الفلاسفة والحب -الحلقة 19-

لم يحاول أحد مواجهة الرؤى المختلفة للفلاسفة حول الحب لدرجة أن المرء قد يكتشف مزيدا من العمق في الحديث عن الحب في الأغاني الشعبية عنه عند المفكرين المعاصرين. إذ ثمة فكرة سائدة بأن الفلسفة والحب لا يجتمعان ويقطن كل منهما في غرفة منفردة، منذ العصور الحديثة على الأقل. فمع كون الحب الظرف القدري للسعادة عند غالبية البشر، والعنصر الدائم لكل أشكال الدراما الأدبية، إلا أن الفلاسفة قد أثاروه بتحفظ يشبه من يدخل إلى قفص الأسد ويخشى أن يؤكل حياً. فقد نفهم أن الفلاسفة يطالعون تلك العاطفة الغريبة بكثير من التعقل لأنهم مشغولون بتحرير الإنسان من كل أشكال العبودية العقلية، فيما يؤدي الحب بالإنسان إلى الموت كمدا. هناك العديد من أنواع الحب، نزوة الأيام المعدودة، الاستلاب المقيد، الفتور المستمر، الجموح الخاطف، الاعتياد البارد.. ولم يفلت الفلاسفة من كل تلك الأنواع. قضية هذا الكتاب لماري لمونييه واود لانسولان ترجمة دينا مندور، محاولة للنظر في هذه النقطة بعدالة، على طريقتهم المرتبكة أو المختالة، واللاذعة في معظم الأحيان، بل والعدائية الشرسة التي انتهجها بعضهم، والحديث عن كل ذلك بلهجة حاسمة فجميعهم في الحقيقة لديهم ما يقولونه لنا عن الحب، وعما يصاحبه من وهم وخلود، وما يولده من معاناة، وعن الطريقة التي نطمح بها لترويضه.

 حياة وموت من أجل الرومانسية

لا تكفي كراسات السفر والسياحة لتقديم فكرة كاملة عن الرومانسية. تلك التسمية التي نطلقها بدافع من الكسل أو الاعتياد وبإصرار نام. حيث تتضمن تلك الكراسات تصويراً لمشاهد استقبال المتزوجين حديثاً بالورود والملابس المزينة وأطباق الفاكهة المعفاة من الضريبة في المطارات.

إلى جانب مشاهد الحب والدلال بين الحبيبين، متشابكي اليدين ووجهيهما يتطلعان إلى غروب الشمس على حافة المحيط الممتد أو على شواطئ أغادير المغربية، لذوي الميزانية المتواضعة. والحقيقة أن كل ما سبق يتقاطع بشكل ما مع جان جاك روسو وهو جالس على أحد أطراف العالم أمام شجرة جوز . القصة معروفة مع الأسف يعود العروسان إلى موبوج أو إلى دوسلدورف. وفي غضون بضعة أشهر، يبدأ التقاذف بالأطباق. فالحب، الذي اعتبره الإغريق نصف إله له تاريخ صلاحية هو الآخر.

غالباً، لا تتجاوز ثلاث سنوات. هذا ما قرأناه هنا وهناك، لذا لا بد وأنه صحيح. ويبدأ كلاهما تعارفاً جديداً على الإنترنت، ثم يكون لدينا بول وفيرجيني جديدين، ممسكين بكأسي الشمبانيا على الطائرة المتجهة إلى جزر الأنتيل). ويتبدّل شعور كل شريك منهما من وقت لآخر، ولكنها تفاصيل لا تهم.

إذن يدرك الأذكياء الآن ما نتحدث عنه ويسمّى الحب الرومانسي: إنه كذبة هدفها مكنسة السجاجيد وخرافة نسائية بالأحرى، إذ يكفي تصفح مجلة بورنو ليثبت العكس، أي الحقيقة: الجنس فقط هو ما يهم، أما الباقي، فتمويه معسول واحتيالات حيوان اجتماعي ضخم. وربما يرجع ذلك، في أحسن تقدير للرغبة في التمسك موقتاً بالشبقية وزيادة النسل. وفي أسوأ تقدير لكي تدور عجلة كل أشكال المعاملات بين البشر، وإلا فسيكون لدينا أعزب ماركسي كئيب جديد. إذن كي نعطي دفعة للإنسان في عصر الديمقراطية، ينبغي أن نوفر له الخبز، وجلسة على ضوء القمر.

يوتوبيا عاطفية غارقة

ولدت الرومانسية في القرن الثامن عشر في مواجهة الامتثالية البرجوازية، ولإدراك ذلك يستلزم بذل جهد خارق. تلك الرومانسية التي تبحث عن إيقاظ قوّة الشعور في مقابل الواقعية المحدودة للاهتمامات الفردية لأبناء المجتمع والتي تريد تأهيل إقبال الإنسان على الآخر، وحب الفرسان وإبراز معاني السمو والنبل، في مقابل نظرية هوبز القائلة بأن الإنسان هو ذئب الإنسان الآخر.

إنها حركة تحرر ضد المادية العلمية والتجارية البحتة، التي تسير بخطى واثقة لتنتصر في أوروبا كلها. تلك هي رومانسية الأصول. وفي هذا الكفاح يفرض الحب نفسه كحليف موضوعي.

تستوطن الحب طاقة جليّة، قد تقود المرء في بعض الأحيان إلى الجريمة وتقوده كذلك إلى الأعمال التطوعية والإنسانية. وبفضل هذه الطاقة، ثبت أن الإنسان ليس هذا الهيكل العظمي المتكوّن من الحسابات النهمة، ونوبات الجزع التافهة، تلك الصورة التي أرادتها له الأزمنة الحديثة وقصرته عليها. كتب رامبو(Rimbaud )،”آه، لقد اكتست عظامنا جسداً جديداً من الحب”. ومع ذلك لا نستطيع الجزم بأن رامبو كان هو المبشر بالمشاعر العاطفية التي تحدث عنها الأخلاقيون. إذ يقول الفكر الرومانسي إن الحب يشتمل على شيء ما يؤدي بنا إلى الموت. وحين شحبت ألوان العالم بفعل التجارة والعلم، ظهرت المحاولة اليائسة لإعادة البهجة إليه، وكانت تحمل عنواناً معروفاً للجميع : جان جاك روسو.

كتب آلان بلوم Allan Bloom: ذات يوم قال رجل سويسري للفرنسيين إنه لا يفهم شيئاً في الحب! واعتبره الفرنسيون أستاذهم في فن الحب. لا عجب . كان الناقد الأمريكي الكبير متحفظاً على الفحص الحيوي للحب في حاضرنا، توفّي بلوم في عام 1992 وكان يرى في روسو آخر المحاولات الحديثة للتوافق من جديد مع إيروس عند أفلاطون. وآخر المحاولات الفكرية التي تجعلنا نرى في ألعاب الحب المرهفة قوة حضارية.

بالنسبة لبلوم، أن يكون المرء رومانسياً في حاضرنا، يشبه محاولته الحفاظ على عذريته وهو يحيا في بيت دعارة. إذ يشتبك مع الوضع العام، ويفتقر إلى ما يدعمه. أقرّ تلميذ ليو ستراوس بالحقيقة الكئيبة من دون أن يتخيّل تدوير عكسي محتمل للأمر. لم تحتف أي رواية في القرن العشرين بالحب حقيقة في ما عدا أدا أو اللهيب. أما بالنسبة للباقين فأن ينتصب عضوك لا يعني فقط أنك تحب، بل يعني أنه منتصب. وقد نشعر بأن المبدأ المستخلص من رواية رحلة في آخر الليل هو الوحيد الذي تحدث عن الحب في قرن عج بالجثث والمقابر الجماعية.

كانت رواية هلويز الجديدة هي أكثر الروايات التي لا تنتمي للذوق المعاصر. ولم تمثل حكاية أي من معاصريها، هل لا تزال مقروءة؟ من الصعب الوقوف على الزلزال الأدبي الذي أحدثته وقت ظهورها. هل علينا أن نتذكر أن قصة الحب بين جولي وسان برو حققت أفضل المبيعات للمرة الأولى في التاريخ. إذ أحدثت دوياً يفوق الخيال. دوياً براقاً وغير مسبوق، فما إن ظهر الكتاب في يناير 1761، حتى أصبح في أيدي الجميع. فمن السويد البعيدة إلى الضواحي الباريسية مروراً بلندن وصالونات الشباب في ألمانيا، كان الجميع يتحسّر على حب جولي الذي استمر خمسة عشر عاماً قبل أن تعاني مع وورثر. وكأنَّ أوروبا بأكملها تعاني من صدمة. إذ تشاركت الفتيات المرهفات

والرجال الناضجون في نوبات بكاء ونشيج.

أما اليوم فتلك الرومانسية المبالغة تبدو مقرفة. تحكي الرواية عن عاشقين يهيمان في حب مستحيل وملتزمين بالأخلاقيات العامة، وطاهرين لدرجة مبالغ فيها. وعاطفة الأمومة التي أعادت جولي إلى

>إعداد: سعيد ايت اومزيد

Top