الفلاسفة والحب -الحلقة 21-

لم يحاول أحد مواجهة الرؤى المختلفة للفلاسفة حول الحب لدرجة أن المرء قد يكتشف مزيدا من العمق في الحديث عن الحب في الأغاني الشعبية عنه عند المفكرين المعاصرين. إذ ثمة فكرة سائدة بأن الفلسفة والحب لا يجتمعان ويقطن كل منهما في غرفة منفردة، منذ العصور الحديثة على الأقل.

فمع كون الحب الظرف القدري للسعادة عند غالبية البشر، والعنصر الدائم لكل أشكال الدراما الأدبية، إلا أن الفلاسفة قد أثاروه بتحفظ يشبه من يدخل إلى قفص الأسد ويخشى أن يؤكل حياً.

فقد نفهم أن الفلاسفة يطالعون تلك العاطفة الغريبة بكثير من التعقل لأنهم مشغولون بتحرير الإنسان من كل أشكال العبودية العقلية، فيما يؤدي الحب بالإنسان إلى الموت كمدا.

هناك العديد من أنواع الحب، نزوة الأيام المعدودة، الاستلاب المقيد، الفتور المستمر، الجموح الخاطف، الاعتياد البارد.. ولم يفلت الفلاسفة من كل تلك الأنواع.

قضية هذا الكتاب لماري لمونييه واود لانسولان ترجمة دينا مندور، محاولة للنظر في هذه النقطة بعدالة، على طريقتهم المرتبكة أو المختالة، واللاذعة في معظم الأحيان، بل والعدائية الشرسة التي انتهجها بعضهم، والحديث عن كل ذلك بلهجة حاسمة فجميعهم في الحقيقة لديهم ما يقولونه لنا عن الحب، وعما يصاحبه من وهم وخلود، وما يولده من معاناة، وعن الطريقة التي نطمح بها لترويضه.

بهجة الحب لم تكن أبداً صافية عند روسو ولا رائقة

بهجة الحب لم تكن أبداً صافية عند روسو. ولا رائقة كما كانت تحت السماء الإغريقية عند أفلاطون. وكرّس فترة غير وجيزة من حياته كمفكر للبحث عن مضاد لسم إيروس.

كتب روسو في الاعترافات أنه لم يعرف حبا كبيراً حقيقياً، «فالحب حيلة معدية، رجل كاد أن يموت من دون أن يعرف ذاته». صحيح، ولكن كلما اصطدم بنساء من لحم ودم وقع التهديد الكارثي، فالحب لم يكن «طبيعياً» عند روسو كما لم يكن بريئاً، بل حاملاً لأخطار محققة. والإنسان البري الطيب العاطل في الخطاب حول أصل وأسس اللامساواة لم يعرف شيئاً عن الحب أكثر مما يعرف عن الكلاب والذئاب.

بالنسبة له، كل من تنطوي على تاء التأنيث تكفي. والجانب المتعلق بحب الذات والمنافسة الجنسية والانشغال بالتملك والمعاناة الضارية الناتجة عن الغيرة، كل هذا يأتي مع الحياة الاجتماعية، ويحمل لها أيضاً، وفقاً لمنطق روسو، وصمة العار الشنيعة. في «إميل» ذهب روسو إلى أبعد من ذلك في معالجته للتربية. فقد قدّم الرغبة الجنسية على أنها احتیاج غير طبيعي. بل وذهب إلى تخيل أنه إذا عاش رجلاً وحيداً على جزيرة منعزلة من الممكن أن يموت من دون أن يجربها.

فالحب إذن هو شعور اصطناعي بالمعنى الضيق، وفي هذا الصدد ينضم روسو إلى الأخلاقيين في القرن السابع عشر. كتب لاروشفوكو هناك أناس ما كانوا ليصيروا عاشقين أبداً لولا أنهم سمعوا مَنْ يتكلم عن العشق فالحب قوة مُغدية. ونعرف أن روسو جُنّ بصوفي دوديتو حين سمعها وهي تتحدث عن عشيقها، وهو ما ذكره في الاعترافات وعدوى الحب قد تكون اجتماعية بحتة. فاختيار المعشوقة الذي يبدو مسألة حميمة جداً، في الغالب الأعم يحدث نتيجة ما يمليه علينا التطابق غير الشخصي. إذن فلماذا نقع في هوى امرأة ما؟ غالباً لأن رغبة الآخرين فيها تجعلها مرغوبة في أعيننا. أو لأسباب مستترة كأن ننجذب بشكل لا يقاوم، لما ينقصنا. لا شيء يُبرز السمة الاصطناعية لهذا الاندفاع الرهيب أكثر من حالة سوان، عند بروست. كانت أوديت دي كريسي طويلة وشاحبة جداً بعينين حزينتين، لم تكن كما نعرف، من «النوع» المفضّل لدى بروست. ثم يخرج سوان ليلاً ليبحث في مقاهي ومطاعم العاصمة، لأن قلق الفقد أسكن في نفسه هَوَساً قدريّاً تجاه تلك السيدة ذات العينين العاديتين. نلاحظ هنا التصوير الصافي كيميائياً لأكثر وجهات النظر قتامة عند روسو. لأن هذيان الغيرة في هذه الحالة هو الذي يولد الحب. لكن، إذا جاز التعبير، فهناك ما هو أسوأ، فالحب مثل الأخلاق عند الآخر عند روسو إلى حيل الضعفاء. فجواب لاذع النساء لكفيل بإخضاع الرجال في مملكتهم المتخيلة. قدم روسو فرضيّة، مستترة، في خطاب حول أصل وأسس اللامساواة، حين كتب: «إن العبرة من الحب شعور اصطناعي، ولده استخدام المجتمع له واحتفت به النساء بالكثير من الإقبال والعناية كي يؤسسن لمملكتهن وليجعلن من أنفسهن الجنس المسيطر الذي تجب له الطاعة». سيدعم تلك الفرضية شوبنهاور لاحقاً في خطاباته اللاذعة، حين ندّد بالزواج من امرأة واحدة، وهو ما اعتبره سلوكاً شائناً من قبل «المرأة الأوروبية» التي تستعبد رجلاً ساذجاً لها وحدها هل من المصادفة أن يطلق عليهن لفظ «عشيقات» بالفرنسية maitresse أي ما يشابه كلمة السيد maitre؟، صحيح أن الحب لا يخلو من السياسة، إنه نشاط النقابات عند النساء ! ظهر ظل لاروشفوكو مستتراً في هلويز الجديدة، حين ذكرت جولي، بطلة الرواية، موعظة أخرى من مواعظها « لا يمكن لمن تذوّق الحب إلا أن يشعر بالخزي حين يفقد الحبيب». وهذا يعني: إن الحب لا شيء، لأن وعده بالأبدية يتجلّى زائفاً، ولأن حمائم الأمس ربما يجرح كلاً منهما الآخر في نهاية الأمر. علّق روسو في هامش الكتاب: «كتاب حزين لا يمكن أن يتذوّقه أناس طيبون». ويعد كتابه الثالث الباكي، الذي حقق أفضل المبيعات والمكتوب بلغة بليغة، هو الأكثر دويّاً في القرن الثامن عشر ويقدم البداهة القاتمة.

>إعداد: سعيد ايت اومزيد

Top