الفلاسفة والحب -الحلقة 20-

لم يحاول أحد مواجهة الرؤى المختلفة للفلاسفة حول الحب لدرجة أن المرء قد يكتشف مزيدا من العمق في الحديث عن الحب في الأغاني الشعبية عنه عند المفكرين المعاصرين. إذ ثمة فكرة سائدة بأن الفلسفة والحب لا يجتمعان ويقطن كل منهما في غرفة منفردة، منذ العصور الحديثة على الأقل.

فمع كون الحب الظرف القدري للسعادة عند غالبية البشر، والعنصر الدائم لكل أشكال الدراما الأدبية، إلا أن الفلاسفة قد أثاروه بتحفظ يشبه من يدخل إلى قفص الأسد ويخشى أن يؤكل حياً.

فقد نفهم أن الفلاسفة يطالعون تلك العاطفة الغريبة بكثير من التعقل لأنهم مشغولون بتحرير الإنسان من كل أشكال العبودية العقلية، فيما يؤدي الحب بالإنسان إلى الموت كمدا.

هناك العديد من أنواع الحب، نزوة الأيام المعدودة، الاستلاب المقيد، الفتور المستمر، الجموح الخاطف، الاعتياد البارد.. ولم يفلت الفلاسفة من كل تلك الأنواع.

قضية هذا الكتاب لماري لمونييه واود لانسولان ترجمة دينا مندور، محاولة للنظر في هذه النقطة بعدالة، على طريقتهم المرتبكة أو المختالة، واللاذعة في معظم الأحيان، بل والعدائية الشرسة التي انتهجها بعضهم، والحديث عن كل ذلك بلهجة حاسمة فجميعهم في الحقيقة لديهم ما يقولونه لنا عن الحب، وعما يصاحبه من وهم وخلود، وما يولده من معاناة، وعن الطريقة التي نطمح بها لترويضه.

الحب، حيلة مُعْدِية

كانت رواية هلويز الجديدة هي أكثر الروايات التي لا تنتمي للذوق المعاصر. ولم تمثل حكاية أي من معاصريها، هل لا تزال مقروءة؟ من الصعب الوقوف على الزلزال الأدبي الذي أحدثته وقت ظهورها. هل علينا أن نتذكر أن قصة الحب بين جولي وسان برو حققت أفضل المبيعات للمرة الأولى في التاريخ. إذ أحدثت دوياً يفوق الخيال. دوياً براقاً وغير مسبوق، فما إن ظهر الكتاب في يناير 1761، حتى أصبح في أيدي الجميع. فمن السويد البعيدة إلى الضواحي الباريسية مروراً بلندن وصالونات الشباب في ألمانيا، كان الجميع يتحسّر على حب جولي الذي استمر خمسة عشر عاماً قبل أن تعاني مع وورثر. وكأنَّ أوروبا بأكملها تعاني من صدمة. إذ تشاركت الفتيات المرهفات

والرجال الناضجون في نوبات بكاء ونشيج.

أما اليوم فتلك الرومانسية المبالغة تبدو مقرفة. تحكي الرواية عن عاشقين يهيمان في حب مستحيل وملتزمين بالأخلاقيات العامة، وطاهرين لدرجة مبالغ فيها. وعاطفة الأمومة التي أعادت جولي إلى

حياتها الزوجية في مخدع زوجها وولمار- بعد أن مارست الحب مع عشيقها – تبدو هزلية، كما أن صبغة الرواية بالجو الريفي القديم ينفر القارئ، إلى جانب الحوارات الميتافيزيقية التي لا تنتهي بين العاشقين. وتعليقاً على حوادث وأبطال الرواية قال فولتير: «لا يمكن لعاهرة أن تعظ، كما لن يصبح مُغوي النساء الحقير فيلسوفاً».

هذا الحكم المُجْحِف لفولتير، والذي لا يخلو من شعور بالغيرة من منافسه روسو، اعتبر الرواية بغيضة، بل والأسوأ أنه اعتبر الجمهور أسوأ منها لأنه صفق لها واستقبلها بحفاوة، فكان رأيه ذو سطوة على الجميع. إن انتحار آنا کارنینا تحت عجلات القطار يبدو أكثر مصداقية من مماطلة جولي وتدلّلها على الأقل البارانويا القاتمة لآنا كارنينا، فيها تعبير عن شخصية القارئ المعاصر.

ما الذي حدث كي ينتهي سحر الكتاب إلى هذا الحد؟ أكان حلماً وتبدد؟ إنه الحلم الرومانسي العظيم عند روسو، والذي تطلع من خلاله لمصالحة الرغبة الجسدية مع الأخلاقيات البروتستانتية في حظيرة سويسرية كارتونية.

هذا الحلم المتعلّق بالتوفيق بين العالم والعشاق ربما أكثر من الشعور العذب بالوجود، الذي احتفى به المتنزه الوحيد في إيرمينونفيل، هذا الحلم يبدو أنه انتهى، لقد كانت مشاعر ضائعة هي الأخرى بالنسبة له في زمن الطاقة النووية والحياة الافتراضية.

يصعب على تريستو وإيزو أن يتصورا نفسيهما مجسَّدين في صورة بورجوازيين من إقليم «فو»، كما لا يمكن لنا أن نتخيلهما في زمن الرعاية المشتركة. هناك شيء عفن في مملكة الرقة الحديثة. كان روسو أول من اعترف بفشله، فهو لم يكن ساذجاً، بل شعر أكثر من أي شخص بزمن لا يتوج فيه الحب بالعُرس.

كانت النساء بالنسبة لروسو جحيم حياته على امتدادها، والحقيقة أن الاحتفاء بالحب ليس أمراً بديهياً عند روسو، بل كان إعادة تربية بطيئة، وإعادة اكتشاف لمناطق روحية خاصة وحميمة، وتأريخ لاضطراباته العصبية الجنسية، من خلال الصراحة المراوغة في الاعترافات، التي تعد أبلغ دليل كان روسو يبلغ من العمر عشرين عاماً حين أصبح عشيقاً لمدام وارين صاحبة نزل شارميت، كانت تبلغ من العمر ما يكفي لتصير والدته، وكان يناديها «ماما». ووصفها بأنها «عجوز ورعة وكثيبة»، ثم أضاف أنه اكتشف في عام 1728، يوم عيد الفصح «وجهاً من المحاسن، وعينين زرقاوين جميلتين تنطقان بالعذوبة وبشرة مبهرة وثديين رائعين والقصة التي كتبها عن لياليهما الملونة، كانت تشبه زنا المحارم، والذي ربما لامَسَ عمق جرح غائر في نفسه. هل كنت سعيداً؟ كلا، فقد تذوّقت المتعة. ولكن ما . تلك التعاسة اللامرئية سر التي تسمم الافتتان». فبهجة الحب لم تكن أبداً صافية عند روسو. ولا رائقة كما كانت تحت السماء الإغريقية عند أفلاطون. وكرّس فترة غير وجيزة من حياته كمفكر للبحث عن مضاد لسم إيروس.

كتب روسو في الاعترافات أنه لم يعرف حبا كبيراً حقيقياً، «فالحب حيلة معدية، رجل كاد أن يموت من دون أن يعرف ذاته». صحيح، ولكن كلما اصطدم بنساء من لحم ودم وقع التهديد الكارثي، فالحب لم يكن «طبيعياً» عند كما لم يكن بريئاً، بل حاملاً لأخطار روسو.

إعداد: سعيد ايت اومزيد

Top