إبراهيم ديب واحد من الأدباء الذين التصق بهم لقب الشاعر وعرف به، هو الذي كتب لحد الآن ديوانين: “حجر الملح” و“جواد ليس لأحد” بالإضافة إلى رواية “ كسر الجليد” والمجموعة القصصية ”برتقالة فنان” التي نحن بصدد دراستها.
تتعدد القراءات في هذه المقاربة النقدية ضمن سيرورة تأويلية و إدراكية، وفقًا لمحافل النصوص الخطابية والخطاب نفسه، بين قراءات تقوم بها النصوص لنفسها في حضور قرّاء خارجيين يضطلعون بقراءات مختلفة: السارد والمسرود له، القارئ العادي، النموذجي و الضمني، كما عند “إيزر“ أو القارئ المجرد كما عند “لينتفلت“. سنجد أنفسنا أمام ضرورة فعل تعاوني يربط بين هذه القراءات في إطار من التعالق والتكامل، ليخترق مجموعة من الأنساق والمستويات المختلفة، للربط بين أفقي العالم الحكائي والعالم النصي، دون إغفال زاوية إدراكية لا تلغي الزوايا القائمة بين الواقعي والمتخيل.
بعض الشعراء، وهم يكتبون القصة، ”يصلون بالصورة الشعرية أحيانا إلى حدود الغياب”، كما يقول سلمان كاصد، وبعض القصاصين يغرقونها في بنيات لغوية شعرية تفرض علينا استدعاء جان كوهن لتفكيك رموزها، وتتجلى هذه الحالة حين يقول:“ المرأة والكتابة لا يجتمعان في غرفة واحدة“(ص:85). فالمتخيل لا يعكس دائما ما هو واقعي مرآويا، لأن الواقع حينما ينتقل إلى الواقع يصبح لغويا أكثر، لكن مع القارئ النموذجي يصبح ممكنا دونما حاجة إلى تأويل:“حذرتني من مغبة أن تكون الكتابة امرأة من لحم ودم“(ص:80)
من السردية التعبيرية إلى السردية القصصية:
حاول القاص أن يجمع بين محاسن الأجناس الثلاثة:” الرواية- القصة- القصيدة“ من خلال الاشتغال على مواضيعها، لكن من دون أن يستغني عن العنصر الجمالي والفني فيهما. التفاحة لها وقع كبير في تغيير العالم، بدءا من تفاحة آدم، الذي أخرجته من الجنة، وتفاحة نيوتن مكتشف قانون الجاذبية إلى تفاحة شركة “أبل” التي أسسها ستيف جوبز، وشغلت الدنيا بما أنتجته من مُعدات في عالم التكنولوجيا. في أولى قصص إبراهيم ديب، حاول نفي عملية أكل التفاحة من قبل آدم، تحت هذا العنوان:“ آدم لم يأكل التفاحة” من خلال متواليات لفظية: العزلة شجرة، والشجرة تعطي التفاح، والتفاح يوجد في الجنة، فماذا نأكل نحن؟ النسخة؟ الصورة؟ الظل؟“( ص:7). وهي أسئلة في مجملها مشروعة وقابلة للنقاش في تغييب لفظي لما هو ديني في قوله تعالى:” ألم أنهكما عن تلكما الشجرة”. لكن آدم الذي يتحدث عنه ديب هنا، هو آدم الذي يريد أن يأكل التفاحة بعيدا عن أي نظرية أو مسلمات دينية، فبين آدم ”المطبخ“ وآدم” الجنة“ تقبع ملايين السنين والنظريات والأفكار.
في قصة:” انتفاضة الكلاب“ يرجع بنا إلى”كليلة ودمنة” وحكمة ابن المقفع، فيبدأ قصته على هذا النحو:”اجتمع كلاب في غابة كبيرة” وهي في غالبيتها إسقاطات من قبيل:“ قال كبير الكلاب” و“ قال كلب آخر” ثم“ ذهب الجميع، وبقي كبير الكلاب لوحده. ثم قال بغضب: لقد كانوا محقين. أنتم كلاب، وستظلون كلاب…”.
البنية الحوارية في قصة” ثلاث نقط“:
المسألة هنا لا تتعلق بحوارية ”باختين“ وتعدد الأصوات، إنما بثنائية حوارية من نوع آخر بين الأب الذي هو ”إبراهيم“ السارد والبنت المسرود لها ”فاطمة الزهراء”. حوار/ مونولوج أقرب إلى الواقعية بعيدا عن الطرح البنيوي الذي حاول عزل النص عن محيطه الاجتماعي، يقتفي القاص أسرار العلاقة الممكنة مع”الابنة“ فاطمة الزهراء، يقول في الصفحة (21):“ كتبت فاطمة الزهراء ثلاث نقط حذف على ورقتها البيضاء، ثم توقفت”، لتبدأ الحكاية الحوارية بين البنت من جهة والأب من جهة أخرى، في غياب تام لأُحادية الصَّوت الطاغي والمُهيمن والرؤية الواضحة، وفن القصة الحوارية مع الأطفال فن قائم بذاته، وهو من أصعب أنواع القصص كتابة. فالقاص يقتفي منعطفات التفكير الطفولي، الذي يظهر بالملموس أنه ليس بالبراءة التي نتحدث به عنه دائما، فالنص يظهر أن للأطفال تفكيرهم الخاص. يستمر الحوار إلى أن تنهيه الأم بطريقتها في قصة:“ثلاث نقط” على الشكل التالي:“ فاطمة الزهراء، إبراهيم، العشاء جاهز”(ص:25)، ويتم الاتفاق سرًّا بين إبراهيم وفاطمة الزهراء على إتمام الحديث بعد العشاء.
رعويّ يُمَجّد الحياة الرّيفية في عزّ الصحراء:
في قصة:” الجفاف وتيطانيك وبقايا بشر“ ينتقل إلى عوالم سوداوية، فيضعنا معه مثلا في موقف لا نُحسد عليه كقراء، حيث تقف ”سيارة من نوع207 أمام مقهى ”أصدقاء الصحراء“، المقهى الذي يحتمي بها المفلسون من مُدرسين وجُنود وشباب عاطل، ومُشاغبون من مُناضلين ونقابيين وأشباه كتاب وسياسيين…“، إنها الصحراء بكل جبروتها تلقي بظلالها على التعيين الأول في سلك التعليم، ”صعب جدا أن أتصور“فُمْ زْكيدْ“ من دون مقهى“ أصدقاء الصحراء”. هذه القصة تغلب عليها لغة الانكسار:“ للحديث عن مثل هذه المآل، يلزمك ليل دامس“(ص:71)، ويلجأ السارد إلى ما هو طبيعي فيه كابن باديَة ألف صورها وعايشها عن قرب، لذلك نجد صورا م:”الخنافس السوداء مع كويرات الرُّوث الطازجة“ وهي جزئيات صغيرة قد لا يلتفت إليها ابن المدينة، ولا تحرك ساكنا في مِخْياله الفردي أو الجماعي.
في هذه المنطقة النائية من الصحراء سيتذكر”البلدة البعيدة“ و”الأفكار المخيفة“ و”الأراضي الغير صالحة للزراعة“(ص:72) على امتدادها الجغرافي، في هذه اللحظات العصيبة تهبُّ” الرائحة الجميلة للذكرى، وبعض المراتب التي تذكرنا بالأرض الحبيبة“ التي لن تكون إلا قرية ينتمي إليها أديب رَعَوي يُمَجد الحياة الريفية في البادية. في هذه القصة ستصبح سيارة المرسيديس(207) ”تيطانيك” نفسها، وسفينة نوح في صحراء تبدأ كي لا تنتهي. المقهى في الصحراء لن تكون طبعا إلا فقيرة في كل شيء، لكن خيال الكاتب سيجعلها غنيَّة، حيث غنى البساطة والدفء الإنساني وسخائها مع زبائنها، في توفير الممكن من الكتب والجرائد وأباريق شاي بنكهة صحراوية. يصعب على طالب قادم من مدينة فاس أن يتأقلم في“فُمْ زْكيدْ“، ومع جوّ صحراوي بكل تناقضاته دون ”مقهى الصحراء” كما يقول السارد. هنا سيصبح الحُلم مُمكنا بامرأة شقراء في ليل دامس ودار كبيرة موحشة. وفي هذه القصة سيلتقي شمال المغرب مع جنوبه بكل ما يحمله من تناقضات، وهو تناقض يذكرنا برواية الطيب صالح“ موسم الهجرة إلى الشمال“ لكن بشكلها المعكوس، لأن الهجرة هذه المرة ستكون في اتجاه الجنوب وليس الشمال!.
على خطى آرثر رامبو:
ينهي إبراهيم ديب رحلته القصصية على خطى رامبو وإن بشكل مختلف، فالسارد ينتصر في مجموعته للمرأة ويصفي ”حساباته” مع الرجل بصفته” أبًا” و” معلمًا”، لأن الرجال” لا يصلحون لشيء…يا لهم من سفلة“ حين يفرغون من” جنونهم الحيواني يعودون لخوائهم…، وإلى احتقار المرأة ومقارنتها بالشيطان والأفعى“(ص:81). ثم يعود بعد ذلك ليلف حول الموضوع المحوري ويكتب بكلام حكيم وبثرثرة زائدة أحيانًا عن ألبرتو مُورَافيا وأجمل رواياته:” امرأة من روما“ التي لم تكن في الأصل إلاَّ عَاهِرة، وهو بذلك يذكرنا برواية أخرى لا تقل جمالا بعنوان:” الزّانية“ للروائي إمبرتو إيكو، عن امرأة ثانية سقطت إراديًّا في علاقة ِزنَا، بالرغم من ذكائها وعلاقة الحب التي تعيشها مع زوجها وأولادها ونجاحها الاجتماعي، وهي رواية يغوص فيها الكاتب العالمي في أعماق النفس البشرية، ويتجاوز ما هو أدبي إلى ما الفكري والاجتماعي والفلسفي.
نص:”personnes et personnages” تبدأ فقراته بكلمة: ”أذكر”، في فعل استرجاعي للسارد: للحظات الحب الأولى- الدرس الأول- الخطوة الأولى نحو الغواية والحياة الرعوية في البادية المغربية:”أذكر الثعالب التي كنا نطارد والأتان التي كنا ننكح، والأغاني التي كنا نردد، والألعاب التي كانت بلا حدود ولا قواعد…”، ويتساءل:” لم الرأس دائري؟”،. لكن يتذكر أشياء أخرى:” وأنا طفل لم أجد شخصًا أقلده”(ص:43) في إشارة إلى أن البادية لم تعد قادرة على احتواء طموحاته. وينتهي من القصة في:” شخص زائد” على الألم والقسوة:” البرجوازيون القذرون يريدون امتلاك كل شيء، وتجريدنا حتى من ذكورتنا”. في هذه الجلسة الحَميميّة حيث مجموعة من الأسماء والأشياء، يتساءل الكاتب:” من منّا كان الإنسان الزائد؟. ولم ينجو من السؤال حتى الحصانان/ الفارسان، في إشارة إلى لوحة معلقة على الحائط، و الرجل الأسود في لوحة موندريان…إلخ.(ص:53).
السفر يتم أحيانا في الزمان والمكان معاً، “يتحدثون عن الثقافة والسياسة والحياة، ويخططون للمستقبل بعناد الجداول، جدول الماء وليس جدول الضرب”، كما في قصة:“شكرا باشلار” ،وهم في خلاء قرب نهر“ملوية”. ينتقل إلى لغة المعادلات والغواية، غواية النساء بمختلف أعمارهن ومستويات جمالهن، فيعصر الذاكرة عله يسترجع ما استعصى عليها من بقايا أزمنة مَضَت: بعض النساء البدينات- ابنة الجيران- “أرملة الفلاح الطيب التي اكتسحتني كموجة خضراء ليلة كاملة”، لكننا نجده عكس ذلك لا يتذكر أحدا من الرجال، لأن“ العالم سيتغير حقا حين يتحرَّرْن من هذه الكائنات اللعينة التي اسمها الرجال”، مع ذلك سيتذكر:“ الهادي الأبله والواسع في أزقة فاس الضيقة”(ص:42)، ويتذكر أيضا بعض“ المُعَلمين الذين كانوا بؤساء وسطحيين وساديين”(هكذا!!).
شخصنة الحيوانات:
في قصة” ألف حل وحل” ينتقل بنا السارد إلى نمط آخر من الكتابة، ويعيدنا إلى عوالم ابن المقفع، وهو حوار سيدور بين المؤلف والسارد الافتراضي حول مواقع خارجية ونفسية داخلية، سؤال يدفع بنا إلى آخر: لمكن يكتب السارد؟. وفي قصة ” ذلك الصهيل” يرحل بنا إلى عالم مختلف، عالم شكسبير ومسرحيته الشهيرة ”عُطيْل” الجنرال المغربي في الجيش البُندقي(نسبة إلى مدينة البندقية- 1603) الذي اقتبس اسمها منه، وهي شخصية يعادلها -مْباركْ-، مسرحية تدور أحداثها حول شخصيات رئيسة: عٌطيل الجنرال المغربي و زوجته دَيْدَمونة و الملازم كاسْيو مُساعد عُطيل و حامل الراية ياجو المُنافق. تتنوع مواضيع المسرحية مثل القصة بين: العنصرية، الحب، الغيرة و الخيانة. يقول السارد مثلا:” يترُكن له الحرية لمُضاجعة من يشاء من الخادمات” (ص:93)، كما أن القصة توحي بنهاية زمن وبداية آخر، عهد الاستقلال ونهاية الاستعمار، وما تبقى من آخر ذكرياته:” بعد موت السيد تشتت أولاده ورحلوا إلى المدن” أو” على جُدران الحُجرة كانت صورة فتاة فرنسية جميلة تمتطي حصانها الأسود،هي كل ما تبقى من الماضي”(ص:94). صورة لها دلالة تاريخية ورمزية متعددة.
حوار داخل الكتابة:
” فكتب كلمة رجل. ما أن أتم الكتابة حتى تململ الرجل. انتفض ثم غادر الورقة”(ص:99) ثم يقول:”نظر إلى المؤلف”-” لا تتعب نفسك أستاذ أنا أحد شخصياتك”. نجد هنا أن الشخصيات تبدي رأيها فيما يكتبه المؤلف عنها. الملاحظ هو أن المؤلف نفسه سيتعسف عليها، بدل أن ينصت إليها ويتفاعل معها، وهي تعكس حسًّا نرجسيا من السارد بوعي أو من دونه. وستنطق هذه النصوص بما لم يكن ممكنا عن وعي أو لاوعي:” هناك تقصير واضح في حق نصوصك”(ص:100) في إشارة إلى الناقد الغير متابع لما يكتب من نصوص وأعمال. هذه الشخصيات نفسها هي التي ستعود، لتعاتب المؤلف على تهميشه لها واستبدالها بالقطط والكلاب والنباتات، فيما يبرر السارد ذلك كونه تناوبا ديمقراطيا بين الإنسان والحيوان.
لقد حاول السارد في هذه المجموعة تأثيث أحداث واقعية في نصوص سيَّجتها محكيات منبثقة في غالبيتها من رحم المعاناة، وإن فرَّقتها الأزمنة والجغرافية، لكن ارتباطها بالذاكرة السردية مع تماسكها الداخلي وانسجامها أعطاها قوة تأثيرية وإقناعيَّة لدى القرَّاء الافتراضيين بمختلف شرائحهم، وبالتالي سيجدون أنفسهم مرتبطين بها بميثاق حميمي. النصوص تشي في بعض جوانبها بحُضور المرأة اللافت في هذه المجموعة، كما في قصة:” نساء من المغرب” التي يقول فيها: ”لكني رجوتها ألا تكلمني أثناء الكتابة”(ص:85) أو” نابوليون قاهر الرجال هزمَته امرأة”(ص:84). مع ذلك تبقى هذه النصوص في مُجملها تعبير عن واقع مأزوم وسط صحراء تبدأ ولا تنتهي، يلزم شفرة دلالية للربط بين تيماتها سرديَّا وسيميائيَّا.
إحالات:
1- الإماراتية أسماء الفهد في «تراتيل لوجه الوطن» تكتب حضورها في غيابها- سلمان كاصد/ الملحق الثقافي لجريدة” الاتحاد- الإماراتية”-04 أبريل
2013
2- نظرية الانزياح عند جان كوهن – الوصف التفسيري لإشكالية اِنفراق الشعر عن النثر/ أيوب بن حكيم / الحوار المتمدن
3- – في التلقي الأدبي- نحو تصور جديد للقراءة/ د. حسن أحمد سرحان- دار جرير للنشر – عمان الأردن
بقلم: إدريس الواغيش