروائي العالمي وِلْيَمْ فوكْنَرْ، فحين سأله بعضُ الكتاب من الجيل الجديد: هل يمكننا أن نصبح كتابا كبارا، لأن في جعبتنا رصيدا هامّا من الأحداث والأفكار والمواقف؟ أجابهم: هذا لا يكفي، لأن مشكلة الكتابة تكمُن في كيف تلتقطون تلك الأحداث! كما أنّ الكتابة تعني إنتاجَ معنًى، لم يكن موجودا من قبلُ، ولَمْ يَخْطُرْ على بالٍ، ولا تُمَثِّل الواقعَ ولا تُحاكيه، ولا تُحاول خلقه من جديد.
   إن للكتابة واقعا خاصا بها، إنْ لَمْ تُنْجِبْ مَعْنى جديدا، أو لَمْ تُغْنِ الكائنَ، فهي أنْثى عاقر. والكاتب الحقيقي، هو الذي لا يرضى مطلقا بما يكتبه، وما يُدَبِّجُه قلمُه، لن يكون، بالنسبة إليه، جيدا كما ينبغي. وعليه أن يحلُم دائما، وينمي طموحاته، فلا ترسو سفينته عند مَرْفَإٍ، بل يرحل إلى مرافئَ أبعد، لكي يبدع ويبتكر ويأتي بالجديد. فالكاتب الذي يغترُّ بما يصل إليه، ولو نال تصفيقاتِ قرائه، وفاز بِجَوائزَ، لا يستطيع أن يستمر أكثرَ في الكتابة الإبداعية، والقناعة فيها كنز يفنى، فيعود صاحبُها إلى نقطة البداية، أي دائرة الصفر!
  ولعل البعضَ سيثير السؤالَ التالي: لماذا (الرواية) بالضبط، وليس (القصة أو الأقصوصة) التي تسير مع إيقاع العصر السّريع الذي يكتفي بـ (ما قلّ ودلّ) لأن عصر الرواية وَلّى، حين كان الإنسانُ يقضي فصلَ الشتاءِ قابعاً في عُقْر بيته؟
   وجوابي أنّ هذا ليس مُبَرِّرا لإلْغاءِ جِنْسٍ أدبي؛ فأنا، مثلا، أجد نفسي في قراءة الرواية، أكثر من القصة، لأن عالم الأولى فسيح، يسَعُ كلَّ الأفكار والمواقف والأحداث والشخوص والأمكنة والأزمنة.. وفيه يفصل الروائي القوْلَ، ويجد حريته كاملةً في أن يسرُد ما يشاء. كما أن القارئ يسافر بعيدا في الرواية، فيسبح في أجواء متباينة وساخنة، كأنه أحدُ أبطالها. بينما الثانية، مجال مغلق، محدود بشخوصه ومضمونه، ومكانه وزمانه، ما يتطلب أن يكون القاص متمكنا من الأدوات الفنية، كالتركيز والتكثيف، والاقتصاد في اللغة، كي يعثرَ له على مكانٍ في فؤاد المتلقي. هذا الفرق بينهما، هو الذي يخلق جاذبية القارئ للرواية، وهو ما نصطلح عليه بـ(تقنيات السرد أو الكتابة) أي الأساليب الفنيّة والغنية، التي يستعملها الكاتب في سرد نصه الروائي، وغالبا ما يستعملها تلقائيا، دون أن يدركها جيدا. وكمثال، كان الروائي المغربي الراحل محمد زفزاف يقول: (أستفيد من النقاد كثيرا، لأنهم ينبهونني إلى تقنيات أستخدمها، ولا أشعر بها). لأن العملية الإبداعية هي مخاض عسير، ومعاناة قاسية، وولادة للنص، وليستْ تفكيرا قبليا، وإنْ كانتِ الذاتُ أرضَها الْخَصيبة. وفي هذه النقطة، تحضرني قولة لأرنيستْ هِمنجْوايْ، يعتبر فيها  (الْمُعاناةَ) خاصيةً أساسيةً في الكتابة، وينصح الكاتبَ، إذا أراد أن يكتب بِـ(شَنْق نفسِه) لأن الكتابة ليستْ هَيِّنةً طَيِّعةً، فـ(نِعْمَ النّصيحةُ من مُجَرِّب!). وهنا أتساءل: هل كان (بَابَا) هِمنجْوايْ يستعد لكتابة رواية ما، عندما عَجَز عن البداية، فأطلق رصاصةً على رأسه، عِوَضَ الشَنْق؟! هذا مُجَرّدُ سؤالٍ، لستُ مستعجلا في الإجابة عنه، فغداً سنلتقي في العالم الآخر، وهناك نناقش معه المسألة  بتفصيل، لكنْ، دون أنْ نشنق أنفسَنا!
    ويحضُرُني رأي آخرُ للروائي سلافوج زيزاك، يرى فيه أن النصَّ الروائي يشبه الجنينَ، والكاتبَ يشبه المرأةَ الحاملَ، التي تُدْرك أن لجنينها عينين وشفتين ولسانا، لكنها لا تستطيع أن تحدد ملامحه الصريحة! هكذا الكاتب تماما، عندما يتناول القلم لكتابة رواية، لا يعرف بالضبط كيف ينطلق إلى عالمها، وكيف يسير في مسالكها، ومتى تصل راحلتُه إلى نِهايتها، ولا ماذا ستتضمن من أفكار وأحداثٍ وشخصيات، قد تأتي في تلك الساعة، وهو لم يكن يفكر فيها بالمرة، فـ(الحبل على الجرّار) كما يقال، لأنّ الكتابة مخاض، يأتي لحظةَ الوضع، ولا يهيِّئ له الكاتبُ نفسَه. وهنا نستثني النصوصَ المدرسية والقانونية والطبية، التي تؤلَّف لغرض ما، يتقاضى عنها صاحبُها أجْراً. أما الإبداعية، فهي، وإنْ حُدِّدتْ موضوعاتُها سَلَفاً، إلا أن أمورا أخرى ستعترض الكاتبَ في طريقه، وتفرض عليه كتابتها. فإذا كان، مثلا، يكتب قصة أو رواية، وبطلها سيلقى في الأخير حتفَه، إثْرَ مرضٍ خطير، أو طَعْنةٍ في معركة، أو حادثة سير، وقاكم الله منها، فقد يُجَنِّبه الكاتبُ هذه النهايةَ المؤلمة، ويمدد حياته، لأنّه يتحكّم في شُخوصه الورقية، ويُوَجِّه مَساراتِها الْحَياتيّة، ويحكم لها أو عليها. وبالتالي، فالكاتب، لا يدرك كيف سينتهي عمله، ولا كيف سيبرز إلى حيز الوجود بالضّبط والدقة!  غير أن هناك من يُلغي فوقية الكاتب على شخوصه، ومنهم ميخائيل باختين، حين قال إنه ليس هناك أي أفضلية للكاتب على البطل، ولا أي فائض دلالي. وبذلك يلتقي مع جان بول سارتر في التساؤل التالي: (بأية ممارسة روائية، يحتل الكاتب مكانا متميزا عن شخصياته؟!). أي لا سلطة للكاتب على كائناته الورقية، لا عقلية ولا نفسية ولا فكرية، ولا حتى لغوية. ومن ثَمّة، يدعو باختين إلى أن تخضع الشخصيات الروائية إلى مستواها الاجتماعي والثقافي، ولا يُحاول الكاتب استعراضَ عضلاته عليها، بمعنى أنْ يُلْزِم كلٌّ من الكاتب وشخصياته حَدودَهُما، فلا يَتجاسَرُ أحدهُما ليتفوَّق على الآخر. وربما سنثير قضية شائكة، وهي: أنْ يتفوق الكاتبُ على شخصياته، ويتحكّم في مصائرها، فهذه مسألة مستساغة، لأنه مبدعُها، لكنْ، أن تتفوّق عليه، فهذا ما لا يقبله العقل!
   إنّ الكاتب، أحيانا، يتماهى مع شخصياته، فيطلق لَها الْعِنانَ لتفعل ما تشاء، وتقول ما تشاء، وإذا بها تنفلتُ من قبضته، دون أن يشعر، فتصبح شهرتُها متفوقة على شهرته، حتى يختفي في ظلها، ولا يعود القراء والنقاد يذكرون إلا هي. وعلى سبيل المثال، شخصية (دونْ كيشوتْ) التي تتردد على الألسنة أكثر من مؤلفها، ويوظفونها في كتاباتهم وخطاباتهم، غير أنّ الكثيرين لا يعرفون  صاحبها، الروائي الإسباني (ميغيل دي ثربانتيس) كما يذكرون شخصية (يشار) بدل صاحبها الكاتب التركي الساخر (عزيز نيسن). وهكذا يبدو أنّ على الروائي أنْ يكون حذِرا ويقظا في معاشرته لشخصياته، كـمَـنْ يسير في أرض مزروعة بالألغام، كيلا يحدث ذلك التّباعد والتّنافر بينهما! وإذن، عند تحليل عمل روائي، ينبغي تحديدُ تقنياته، لمعرفة الطريقة التي تتخذها عملية السرد؛ كظهور السارد، أو تواريه، وكالأسلوبِ الْمُركّز، والحِوارِ الذي يُبلْوِر أفكارَ الشخصياتِ وآراءَها وطُموحاتِها ونواياها وأحاسيسَها الدَّفينةَ. كذلك، التحول في الزمن، كأنْ يعودَ الكاتبُ إلى الخلف، لإظهار حدث ما، وعلاقته بالمستقبل. والرمزية، هي تقنية أيضا، ونعني بها شيئا يوحي بشيء آخر، كالعيون، التي تحمل دلالات غير مادية. وتيار الوعي أو الْحِوار الباطني، واستحضار الْماضي، واستغلال التراث، ومُفارقة السُّخْرية، وتعزيز النَّصِّ بالرسائل، وما يستقيم ويلائم من لَهَجاتٍ، عند الضّرورة القُصْوى، وما تقتضيه الحالة!

 بقلم: العربي بنجلون

Related posts

Top