العنصرية جريمة لا تسقط بالتقادم

إدانة العنصرية، أمر سهل وفي متناول الجميع، أمّا التحصّن منها والامتناع عنها فقضية في غاية الصعوبة والرهبة والالتباس، ذلك أنها تقترب من المورثات الجينية، وتستمد “مشروعيتها” (الزائفة طبعا) من كتابات وآراء منظّرين وداعمين وسياسيين، ينتصرون لفئة ضد أخرى.
مقتل المواطن الأميركي الأسود جورج فلويد، تحت ركبة شرطي أبيض، يشاركه نفس الجنسية، ويُفترض أن يكون حاميا له، وفق الدستور الأميركي، كان بمثابة “حبة الكرز التي توضع فوق الكعكة”، وفق تعبير شابة أميركية من ذوي البشرة السوداء في تقرير صحافي.
الحق على الإعلام إذن.. والذي تأخر كثيرا في القول بأن الولايات المتحدة دولة تنخرها العنصرية. وهل ينبغي انتظار عدسات الكاميرا، زهاء قرون من الزمن، لفضح الممارسات العنصرية التي تحدث منذ العصر الجليدي الأول.. وبتكتم شديد الرعونة والتستّر؟

عنصرية مضادة

هل كان على العالم أن ينتظر مصوّرا لإحدى القنوات الفرنسية، كي يعرف مقتل الطفل الفلسطيني محمد الدرّة، برصاص الجنود الإسرائيليين، منذ 20عاما، محتميا بأبيه؟ وهل استمر الأمر كذلك، إلى اليوم الذي افتضح فيه أمر السلطات الإسرائيلية بقتل طفل فلسطيني من ذوي الاحتياجات الخاصة، وهو إياد حلاق، منذ أيام قليلة أم أن الموضوع قد أثير في إعلام الدولة العبرية بشكل نافر، لمجرد أن الضحية كان يشكو من داء التوحد؟ ماذا لو لم يكن يشكو من داء التوحد؟
العنصرية تُؤخذ مجتزأة في أغلب المجتمعات الدولية، ويمارسها ضحية ضد ضحية أخرى ثم ينكرها آخر على آخر، وذلك بلغة الاستقواء والرغبة في كسب الرأي العام.. إنها مثل حال البوذيين الذين عانوا في التبت من عنجهية السلطات الصينية ثم مارسوا العنصرية -نفسها- ضد الأقلية المسلمة في نفس البلاد. الحال ينطبق على يهود إسرائيل الذين تعاطفنا معهم في تاريخهم مع أفران الغاز في ألمانيا النازية إبان الحرب العالمية الثانية ثم عادوا ليمارسوا العنصرية نفسها -أو تكاد- ضد الشعب الفلسطيني وسكانه العزّل.
هل يختلف اثنان في أن العنصرية تمارس ضمن المجتمع الواحد في اللون والدين والعرق والمذهب؟ هل علينا أن نقيس درجة “الولاء” حتى نحدد مغالاة الأول وتنمره على الثاني أم أنّ في الأمر “تقديرا ضمنيا” لا يخلو بدوره من تحيز عنصري؟
إنها متاهة تفضي إلى متاهة، ولا يمكن حلها إلا بتشريعات قانونية صارمة، تجعل الجميع تحت سلطتها، وتضع حدا لهذا التطاول البشري الذي يبدو متأصلا في النفوس.
مهلا، فلا تأخذ أحدا منا العزة بالنفس، ويظن نفسه منزها أو مستبعدا أو في منأى من العنصرية لمجرد أنه ينتمي إلى فئة يحسبها مضطهدة، فثقل ركبة شرطي أسود على رقبة رجل أبيض، تخنق -بدورها- الأنفاس، وتتسبب في عنصرية مضادة قد يحتج عليها الأسود قبل الأبيض.
متى ينهض صوت في إعلامنا المكتوب والمقروء والمسموع ليقول للعرب: لا تنخدعوا بالفبركات الإعلامية والدعايات المزورة كتلك التي روجت لها دعايات مغرضة على السوشيال ميديا، من شاكلة الفوتوشوب الذي يحمل صورة زنوج يحملون شعارا يقول “لسنا عربا كي تقتلونا ونسكت”.
لا تنساقوا وراء البروبغندا المضللة مثل التشكيك في الهولوكوست، والقول بأن اليهود هم الذين ابتدعوها، فذلك سينزع منكم حقوقكم المشروعة ويجعلكم في خانة معاداة السامية أيها العرب الساميون.
هل تناسينا -على سبيل المثال وليس الحصر- أن بلدا عربيا مثل موريتانيا، لا يزال يشهد احتجاجات ضد الرق، في القرن الواحد والعشرين. كما تنشط فيه منظمات، على غرار منظمة “نجدة العبيد” التي تكافح من أجل إنهاء ظاهرة الرق في البلاد، وأن الزواج في هذا القطر العربي الشقيق، ما زال يخضع لمقاييس عنصرية بحتة.
الحقيقة أنّ لهجاتنا العربية ما تزال تنضح عنصرية بغيضة إلى حد الخجل، مثل بعض التسميات في المأكل والملبس والمشرب.. ما معنى اسم “فستق عبيد” مثلا.. أو “فلفل بر العبيد”؟
لم تكلف الجهات الفرعية المتخصصة، داخل منظمة الجامعة العربية، نفسها، عناء التوصية بضرورة حذف مثل هذه المسميات المخزية، بل كم مذيعا أسود البشرة على شاشاتنا العربية، وفي أكثر البلدان انفتاحا وتسامحا؟

بعضهم يحبذها شقراء

 لنبتعد عن السياسة قدر المستطاع، ونضع العنصرية في ميزان المجتمع بلغتي الأنا الفردي والأنا الجماعي، وننظر إلى أنفسنا كم نحن “عنصريون” دون أن نكون عنصريين.
إن من الحماقة والرعونة أن نكون مثل الإيرانيين في إعلامهم الأرعن، ذاك الذي ينتقد “عنصرية أميركا” التي يلقبها بـ”الشيطان الأكبر” ثم يأتي بأكثر وأوقح منها. نظام حكم الملالي في طهران، من زجاج، وأوهن من بيوت العنكبوت، فلماذا ينتقد ديمقراطية عريقة مثل الولايات المتحدة الأميركية؟ ووفق أي ذريعة يتعرض لدستور أنشأه أبراهام لنكولن، الذي أنهى العبودية، واغتيل لأجل ذلك عام 1865.. “أي طحان يغبّر على كلاّس” وفق المثل الشامي المتداول.
وعلى ذكر الشام، فيطيب لي أن أختم بهذه الحادثة: رميت بحبّة حمص مسلوقة وسوداء عندما كنت أطعم طفلي من كيس صغير كنّا قد اشتريناه لتوّنا من بائع متجوّل وأشقر اللون في حديقة عامة.
نظر إليّ الصغير بعين لا تخلو من الغضب والعتاب، وكأنه يحتجّ حول هذه الحركة الاعتباطيّة الرعناء، وزاد من إحراجي قول البائع الأشقر: ألا تعلم أنّ حبّة الحمص السوداء أطيب مذاقا من (الشقراوات) يا أستاذ؟
لست أدري لماذا تذكّرت فيلم مارلين مونرو فجأة “بعضهم يحبّذها شقراء”.
جلسنا على مقعد نأكل الحمص المسلوق، ونتفرّج على العابرين بسحناتهم المألوفة أمام بعض المربّيات والخادمات القادمات من قارتي آسيا وأفريقيا، وهنّ يلاعبن أطفال الآباء الذين يعتقدون بأنهم مرفّهون.
إحداهنّ لاعبت ابني الصغير بحب ومرح كبيرين، حاولت مكافأتها بشيء رمزي، لكنها رفضت وقالت بلغة إنجليزية رشيقة “أنا أيضا أتمتّع معه باللعب الذي حرمت منه في صغري”… ثمّ صارحتني بقولها بعد أن استطابت الحديث وشعرت بالأريحيّة والأمان “أجد متعة هائلة في اللهو بألعاب الطفل الذي أرعاه عند غياب والديه من المنزل… بعد عام ينتهي عقد عملي في خدمة هذه الأسرة، وأكثر ما يحزّ في نفسي هو أنّي سأفارقه بعد هذا الوقت الذي لازمته فيه أكثر من أبويه… عموما سأتذكّره دائما لأنّي سأحمل ألعابه القديمة إلى إخوتي الصغار في بلدي”.
هل لديك خطيب أو حبيب أو صديق…أو ما شابه؟
نعم بالتأكيد، هو يعمل في أحد المنازل القريبة هنا… لا أحد يتحمّل الغربة دون شريك يا أستاذ.
كيف تتواصلان مع بعضكما… لا شكّ أنّ  الأمر صعب؟
نلتقي في نهاية كلّ أسبوع هنا… عند المراجيح، نسرق بعض الوقت… وأحيانا ليلا، عندما نفرغ القمامة في الحاوية التي تفصل بين (فيلّاتينا)… أقصد مكان عملنا.
وهنا قطع ابني حديثنا، وفاجأ الصبيّة بهديّة غريبة… لقد جمع كل حبيبات الحمص السوداء وأهداها للخادمة اللطيفة.
شكرته بحب كبير وقالت له ضاحكة وملاعبة “أنا أيضا أحب الأبيض من الفواكه والشراب واللباس، وإن تخلّى عنّي حبيبي الأسمر يوما فسأتزوّج من بائع الحمص الأشقر هذا، لعلّنا ننجب طفلا يرضي جميع الأذواق ويأكل الحمص دون تفرقة بين حبة شقراء وأخرى بيضاء”.
غادرتنا الفتاة اللطيفة السمراء لتلتحق بمن تشرف على خدمتهم وسألت نفسي “إن كانت العنصرية تبدأ في طرف أفكارنا وزوايانا المظلمة فعلا، كما كتب أحد منظّريها ‘البيض’ من فلاسفة أوروبا؟”.
هل تنتقل العنصريّة وتورّث عبر الجينات أم أنّنا تعلّمناها في البيئة الأولى المسمّاة بالعائلة وتدحرجت ككرة ثلج نحو المدرسة والمجتمع لتمسي سلوكا يوميّا وطبيعة ثانية نتنفّسها كالهواء؟
توقّفت عند أماكن شاهدة في غرب أفريقيا.. جدران تقطر منها السلاسل، تعشّش فيها القيود وتخطّ فوقها آثار الدماء المتخثّرة والموشومة على الحائط عند تلك القارة التي تشبه جغرافيتها القلب.
شاءت السلطات فيما بعد أن تجعلها متحفا لضعاف الذاكرة وشاهد عار لأحفاد بيض يخجلون من همجيّة أجدادهم فيتّعظون.. وآخرين سود يتذكّرون ويذكّرون ثمّ يصفحون وينسون… كذلك يكون التسامح الذي لا بدّ منه كقارب وحيد يأخذنا إلى ضفّة السلام.
هل طوينا الصفحة فعلا، هل كشفنا كلّ الظلال المختبئة في زاوية الذاكرة؟… هل اجترحنا حلاّ حقيقيّا يؤاخي بين كلّ الألوان مثل زهرة اللوتس؟

أحقاد لونية

تذكّرت الشاعر السوداني محمّد الفيتوري صاحب “أحزان أفريقيا” في مخاطبته لرجل أبيض لا يشترك معه إلاّ بلون الكفن “ألأنّ وجهي أسود ولأنّ وجهك أبيض، سمّيتني عبدا، فأكلت بقلي ناقما وشربت كرمي ظالما… إني صحوت من أمسي وذي فأسي تهدّ القبور رمسا برمس… أمدد يديك إلى يدي نشيّد صرح المحبّة شيدا”.
ويختم الفيتوري قصيدته بقوله “إني أخوك فلا تعق أخوّتي فتزيد بركانيتي وقدا”.
لم تتوقّف العنصريّة على لون بعينه بل أفرزت “أحقادا لونيّة” على شكل ردّات فعل لا متناهية، حتى أنّي اقترحت يوما على صديق فنّان أسود اللون و”ملتزم سياسيّا” يؤدّي بفخر واعتزاز أغنية تقول كلماتها “أنا أسمر”، أن يحذف هذه الأغنية من ألبومه فورا لأنها عنصريّة مضادّة، فهل سمعت يوما أحدهم يتغنى بقوله “أنا أبيض”؟!…. وقد نغفر لسميرة توفيق التي غنّت يوما “أشقر وشعره ذهب”… عفوا، لماذا كلمة “نغفر”… هي حرّة فيمن تحب، على كل حال.
أظنّ أننّا بدأنا بإزالة العنصريّة تدريجيّا في عالمنا المعاصر، وغفرنا للمتنبّي قوله في لحظة غضب “لا تشتر العبد إلاّ والعصا معه، إنّ العبيد لأنجاس مناكيد”.
إن كان هذا حبّا وإجلالا، للملك النجاشي وعنترة وبلال الحبشي وزرياب ومارتن لوثر وحتى “أوبرا” الإعلامية الأميركيّة التي علّمت شقراوات أميركا بأنّ النجاح يمكن أن يكون أسود أيضا… إن كان لأجل هذا فنحن عنصريون حتى في معاداتنا للعنصرية.
أمّا أهمّ أيقونة سمراء في مذبح الحرية فهو أبراهام لنكولن الذي أراد لهذا العالم أن يرى إلى ما تحت الجلد والأضلع… ويجمع في (باليت) الرسام الأميركي كل ألوان الربيع، مهما حاول العنصريون قطع زهوره.
دفع لنكولن حياته بالذهب الأحمر والتي قيل إنها رسمت قارة أفريقيا عندما سالت على الأرض لحظة اغتياله.
أيها الإنسان الذي اشتقّ اسمه من النسيان: تذكّر أنّك ولدت دون اختيار لونك ودينك وبلدك وجيرانك ولغتك ووالديك وحتى الأعداء والأصدقاء.
اليوم، ومن سوريا بالذات، هنّأت صديقا كرديّا بقرار تسليمه هويّة مواطن في أرضه فأجاب مازحا، بلهجة فيها الكثير من المرارة “أخشى أن يكونوا قد منحونا الهويّة كي يقتلونا عليها”.
العنصرية -مثل الوباء- تفتك بجميع الناس ودون تمييز طبقي أو ثقافي أو عرقي.. هل بإمكان العنصرية أن تعلمنا الديمقراطية، وذلك وفق مقولة “كلنا عنصريون إلى أن يأتي ما يخالف ذلك”؟
مفارقات عجيبة تفرزها كل حادثة ذات طابع عنصري، تعيدنا في كل مرة إلى المربع الأول، وتذكرنا بضرورة الابتعاد عن “أطراف أفكارنا”.. أليس التطرف متأتيا من كلمة “أطراف”، ولكن، أين “المركز”؟

Related posts

Top