السرد وقيمة الذاكرة التاريخية في فلسفة بول ريكور

 إن من يقرأ لبول ريكور، يخلص إلى أنه يعمل جاهدا في جعل الخيط الناظم للكتابة السردية، وهي السمة التاريخية التي تستنجد بعدة مفاهيم تتشكل من السرد والذاكرة والتاريخ والشهادة. هذا وقد كان هَم بول ريكور هو إعطاء معنى لكل ما هو ماض قد يقع ضحية النسيان.  `
فيما نجد أن من غايات السرد، العمل على تمثيل الذاكرة التاريخية، ففي هذا المبحث سنحاول التفكير في العلاقة الملتبسة بين بنيات ثلاثة في فلسفة بول ريكور، والتي تتعدد كالتالي: السرد والتاريخ والشهادة.
إن أول ما حدثنا عنه بول ريكور هو آلية التمثيل؛ وهو استراتيجية للحبكة أو البناء السردي التي تبتدئ عند النص. إذ الحبكة كما يعرفها بول ريكور هي تركيب بين أي عناصر، هي “قبل كل شيء تأليف أو تركيب بين الأحداث والعوارض التي هي متعددة، وبين القصة الواحدة المكتملة”1. والحبكة في معناها العام هي ضرب من الجمع والترميم لمجموعة من القصص في قصة واحدة. مما يمنحها هوية سردية تجتمع فيها الأحداث والأزمنة والشخوص والقيم. فقوة الحبكة متجلية في قدرتها على التوليف بين المتناقضات والمتنافرات الإنسانية في التأليفات السردية.
ويمكننا تزكية القول بأن “الحبكة، التي هي المكون السردي المركزي، ليست سوى تأليف إبداعي للزمن، يستخرج من تشعب التجارب العشوائي. كلاً زمانياً موحداً. إذن ليست قدرة الخيال على تصوير الزمن بالفن الخفي المخبوء في أعماق الروح، بل هي في عملية الصياغة التصويرية للحبكة السردية وتكون عرضة للتحليل التفسيري”2.
لا شك إذا كان للذاكرة قيمة فأين تتجلى هذه القيمة؟ طبعا هو الأمر جلي في علاقتها بالسرد بوصفه حاملا للزمن الإنساني. فقيمة الذاكرة تتحقق في مصداقية معطياتها وحقيقتها.
هنا نستدعي مفهوم استعاره ريكور وهو مفهوم الشهادة ووظيفتها في سد ثغرة تكمن في صحة ما تقوله الذاكرة وتمدنا به.  وفي هذا المنحى نجد أن علاقة الشهادة بالسرد والتاريخ؛ علاقة ملغزة وتتشابك أركانها في الفهم والاستيعاب. وذلك معزو للدور الذي تلعبه الشهادة، إذ أنها في السياق “الإبيستيمولوجي تشتغل على مستوى تمثيل الماضي في القصة وطرق البلاغة والتصوير”3، والشهادة طبعا هي استحضار الماضي بأحداثه المعاينة وتمثلها بالقول لحظة الزمن الحاضر. هذا الاستحضار يكون ضمن اشتغال التمثيل بدوره في استثمار الذاكرة التاريخية سواء الشخصية أو الجماعية في البناء السردي. وتلعب الشهادة دورا أساسيا، متمثلا في كونها تقودنا “دفعة واحدة من الشروط الشكلية إلى مضمون «أشياء الماضي»، من شروط إمكانية الوجود إلى القضية الفعلية لعملية كتابة التاريخ. مع الشهادة تفتح دعوة إبستيمولوجية تنطلق من الذاكرة الإخبارية، وتمر بالأرشيف والوثائق، وتنتهي بالبرهان الوثائقي”4.
وهنا تقع الشهادة بين مكونين أساسيين، وهما: السرد التاريخي والسرد التخييلي. هذا السرد الذي يقع بين قوة التاريخي المتمثلة في صدق المعطيات والشهادات عبر الوثائق والمخطوطات أو ما شابه ذلك، وبين قوة التخييلي المختزلة في نسبية المعطى السردي وكونه مجرد ادعاء وزعم.
يتأسس عمل المؤرخ على معطى أساسي وهو «الشهادة» الذي بدونه لا يمكن للمؤرخ (نسبيا) بناء نسق معرفي متعلق بفترة تاريخية ما، فـ “شهادة أولئك الذين حضروا الحدث، الشاهد الأول الحدث، الشاهد، سيقول: صدقوني إن شئتم أو إن لم تشاؤوا فإني كنت هناك”. وهنا التساؤل، إلى أي حد يمكن للمؤرخ الوثوق بالشهادة؟ وبمعنى آخر، ما مدى مقدرته على الثقة بذاكرة الشاهد؟ وهنا لن يبقى له سوى “منطقة النقد التي عن طريقها تتم المقارنة بين مختلف الشهادات”5، فأجواء ممارسة فعل الشهادة الذي يرتبط بالذاكرة والتاريخ ارتباطا مباشرا، تكون مفتوحة أمام الجمهور مما يعطي إمكانية مدى الثقة بالشاهد وكذا الثقة بذاكرته كما أسلفنا الذكر. ولا ننسى أن الذاكرة وجود يقال على صور مختلفة، لأن القول يفتح على التأويل الذي من شأنه أن يغني اللغة ببعد التعدد الدلالي.
والجدير بالإشارة أن المؤرخ “لا يبتكر أحداث قصصه، بل يجب عليه أن يعثر عليها ويكتشفها. وهذا لأن الأحداث التاريخية سبق وأن «ابتكرت» أصلا (بمعنى «ابتدعت») من لدن فاعلين إنسانيين سابقين، أنتجوا بأفعالهم حيوات جديرة بأن تكون لها قصص تروى عنها”6. عكس الروائي (المشتغل على التخييل) الذي “يمكنه أن يبتكر الأحداث التي تنطوي عليها قصصه، بمعنى أن ينتجها خياليا، استجابة لمقتضيات بناء الحبكة”7.
تشكيل الحبكة الاسترجاعية للوقائع التاريخية عند المؤرخ تفتقر لمقتضى حرية الخيال التي يمتلكها الروائي. ذلك أننا نجد موضوعات تتم معالجتها من طرف الروائي ويطبعها العجائبي والهروب من شرنقة الواقعي، إذ يتم التماهي معها من طرف القارئ دون نقد أو تفكير في شروط بنائها وصحة كينونتها.
إن بناء النص السردي ضمن تقاطعات الخيال والتاريخ، هو بالفعل كما يشير إليه ريكور، دين، كيف ذلك؟ يتدخل ريكور بالقول إن التاريخ يجمع الأحياء بالموتى، “فإذا لم نستطع أن «نتخيل» الأموات، فلا بدَّ أن نعيد إليهم «كونهم كانوا» ولا سبيل إلا عقد ميثاق بسيط معهم في حضرة الموتى «لم يعد لهم وجود».  والماضي ليس فقط ما هو غائب عن التاريخ، بل إن حق كونه في السابق يقضي بالتعرف عليه. وهذا هو جوهر دَين المورخ”8، إن استحضار ريكور لكلمة “دَيْنٌ”،9
يدخل فيما يمكن إدراجه بالاحتفاء بالذاكرة، والتاريخ، والماضي. ويؤكد ريكور أن الواجب فعله أمام الدَّين هو التعويض، هذا التعويض الذي يكون عبر تشكيل الأفعال الإنسانية واستخلاصها كأحداث، بوساطة التاريخ عبر الفعل التخييلي. فالقارئ المؤول بالنسبة للنظرية التأويلية عند ريكور، ينطلق عبر الفعل التأملي في الوقائع الإنسانية ضمن نقط التلاقي بين السرد التاريخي والسرد التخييلي.
ويمكن القول بأن السرد التاريخي هو ذلك السرد الذي يعتمد على التذكر، ومع ذلك فإن التاريخ “يَدَّعي أن ما يؤرخه الآن هو استحضار مطابق للحدث المعيش في الماضي، ويسم خطابه في هذا السبيل بطابع الجزم والصدق، وعلى هذا تقوم علاقة المؤرخ بالقارئ على أساس استراتيجية الإقناع والتدليل بالحجة، ومن ثم فالتاريخ هو مادة حكائية قابلة للنقد والمراجعة”10. بيد أن السرد التخييلي يعمل على “استحضار خيالي لحدث ماض، وخياله محض زعم، فالقارئ منذ البداية، يدرك أن ما يقوم بقراءته هو محض خيال، وبذلك تقوم علاقة الروائي بالقارئ لا على أساس الحجاج والإقناع، وإنما على أساس المواءمة بين عالم النص الخيالي وعالم القارئ الواقعي. وبعبارة أخرى، إن الارتباط الذي يفرضه السرد بين العالم الخيالي للنص والعالم الواقعي للقارئ يقوم بالدور نفسه الذي يؤديه الدليل الوثائقي بالنسبة للسرد التاريخي”11. إذن فالسرد التاريخي يمتاز بالصدق والحقيقة، بالإضافة إلى أنه قابل للمراجعة والتمحيص والتنقيح، ومن ثم فمعناه يكتمل بالوثيقة والمخطوطات، وترتكز علاقة المؤرخ بالقارئ على أساس البرهان، عكس التخييلي الذي يكون خياله مجرد احتمال ونسبية وزعم. ورغم محاولتنا لتوضيح السرد التاريخي والسرد التخييلي، فإنها محاولة لا توفي مهمة التوضيح حقها، نظرا لما يوجد من تشابه بين التاريخي والتخييلي. وفي هذا المنحى يتدخل ريكور للقول بأنه يجب على مؤرخي السرد “ألا يشعروا بالارتباك للمشابهات بين القصص التي يروونها والقصص التي يرويها كتاب الخيال”12. والواضح أن ما يشترك فيه السرد التاريخي والسرد التخييلي هو الزمن الإنساني الذي يتم تمثيله في الصيغ السردية.

هوامش:

1- بول ريكور “الحياة بحثا عن السرد” ضمن الوجود والزمان والسرد، فلسفة بول ريكور، ترجمة: سعيد الغانمي، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى 1999، الدار البيضاء،  ص:40 / 41
2-كيفن فانهوزر “أسلاف فلسفة ريكور في الزمان والسرد” ضمن الوجود والزمان والسرد، مرجع مذكور، ص:69/70  3-الذاكرة، التاريخ، النسيان، بول ريكور، ترجمة: جورج زيناتي، دار الكتاب الجديد. ص:245  
4-الذاكرة، التاريخ، النسيان، مرجع مذكور، ص:245
5-الذاكرة التاريخ النسيان، مرجع مذكور، ص:16
6-هيدن وايت “ميتافيزيقا السردية الزمان والرمز في فلسفة التاريخ عند ريكور” ضمن الوجود والزمان والسرد،مرجع مذكور، ص:192
7-هيدن وايت “ميتافيزيقا السردية الزمان والرمز في فلسفة التاريخ عند ريكور” ضمن الوجود والزمان والسرد،مرجع مذكور، ص:192
8-بول ريكور “ريكور والسرد (ندوة)” ضمن الوجود والزمان والسرد، مرجع مذكور، :245
9- بول ريكور “ريكور والسرد (ندوة)” ضمن الوجود والزمان والسرد، مرجع مذكور، ص:244
10-عبد الله بريمي: هرمينوسيا الزمن والمحكي في فلسفة بول ريكور، ضمن  فلسفة اللغة قراءة في المنعطفات الحداثية الكبرى، تأليف مجموعة من الأكاديميين العرب، ابن النديم للنشر والتوزيع، ط1، 2013. ، ص: 179
11- نفسه، ص: 179
12- هيدن وايت “ميتافيزيقا السردية، الزمان والرمز في فلسفة التاريخ عند ريكور” ضمن الوجود والزمان والسرد، مرجع مذكور. ص:203

Related posts

Top