الفنان المبدع والكاتب ماحي بينبين: المدينة الحمراء تسكنني.. وهذه حكايتي من مراكش نحو العالمية..

 

 هو مراكشي أولا، ثم رسام، وروائي، ونحات ثانيا، يفهم في السينما، وكثير من أشياء أخرى.. هو أيضا ابن “الفقيه بينبين” وأخ عزيز بينبين. أسرة كبيرة كإمبراطورية مترامية الأطراف، عاشت أحداثا استثنائية، لعل أبرزها مشاركة شقيقه في انقلاب الصخيرات سنة 1971 حينما كان والده ءانذاك مؤنسا للملك الراحل الحسن الثاني، لكنه تبرأ من ابنه عزيز الذي قضى سنوات السبعينات والثمانينات في تازمامارت، وهو ما أحدث شرخا كبيرا في نفسية الأسرة. حاول ماحي الهروب من كل هاته الصراعات إلى الفن. في هذا الحوار، يرجع بنا إلى أيام طفولته، قبل أن يهاجر إلى فرنسا ويصبح أستاذا لمادة الرياضيات، ليقرر التخلي عن كل شيء والتركيز على الفن فقط.. يحدثنا بينبين، أيضا، عن لوحاته التي اشتراها متحف Guggenheim وأعماله في الرواية والسينما والنحت.. رجل متعدد المواهب، يضحك كثيرا، لكن يعمل بكثير من جدية وانضباط، يستيقظ على الساعة السادسة صباحا ثم يتوجه إلى ورشته للعمل، لكن هذا وحده ليس كافيا، فالسر بالنسبة لبينبين هو “أن تولد فنانا أو لا”.

                                                                                                                                                         ********

* ماحي بينبين دائم التنقل.. لكن ماذا تعني لكم مراكش؟ وكيف أسهمت المدينة الحمراء في تكوين شخصيتكم الفنية؟

** ماحي بينبين لا يسكن مراكش، بل مراكش هي التي تسكنه.. مراكش بالنسبة لي هي كل شيء، حتى أن رواياتي التي كتبت كلها تبدأ برياض الزيتون القديم في درب الجديد، حيث عشت طفولتي مع والدتي وإخوتي السبعة.

ويمكن القول إن أعمالي الفنية كلها تتمحور حول مراكش، فالمدينة في حد ذاتها حمراء، وحدائقها بألوان مختلفة، مثلا ماجوريل باللون الأزرق.. يعني أنني فتحت عيني وترعرعت وعشت وسط الألوان، كلها خصائص أسهمت في تكوين شخصيتي الفنية كرسام.

* في 10 يوليوز عام 1971، عرف المغرب أحد أهم الأحداث التاريخية، حينما اقتاد ليوتنان كولونيل امحمد اعبابو تلاميذ مدرسة أهرمومو العسكرية في محاولة انقلاب الصخيرات على الملك الراحل الحسن الثاني. كان شقيقك عزيز من بين هؤلاء التلاميذ، ليسجن فيما بعد في تازمامارت.. ماذا كان موقف والدكم؟ وهل أثر ذلك على علاقته مع الملك الحسن الثاني؟

** الحسن الثاني قال لوالدي لو لم تكن معي يوم الانقلاب، ربما كنت سأقول إن ابنك أخبرك. قال لي أخي عزيز بأنهم لم يكونوا على معرفة بالضبط بما يدور وما كان يخطط له اعبابو، لكنهم شعروا بأن هناك شيئا ما غريبا.. وخصوصا في الليلة التي قبل الانقلاب، كان هناك صمت رهيب..

* تحدثتم في روايتكم Le feu du roi عن والدكم الفقيه بينبين، مؤنس الملك، ماذا تذكر عن ذكرياته مع الملك الراحل الحسن الثاني؟ وكيف كانت علاقتك به؟

** رحل أبي مبكرا، أي لم أتعرف عليه في طفولتي، لأنه انفصل مع والدتي حينما كان عمري ثلاث سنوات. اشتغلت أمي وتكلفت بتربيتنا. اقتربنا من بعض أكثر حينما خرج أخي عزيز من تازمامارت. والحق أنني حينما تعرفت عليه، لم يكن بنفس الصورة التي تخيلته بها، كان ذكيا، ومرحا، وأصبحنا أصدقاء. بدأ يسمع بأنني أكتب الروايات وأرسم، فأصبح مهتما بالتعرف علي أكثر.

حينما وقعت حادثة انقلاب 1971، وسجن أخي عزيز، حصلت خصومة بيني وبين والدي، الذي كان مؤنس الملك حينذاك، ولكي يحافظ على منصبه في القصر “تبرا منو”، كنت حينها طفلا في العاشرة أو الحادية عشر من عمري، وسمعت بأن أبي تبرأ من ابنه، أي أخي، لم أفهم ذلك، كيف لفقيه أن لا يدافع عن ابنه، اتخذت موقفا منه ولم أعد أذهب لرؤيته. كنت متمردا حينذاك خصوصا وأنه لم يكن قريبا منا، نحن نقطن في مراكش وهو يقطن في الرباط.

بعد خروج أخي عزيز من سجن تازمامارت سنة 1991، طلب مني أن أصطحبه لرؤية والدنا، وقد قال لي بالحرف “ديني نشوف با”. فقلت له، ذلك الرجل ليس والدك، لقد تبرأ منك حينما كنت في السجن.. لكنه، ومع ذلك أصر على زيارته. وفعلا ذهبت معه، ورأيت والدي بعد القطيعة التي دامت لسنوات. المهم أن اللقاء الذي جمع بينهما كان حارا وحميميا، عناق وبكاء بين أبي وأخي جعلني أعتقد وكأن شيئا مما كان لم يحصل!

أذكر أنه حينما كنت عائدا في الطريق أنا وأخي بعد زيارة والدنا، قالي لي بأنه عاش لأنه لم يحقد على أحد، لا على أبي ولا على الحسن الثاني، لأن الحقد يقتل صاحبه هو الأول، وقال لي بأن هذا هو مصيره وكان سيعيشه في جميع الأحوال. أما والدتي فقد توفيت بعد ستة أشهر من خروج أخي عزيز من السجن، كانت مريضة جدا وانتظرته مطولا حتى رأته حيا وحرا ثم ماتت.

* كيف أثرت هاته الأحداث التي عاشها محيطكم الأسري على شخصيتكم؟

** كانت جميع تفاصيل حياتنا تتمحور حول غياب أخي، ظلت والدتي دائما تتعامل وكأنه ما زال معنا، لدرجة أنها كانت تترك له نصيبه من الأكل أثناء اجتماعنا في كل وجبة. لمدة ثمانية عشرة سنة “حق الغايب عندنا في الدار”. ويزداد اشتياق أمي لأخي عزيز كلما اقترب شهر عيد ميلاده (مارس).

في السنتين الأوليين كنا نزوره في سجن القنيطرة، حيث كانت تصطف الأسر كل أسبوع.. وذات يوم، ذهبت والدتي للسجن تسأل عنه كعادتها، فقالوا لها: “من يكون ابنك؟ لا نعرف عنه شيئا”، كان حينذاك قد رحل إلى تازمامارت ولم نعد نعرف عنه شيئا، لم نكن نعرف حتى هل هو حي أم ميت. وظل مسجونا هناك إلى أن جاء العفو. لكن رغم ذلك، ظلت والدتي وجميع أسر المساجين يذهبون إلى السجن للسؤال عن أبنائهم كل يوم خميس. كل هاته التفاصيل أكتب عنها حاليا في روايتي الأخيرة “مامايا” التي ستصدر قريبا.

* كان تكوينكم الدراسي منصبا أساسا على الرياضيات، حتى أنكم درستم هاته المادة في باريس لمدة ثماني سنوات.. كيف كانت النقلة إلى الفن؟

** كنت دائما أريد أن أكون فنانا، لكن والدتي عارضت ذلك بطريقة أو بأخرى، وحرصت على أن أهتم بدراستي فقط. لكن ومع ذلك، مارست الموسيقى حينما كنت صغيرا، كنت أعزف على “القيتارة”، وفي سن 15 و16 تقريبا، بدأت أبتعد قليلا عن الدراسة، فبعثتني والدتي إلى ثانوية مولاي يوسف بالرباط كي أنضبط، وبقيت هناك في الداخلية لمدة ثلاث سنوات. كان الأمر أشبه بسجن، فأدركت أن الحل الوحيد لأخرج من هذا المأزق هو المواظبة على الدراسة. كنت دائما الأول، تلميذ نجيب منذ الصغر، إلى أن حصلت على البكالوريا تخصص علوم رياضية.

بعد حصولي على البكالوريا، فكرت في مشروع مقهى بمراكش في جامع الفنا مع بعض الأصدقاء، وطلبت من والدتي المال، وقالت لي بأنها بالفعل للتو حصلت على منحة ولديها المبلغ الذي طلبته منها، لكن في لحظة قالت لي “ماعرفتش علاش أنا كنت كنشوف فيك أنت تكعد في القهوة والناس يسربيوك ماشي أنت تسربي”، لكن إن أردت المال سأعطيه لك. حينما قالت لي هذا الكلام، حسمت في قراري ولم أتمم المشروع. هاجرت إلى فرنسا رغم أنني في الحقيقة لم أكن أريد الذهاب، عشت ظروفا صعبة في البدايات، لم يكن لدي المسكن والمأكل.. لكنني قاومت، مثل جميع المغاربة، وأتممت دراستي هناك، حتى تخرجت وأصبحت أستاذا لمادة الرياضيات في إحدى الثانويات بباريس لمدة ثماني سنوات. فبدأت وضعيتي المادية تتحسن شيئا فشيئا.

جوابا على سؤالكم، الفن لم يفترق معي يوما، إنها هدية من الله، إما أن تزداد فنانا أم لا. وبما أن أموري استقرت نسبيا في باريس، قررت أن أركز على الفن أكثر. فالتقيت بكاتب إسباني يدعى أجوستين كوميز أركوس، كان كاتبا اشتراكيا هرب من فرانكو إلى باريس، ثم تعلم الفرنسية وبدأ يكتب بها.

بعد وفاة فرانكو، بدأ يتردد على مدريد، ثم بدأنا نتراسل مع بعضنا البعض، ولمس في رسائلي بأن لدي قلما جميلا، ويجب علي أن أستثمره في الكتابة. والحقيقة أن علاقتي بالكتب بدأت منذ الصغر، وهي عادة تعودت عليها مع والدتي التي كانت تحثنا على القراءة لأنها كانت تقرأ كثيرا، كانت أمي بالنسبة لي شخصية ملهمة، لأنها أكملت دراستها واستطاعت أن تحسن من وضعيتها المادية.

المهم.. بعدما صرت أنا وأجوستين أصدقاء بدأت أكتب وأرسم أيضا، لأنه كان لديه أصدقاء كبار في عالم الرسم، من إسبانيا وفرنسا واليونان.. فاقتحمت استديوهاتهم وعالمهم. فقلت لم لا أكون مثلهم؟

ذات يوم، حينما عاد أجوستين من مدريد، أعطيته أولى رواياتي «Le Sommeil de l’esclave»، ظللنا نلتقي لمدة ثلاثة أشهر في المقهى بشكل يومي، وصحح معي الرواية جملة بجملة أو تقريبا أعاد كتابتها (يضحك مازحا).

حينما نشر الكتاب، لاقى نجاحا كبيرا وبعنا حوالي 8000 نسخة. بعد ذلك قالوا لي بأنني صرت كاتبا، فقلت لهم بأنني كتبت رواية فقط، كيف أصبح كاتبا؟ فقالوا لي، إذا كتبت رواية، هذا يعني أنك كاتب. ومن هنا بدأت الحكاية..

كتبت الرواية الثانية «Les Funérailles du lait» عن والدتي، لأن والدتي حينما اختفى أخي عزيز مرضت بسرطان الثدي، وتم استئصال ثديها، فحكيت هاته المعاناة في روايتي. ومن الطرائف التي حصلت، طلبت من أجوستين أن يقرأ الرواية، لكن رفض، وقال لي لن أقرأ لك بعد اليوم، أنت كاتب الآن، إعط الرواية للناشر، وإذا رفضها “بدل الحرفة” (يضحك).

بعد خمس سنوات تقريبا، كان أجوستين في المستشفى على فراش الموت، واعترف لي بأنه قاوم كثيرا كي لا يقرأ روايتي الثانية قبل النشر، وقال لي بأنه كان عليه أن يفعل ذلك ليحررني.. ولكي أعرف أنني أصبحت كاتبا.

* بداياتكم كانت مع الفن التشكيلي.. كيف فتحت لكم أبواب المعارض العالمية؟

** في الحقيقة، يمكن القول إنني كنت محظوظا كثيرا، فتحت في وجهي أبواب مجموعة من المعارض بسرعة، ولم أعش تلك المعاناة التي عاشها مجموعة من الفنانين، أعمالي أعجبت الناس حينئذ. لكن النقلة الكبرى كانت سنة 1994 حينما ذهبت لنيويورك عند أخي المليونير، وقد كان شخصية ناجحة هناك، حيث اقترح علي المجيء إلى أمريكا ليساعدني.. ولطالما ساعدته أيضا حينما كان يدرس.

تخليت عن مهنتي كأستاذ للرياضيات، ثم توجهت نحو نيويورك وهناك تفرغت للكتابة والرسم. سنة 1997 وقعت معجزة حينما اشترى مني أحد أهم المتاحف في العالم Guggenheim بعض اللوحات، المتحف كان خاصا بلوحات الفنانين الكبار فقط، واقتحمت أنا أيضا أروقة المتحف وأنا في 38 من عمري. كان ذلك بمحض الصدفة وكثير من الحظ أيضا. هنا، ستبدأ مرحلة أخرى في حياة ماحي بينبين.. حينما دخلت أعمالي إلى Guggenheim بدأت معارض جميع أنحاء العالم تتهافت علي.

* ماحي بينبين رسام عالمي.. لكن هل ترون أن الرواية والسينما ساهمت في شهرتكم أكثر في المغرب؟

** أعتقد أن أعمالي انتشرت جميعها في نفس الوقت، يعني بالموازاة مع بعضها البعض، لوحاتي انتشرت في العالم بأكلمه، ثم الروايات بدأت تترجم، كل رواية من رواياتي مترجمة إلى 15 لغة.. صحيح حينما جاء الفيلم الأول “يا خيل الله” مع نبيل عيوش، أصبحت الرواية التي اقتبس منها الفيلم تقرأ أكثر، لكنها كانت مقروءة قبلا –مع ذلك-.

*Rue du pardon  رواية أعطيتم فيها مقاربة لحياة الشيخة من خلال محاولة لرد الاعتبار لها كفنانة.. هل ماحي بينبين يرى أن الشيخة هي نموذج للمرأة النسوية قبل الوقت؟

** شخصيا، أحب الشيخات كثيرا، ومرة في الشهر أستقبلهن في منزلي. وكنت صديقا لإيمان التسونامي رحمها الله. وهي بطلة روايتي «Rue du pardon» كما حكت لي على لسانها. وطبعا أضفت قصصا من وحي خيالي لأنني روائي.

كانت إيمان كلما تعبت وأرادت الابتعاد عن الأضواء تأتي لزيارتي في ورشتي بتحناوت، كانت تجد الراحة معنا، لأننا كنا نتعامل معها بشيء من التقدير كفنانة مثلنا وليس كشيخة بالمعنى القدحي، لم نكن نراها كامرأة سهلة أو عاهرة.

تعرفت على إيمان حينما عدت إلى المغرب في بداية الألفينات، كما أنها كانت تسكن بالقرب منا، فأنا كنت أسكن في رياض الزيتون القديم، وهي في درب العفو، ولهذا عنونت الرواية بـ «Rue du pardon» وللإشارة فإن الرواية تشتغل عليها سينمائية من ألمانيا وستتحول إلى فيلم بعد سنة ونصف تقريبا.

ردا على سؤالك، فالشيخة بالفعل كانت امرأة ثائرة ونسوية قبل الوقت، مثل شخصية الشيخة “السرغينية”، التي تحدثت عنها أيضا في الرواية، وقد كانت تتزين بأحمر شفاه وشعر مكشوف و”جلابة” ضيقة.. في وقت كانت النساء محجبات في بيوتهن، هذا يعني أنها أرادت القول “الشارع ليس للرجال فقط، بل لي أنا أيضا”. هناك نوع من النفاق، نحن ننقص من الشيخة ولكن نريدها في الأعراس والختان.. لكن في نفس الوقت لا نريدها أن تكون أمنا أو أختنا!

* في الفن التشكيلي بأي المدارس تأثر ماحي بينبين؟ ومن هو le maître في الفن التشكيلي بالنسبة لكم؟

** يمكن القول إنني تأثرت بالرسم الغربي، وخصوصا مدرسة فنان إسباني يدعى Francisco de Goya هناك أيضا مجموعة من فناني القرن 20 مثل Francis Bacon وPablo Picasso وGinovart و Salvador Daliوهناك رسامون أراهم حاليا الأفضل مثل بارسيللو. كلهم فنانون كبار استفدت وتعلمت منهم. ويمكن القول إنني أفضل الفن التشكيلي المعاصر .Contemporain

حينما وصلت إلى باريس، فتحت عيني على مجموعة من اللوحات في مجموعة من المتاحف، وأعتقد أن هاته هي المدرسة الكبرى وهذا ما ينقصنا في المغرب، ولهذا فتحت أنا ونبيل عيوش مجموعة من المراكز الثقافية، لدينا حاليا ستة، كما أسسنا أكاديمية الفنون بالدار البيضاء.

 * كتابات ماحي بينبين بالفرنسية، أي أنها بالضرورة موجهة للنخبة الفرنكوفونية، في المغرب وفي فرنسا.. لماذا هذا الاختيار؟ وألا يفكر ماحي بالكتابة بالعربية؟

** رواياتي كلها مترجمة للعربية، لكنني لا أستطيع الكتابة بها، وكما ترين أقوم بجهد كبير حتى أتحدث معك بها (يضحك مازحا). وهذا راجع إلى الصغر، فلم أجد أساتذة يحببونني في اللغة العربية. بل كرهتها بسببهم. حاليا أشعر بنقص وبشيء من الندم، لهذا أواظب على قراءة رواياتي بالعربية حينما تترجم، وكل صيف أقوم بحفظ قصيدة، وهذا الصيف حفظت قصيدة المنفرجة، أحاول فهم الكلمات وأسمع لعبد الهادي بلخياط كل صباح، وهو يغنيها، لكي أتعلم هاته اللغة التي كرهتها في الصغر.

 * رواية “نجوم سيدي مومن” تم تحويلها إلى فيلم “يا خيل الله” الذي أخرجه نبيل عيوش. كيف استنبطتم شخوص روايتكم، وكيف استطعتم التوغل في عوالم دور الصفيح ونفسية الأشخاص الذين يعيشون هناك.. لتخرج لنا رواية بتلك السلاسة؟

** دخلت المغرب سنة 2002، وقد كان بإمكاني البقاء في فرنسا لأنني أحمل الجنسية الفرنسية، إلا أنني فضلت الرجوع إلى البلد بعد وفاة الحسن الثاني، وأيضا بعد الإشارات الديمقراطية التي قدمها الملك الجديد حينذاك، محمد السادس، كانت فترة من الانفتاح والانفراج.

في ماي 2003 وقعت الأحداث الإرهابية، فذهبت لكي أفهم لماذا وقع ذلك، فالمغرب بلد لم يعتد على مثل هاته الأحداث الإرهابية. ذهبت إلى سيدي مومن والتقيت مجموعة من الجمعيات، وهناك صعقت حينما وجدت أربعمائة ألف نسمة تعيش في “البراريك” في ظروف كارثية، كان الأمر مرعبا فعلا!

تعرفت على صحافي من أبناء سيدي مومن، وقد أصبح صديقا لي وبدأنا نتردد مع بعض على سيدي مومن، توغلت في عوالم “البراريك”، وجالست الناس وتحدثت معهم.. كنت أريد أن أفهم لماذا أصبحنا هكذا؟ لماذا فكر هؤلاء الشباب في تنفيذ هاته العمليات الإرهابية، لدرجة أنني فكرت للحظة مع نفسي، لو عشت نفس هاته الظروف في هذا المكان ولم أدرس.. لكنت مثلهم وفجرت نفسي أيضا!

بدأت أكتب الرواية سنة 2003 وفي سنة 2005 توقفت، لم أكن أريد أن أظهر هؤلاء الشباب كمجرمين، بل كضحايا. لم أستطع إكمال الرواية لأنني لم أكن متفقا على العنف، لكن في نفس الوقت كان العنف هو الحل الوحيد لهؤلاء الشباب! في هاته الأثناء، كتبت رواية أخرى عن مراكش تحت عنوان «Le griot de Marrakech»  كانت بمثابة استراحة أدبية.

ثم عدت مرة أخرى لرواية نجوم سيدي مومن، ولم أقل بأن هؤلاء الشباب لديهم الحق فيما فعلوا. جعلتهم يفجرون أنفسهم في الصفحة الأولى من الرواية، ثم بعد ذلك بدأت أسرد حكايتهم، هنا يصبح القارئ خائفا على هؤلاء الشباب من تنفيذ عملية الانفجار، رغم أنه عرف في الصفحة الأولى أنهم انفجروا بالفعل!

* هل ترون أن تحويل الرواية إلى عمل سينمائي يخدم الرواية أم ينقص من هويتها في العمل السينمائي؟

** حينما عرض علي نبيل عيوش تحويل روايتي إلى عمل سينمائي، قلت له سأعطيك الرواية، لكن بشرط، هو أن لا تظهر هؤلاء الشباب كوحوش، ولكن كضحايا، وإذا اتفقنا على هاته النقطة الباقي تفاصيل..

حينما قدمت الرواية لأول مرة في الدار البيضاء، حضرت عائلات الضحايا، وقلت لهم بأن هؤلاء الذين قتلوا ذويكم ليسوا مسؤولين عما فعلوا. وقد كنت متخوفا من ردة فعلهم، وحينما أنهيت تقديم روايتي، تحدثت معي امرأة وقالت لي بأنها متفقة معي بالرغم من أن شقيقها كان ضحية لهاته العملية الإرهابية، لدرجة أنها قالت لي بأنها أعطت ملابس شقيقها لشقيق المنفذ للعملية الإرهابية، كي لا تتكرر هاته المأساة.

حينما رأى فيلم نبيل عيوش النور، وعرضناه في سيدي مومن، قمنا بدعوة عائلات الضحايا وعائلات المتفجرين، وبعد انتهاء الفيلم، أعطينا الكلمة لامرأة ثم قالت: تقولون لي بأن أسامح؟ من سأسامح؟ أنا لم أسامح نفسي لأنني أتيت متأخرة للمطعم الذي كان فيه زوجي وإبني وراحا ضحية الانفجار، ربما لو أتيت في الوقت لمت معهم، لم أستطع مسامحة نفسي لأنني لم أمت معهم!

 * إلى أي حد تتفقون مع مقولة Je risque ma vie à chaque tableau، بمعنى أن لوحة واحدة يمكن أن تهني حياة رسام؟

** أفهم هاته الجملة جيدا، حينما أشتغل على لوحة ما يكون بيني وبينها نوع من الشجار.. لا يمكن أن تخرج أي لوحة من ورشتي إن لم أكن راضيا عنها، إذ يمكن لها أن تقتلني. لكن هناك لوحات رسمتها منذ 30 سنة، أبحث عنها جاهدا لأشتريها لكي أكسرها (يضحك).

سأفتح سنة 2026 أو في أقصى حد 2027 متحفا خاصا بي، سأضع فيه لوحاتي ومنحوتاتي، أما بالنسبة للوحاتي القديمة، فأحاول جاهدا تجميعها والبحث عنها لاقتنائها. سيكون مصطفى أغريب مديرا للمتحف. وبالمناسبة، في كل مرة لا تعجبني لوحة ما من لوحاتي القديمة وأحاول أن أعدل فيها يمنعني أغريب من لمسها.

* ماحي نحات أيضا، والنحت فن معقد وصعب نوعا ما.. لأنه يتطلب الاهتمام بالتفاصيل بطريقة مثالية.. هل يمكن أن تحدثنا قليلا عن تكوينكم وتجاربكم في هذا المجال؟

** أعتقد أن جميع الرسامين يصلون إلى مرحلة ما يريدون الخروج فيها من عالم الرسم، والتوجه نحو النحت. ولطالما كنت أرغب في أن أكون نحاتا، بدأت في البداية بالأقنعة «les masques» حينما كنت في فرنسا. للأسف في المغرب لا توجد لدينا ثقافة النحت، ليست لدينا ورشات للاشتغال على هذا الفن.. وإلى غاية اليوم، أشتغل على منحوتاتي في الخارج وأحضرها إلى المغرب. من المواضيع التي اشتغلت عليها في منحوتاتي هناك موضوع تازمامارت، الذي ألهمني كثيرا في منحوتاتي، فنحتت أشخاصا مكبلين بالأغلال. وكذلك مواضيع لها علاقة بحوار الأديان.

* كيف يستطيع ماحي التوفيق بين جميع هاته الفنون (الرواية، السينما، الرسم، النحت…)؟

** أسيتقظ على الساعة السادسة صباحا كل يوم، أشرب قهوتي وأتوجه إلى ورشتي داخل المنزل ثم أبدأ في الاشتغال. هذا هو السر.

* اختيرت مراكش كعاصمة للثقافة في العالم الإسلامي لسنة 2024.. هل من مساهمات لأعمال ماحي في إبراز ثقافة هاته المدينة؟

** لا، ولن أشتغل مع الدولة مرة أخرى، بسبب ما وقع مؤخرا في البندقية، لأنني كنت سأكون مسؤولا عن الجناح المغربي في «La Biennale de Venise» هذا يعني أن العالم بأكمله سيرى أعمالنا. اخترت حينذاك ثلاث فنانات، مجيدة الخطاري، صفاء الرواس وفتيحة الزموري، ثم توجهنا إلى البندقية وبدأنا الاشتغال، لكن بعد ذلك اختاروا آخرين مكاننا مما تسبب في “فضيحة” أو ضجة بسبب هذا التغيير، وما أجج الوضع أكثر، المقال الذي كتب في جريدة Le Monde ثم لم يعد لدينا جناح مغربي من الأساس وحرم المغرب من هاته المشاركة التاريخية.

وهاته ليست المرة الأولى التي يحصل فيها هذا التراجع، فسبق وجهزنا كل شيء لمدة سنتين على أساس أن مراكش ستكون عاصمة للثقافة الإفريقية بعدما تم التصويت عليها، ثم ذهبت لباريس وحضرت للندوة الصحفية هناك، وبعد عودتي إلى المغرب، فوجئت أنهم غيروا المدينة واختاروا الرباط بعد ذلك. وكخلاصة، سأكررها مرة أخرى، ماحي بينبين لن يشتغل مع الدولة مرة أخرى.

 * هل يمكن أن تحدثونا عن تجربتكم في رئاسة مهرجان مراكش للكتاب الإفريقي؟ وكيف استطعتم إقناع أسماء كبرى مثل الفيلسوف الفرنسي إدغار موران بالحضور؟

** كل شيء بدأ من فكرة أننا لا نعرف الكتاب الأفارقة، فأنا مثلا كي ألتقي كاتبا أو فنانا إفريقيا يجب أن أذهب إلى باريس، في حين أن الإفريقي هو جاري، يمكن أن يأتي عندي أو أذهب عنده. فاتفقت أن وبعض الأشخاص لإحداث هذا المهرجان الذي سيخصص للرواية الإفريقية. حضر الدورة الأولى من المهرجان 50 كاتبا تقريبا و40 صحافيا لمدة 4 أيام في مراكش، واخترنا في اليوم الأول من الدورة الأولى للمهرجان وجها بارزا لتقديم المهرجان، وهو الكاتب Jean-Marie Gustave Le Clézio الحاصل على جائزة نوبل للآداب، هو صديقي، ولطالما كان يريد زيارة المغرب لاكتشاف المراكز الثقافية التي أحدثتها، فذهبت عنده لأدعوه وقلت له بأن هذا هو الوقت المناسب للمجيء إلى المغرب والتعرف على المراكز الثقافية ثم المشاركة في المهرجان. ومداخلته التي ألقاها في اليوم الأول للمهرجان كانت رائعة لدرجة أنه تم تحويلها إلى كتاب.

أما الدورة الثانية فقد دعونا الفيلسوف السنغالي Souleymane Bachir Diagne وكان الدرس الذي أعطاه رائعا جدا. تحدث عن إفريقيا التي قطعت أطرافها وتحاول الآن تجميعها. حضر أيضا صديقي Edgar Morin الذي دعوته للمهرجان من أجل تكريمه، وبالرغم من كبر سنه إلا أنه قدم مداخلة رائعة استنكر فيها ما يقع في غزة وصمت العرب والدول الأوربية التي تبيع لنا وهم حقوق الإنسان.. مداخلته شاهدها أزيد من 20 مليون شخصا على مواقع التواصل الاجتماعي، وقد استطاع أن يقول ما لم نستطيع نحن قوله، شعرنا بالراحة.. فمن يستطيع مواجهة إدغار موران؟ (يضحك).

 * هناك مقولة لمحمد شكري في روايته (الشطار) تقول: “هذه هي مهمة الفن، أن نجمل الحياة حتى في أقبح صورها”، إلى أي حد تتفقون مع هاته المقولة؟

** أنا كبرت في أحياء شعبية، وهذا ما ألهمني في كتاباتي، كبرت مع أناس من “قاع الدرب”، صحيح كانوا فقراء ماديا ولكنهم كانوا أغنياء روحيا، كانت هناك قيم جميلة مرتبطة بالخير والتضامن.. أظن أننا كنا أفضل في الماضي، وهذا ما أشرت له في الرواية التي أكتب الآن، والتي أثرت بي كثرا. ماحي بينبين حينما يكتب رواية بها الكثير من الأسى يستعمل عبارات منمقة وجميلة كي يستطيع القارئ بلع الرواية أثناء القراءة. وهو الأمر ذاته حينما أرسم عن موضوع حزين، أحاول استعمال ألوان مبهجة كي يعيش معها المشاهد.

حاورته: سارة صبري              

تصوير: طه ياسين شامي

Top