الفرجات الشعبية بين الأدائي والتفاعلي 

لقد شهدت الفرجات الشعبية بسوس تحولات مست جوانب عديدة تتعلق أساسا بالجوانب التفاعلية والأدائية وبدأت تتخلص تدريجيا من حمولاتها الرمزية التقليدية التي أثقلت كاهلها على مر السنين من خلال الدراسات والأبحاث الأنتروبولوجية والدراسات الثقافية التي انتصرت للأبعاد الشعائرية والبدايات الوثنية للأمازيغ وهدر الزمن العلمي في أسئلة التأسيس والتأصيل وغيبت بذلك التحليل الرصين الذي يجعل منها حدثا اجتماعيا وأدائيا يمزج بين الفن البصري والسردي تمتح من الأسئلة المطروحة حول الذات والهوية في السياقات والوسائط الرقمية والتفاعلية والطريقة التي يبني بها الناس والجماعات والمجتمعات روابطهم مع الماضي، واقتراح طريقة جديدة لإمعان النظر في العلاقات المتشابكة التي تربط “بين الطقوس والفعل الاستراتيجي، وذلك من خلال صياغة نهج “براغماتي ثقافي” للمعنى يشترط تطوير نموذج الأداء الاجتماعي”(1). إذ لا توجد تقاليد ثابتة وجامدة فهي في تبدل دائم ومستمر، ويتم اختراعها على مر الزمن حيث يعلق عالم الاجتماع الإنجليزي أنطوني جدينز Anthony Giddens حول هذه الفكرة فيقول: “إن من الخرافة الاعتقاد بأن التقاليد محصنة ضد التغيير، فالتقاليد تتطور عبر الزمن، بل يمكن أن تتبدل أو تتحول فجأة بشكل تام، ولعلي أستطيع القول إنها تخترع، ويعاد اختراعها”(2). واعتبارا لكون الهويات هي بمثابة إنجازات تفاعلية وليست فئات مسبقة موجودة بمعزل عن تفاعلات معينة. ولا ينظر إليها على أنها مجرد تمثيل في الخطاب، بل أيضًا على أنها تؤدى وتمثل وتتجسد من خلال مجموعة متنوعة من الوسائل اللغوية وغير اللغوية. وضمن هذا السياق تحتل فرجة كرنفال بيلماون حيزا مهما من هذه التشكلات الخطابية والتداولية والكلامية حيث يساهم صانعو الفرجة والجمهور الحاضر في تأسيس هوية الجماعة التي تتجلى بعض معالمها في استحضار الممارسات الثقافية المشتركة والقيم والسرديات والاستعارات واستعمال الروايات لتوثيق الحاضر وتثمينه وتمجيده وبالتالي فهي موارد تفاعلية مهمة يمكن استخدامها لتسليط الضوء على إنجازات الجماعة، وخلق أدوار اجتماعية جديدة، وتغيير السبل التي يتم من خلالها الاعتراف بأنواع معينة من المعرفة والخبرة وتقديرها. كما يمكن استخدام السرديات أيضا لتغيير الطريقة التي ينظر بها المتحدثون وغير المتحدثين إلى اللغة. كعنصر أساسي من عناصر التفاعل والتي تحدث أنواعا مختلفة من الأفعال. “تتمثل في طريقة نطق الكلمات، وعناصر التنغيم أو النبرة، والإيقاع، والرنين، والتوقف المؤقت، والأصوات غير اللغوية مثل الضحك والتنهد. كما تشمل الأفعال غير الكلامية تعبيرات الوجه والحركات الجسدية مثل الوضعية والهيئة؛ والمسافة التي يتركها صانعو فرجة الكرنفال بين أجسادهم وكيفية ترتيبهم لأنفسهم في أشكال هندسية”(3) تتمثل في صفوف متراصة أفقيا وعموديا وفجوات وفراغات تباعد بين الفرق والمجموعات المشاركة وهي في مجملها مظاهر التواصل والتفاعل تشكل آليات محتملة للتغيير الاجتماعي والتأرجح بين الأصيل والمصطنع والواقعي والمتخيل والرمزي والسيميوطيقي.

يتم الاحتفال بفرجة الكرنفال في سياق طقوسي وأدائي واجتماعي، يحرص منظومه بكل مناطق سوس على جعله تجربة فنية جديدة تضفي أفقا تفاعليا وجماليا على مفاهيم المكان والجسد والسلطة والمعرفة، ويتنقل بسهولة من “الأشياء اليدوية والبصرية إلى الأشياء اللفظية والمفاهيمية. ومن الخاص إلى العام، ومن الحاضر إلى الماضي”(4) تتعزز هذه المفاهيم بالمشاركة المكثفة للجمهور بتعدد مشاربه السياسية والاجتماعية وفئاته العمرية، وبالانخراط النوعي للجمعيات المهتمة بتثمين وتجويد التراث الأمازيغي في شقيه المادي واللامادي، ومعلوم أنها تنتمي جلها لأحياء المدينة وسبق لها أن نظمت بوهج إبداعي لافت سهرات فنية احتفاء بفرجة بيلماون خلال يوميات عيد الأضحى، وكان مكان الاحتفال فضاءات هذه الأحياء، وكل حي ينفرد بخصوصيات وتقاليد خاصة في تدبير وتنظيم فرجة بيلماون، أضف إلى ذلك الدور الفعال الذي قامت به هذه الجمعيات في تأثيت سينوغرافية كرنفال بيلماون الذي شهدته مؤخرا مدينة أكادير، وهي ظاهرة ثقافية تستأثر بالاهتمام وتشد الانتباه إليها لما تبذله هذه الجمعيات التي يتشكل عمودها الفقري من الفئات العمرية الشابة من مجهودات لإحياء التقاليد الفرجوية التي تنتمي لسوس.

لقد انبثقت فرجة الكرنفال في الأصل من حياة الناس الاجتماعية، ومن علاقتهم الملتبسة مع المدنس والمقدس وما بهما من تداخل بين الواقعي والمتخيل، وذلك عبر الاشتغال على الجسد ومسرحته، لينتقل من المجال الخاص إلى المجال العمومي، وعبر استغلال مهاراته الأدائية وشحنها بعناصر احتفالية ممتزجة بالطقوسي والكرنفالي، فتتفاعل هذه العناصر بشخوصها وتصريفاتها وذواتها لكل من المؤدين والجمهور داخل مجال عام بأنساقه وأبعاده التواصلية والاجتماعية وبعلاماته وسماته، وبسطوته الرمزية.

تبعا لما سبق يمكن القول إن المكان ينسج وشائج قربى أدائية مع فرجة الكرنفال وتعتبر من الفنون المكانية بامتياز إن صح التعبير، حيث يكتسب المكان طابعاً أدائياً ورمزيا يؤشر على المشاركة الفعلية للجمهور الذي ينخرط في بناء تجربة وجدانية وجمالية مع صانعي الفرجة، “وهكذا فإن الأداء يستدعي اهتماما خاصا ويزيد من وعي الجمهور بماهية التواصل ويمنحه الإذن بالنظر إليه وإلى المؤدي بكثافة خاصة، كما أن الأداء يجعل الفرد مسؤولا من الناحية التواصلية، فهو يعهد إلى الجمهور بمسؤولية تقييم المهارة النسبية التي يتمتع بها المؤدي”(5)، وهي علاقة تفاعلية وتفاوضية تصنع بفرط الدهشة ملامح الزخم الفرجوي وتخلق أداء جماليا بين التجرية المكانية الفردية والإحساس بديمومة أو زوال المكان الذي احتضن سيمياء فرجة كرنفال بيلماون وجاذبية اللحظة الفرجوية العابرة. “لأن الفرجة طقس لا يحدث إلا فوريا، ولابد من أن يعايشه المتفرج (المشاهد) وينتمي إلى حضوره، كما لابد من أن يتمتع بصفة المشاهدة مع الآخرين ومعايشته معهم. وهناك فرق بين المشاهدة مع الآخرين فوريا وبين المشاهدة معهم عبر وسيط ناقل، لأننا نرى إلى المشهد المعروض من خلال عين أخرى غير عيننا (اللعب)” (6)، لأن عمليات التفاوض بين كرنفال بيلماون والجمهور تعمل على رسم الحدود وتجاوزها وطمسها (حدود بين المؤدي والمتلقي، وبين الأنواع الأدبية والأشكال التعبيرية إذ يتجاور المسرح مع الرواية الشفوية والسينما والميم والبانتوميم والرقص…).

ولعل أهم ما تثيره علاقة هذا الكرنفال بمجاله هي أسئلة تتعلق بالهوية الثقافية والهوية الاجتماعية وتتمثل في تمزيغ المجال، ومسرحته أو تتعلق بإضفاء هوية سردية عليه، بدءا بالمواقع التي ينطلق منها هذا الكرنفال، مرورا بأهم شوارع مدينة أكادير، وانتهاء بالفضاءات التي يختتم بها. فتركيبته هي عمل جمالي يدمج الطقوس والنقد والمشاركة المجتمعية في آن واحد وإلى جانب هذه التجربة في الشكل، فإنها هي أيضًا تجربة في المضمون من حيث التجربة الجمالية والتجربة الاجتماعية.

تشرع الأسئلة أفقها الدرامي على تتبع تجليات الفرجة في حياة الناس اليومية، وفي عوالمهم الخاصة وفي علاقة بعضهم البعض، أو حتى حين تنفصل عن الفضاء الاجتماعي للناس وتغدو بناء ذهنيا محملا بأنساق معرفية وتشكلات خطابية، وتشترط قراءة جديدة للعلامات التي تنتجها عبر تشكلات جسد حر مفعم بالحياة، انطلاقا من علاقته بالمجال، إذ يفرض المجال الذي تجري فيه أطوار هذه الفرجة ملامحه الواقعية، والتي تفقد تدريجيا هويتها لتغدو عبارة عن تمثلات ذهنية/ تخييلية، تنم عن أسئلة يرتبط فحواها برصد مسار تحولات هذه الفرجة وكيف تتجسر بين الواقع المعيش بلغته اليومية وبأسئلته ورهاناته، وبين الخيال كمحرك لفن التمثيل واللعب والتقنع وسوى ذلك.

وعطفا على ما سبق، تدفعنا رحلة الأسئلة للتحري عن أصول هذه الفرجة وعلاقتها بطقوس الاحتفاء بالذات الإنسانية، والتي يصير فيها الفرد مؤديا لفعل وجودي كحالة الممثل على خشبة المسرح الذي يحاول أن يكتسب هوية جديدة عبر أدائه دور فني يتحرر من خلاله من هوية جسده الواقعي. وعلى هذا الأساس تغدو فرجة بيلماون انعطافة درامية تروم استعادة هوية مسلوبة من طرف السلطة السياسية وخطابها المعرفي، حيث يصير جسد الذات المشاركة في الفرجة أشبه بجسد المؤدي الممارس لفاعلية بشرية، يتحول فيها الإنسان العادي إلى مؤد ومتفرج في الآن نفسه، وفي سياق متباعد مع أنساق الفرجة الرسمية يتم فيه تحيين منجز فرجوي شعبي تقليدي وعريق.

*******

إحالات:

1- Jeffry C.Alexander, Bernhard Giesen, Jason L. Mast, Social Performance : Symbolic Action, Culture,Pracmatics, and Ritual

2- Eric J. HOBSBAWM, Terence O. RANGER, éd., The Invention of Tradition, Cambridge, Cambridge Univer-sity Press, 1983, p. 2.

3- Richard Bauman, Performances, And Popular Entertaiments A Communications-Contered Handbook,New York Oxford, Oxford University Press 1992, Page 22, 23.

4- Roland L.Grimes,Oxford, the Craft of Ritua Studies , University press,Page 3.

5- Richard Bauman, Performances, And Popular Entertaiments A Communications-Contered Handbook,New York Oxford, Oxford University Press 1992, Page 43.

6- عبدالرحيم جيران، “الفرجة”، مجلة دراسات الفرجة، العدد الثالث، نونبر2016، مرجع سابق، ص 140.

بقلم: د. عز الدين الخراط

Top