“أنت تعاني أعراض القلق البيئي”.. لم يكن أحد يتصور يوما أن يصبح الخوف من التغير المناخي تشخيصا طبيا لمن يعانون أعراض اضطرابات النوم ونوبات الهلع والحزن والتفكير الزائد، وغيرها من الأعراض.
منذ سنوات عدة، إذا ذكر التغير المناخي ذكرت الآثار الملموسة له كالحرائق والجفاف وندرة المياه والفيضانات وتقلب درجات الحرارة، ولكن لم يكن يخطر بالأذهان أن الأمر قد يصل إلى وضع الأطباء والمعالجين النفسيين مرضًا نفسيًا تحت اسم “القلق البيئي”.
التغيرات المناخية.. أم النفسية؟
لم يكن الحاصل على الدكتوراه في علم النفس، والقاطن في مدينة بورتلاند بولاية أوريغون الأميركية، توماس جيه دوهرتي، يعلم قبل 10 سنوات أن أبحاثه حول التأثيرات النفسية لمظاهر التغير المناخي ستعود للسطح من جديد.
إذ نظرَ لأبحاثه منذ 10 سنوات على أنها مقترحات أو تكهنات صعبة التحقيق، فلم يكن أحد يدري في تلك الآونة أن أعراض القلق البيئي الناجم عن التغير المناخي سوف تمتد من المسؤولين المتحملين لأعبائه المباشرة إلى المواطن العادي، الذي يقابل هذا المفهوم فقط من خلال نشرات الأخبار أو البحث الإلكتروني.
لكن الآن، تحولت تكهنات دوهرتي إلى واقع، وشرعت المنظمات المهنية المتخصصة في محاولة استكشاف سبل علاج جديدة للقلق البيئي، ورغم عدم الاستقرار حول خطط علاج فعالة لنقص المعلومات التجريبية؛ فإن المجال يشهد إقبالا واسعا.
علاج نفسي “مناخي”
في مدينة بورتلاند ذاتها، موطن إقامة المعالج النفسي للقلق البيئي والآثار النفسية للتغير المناخي، توماس جيه دوهرتي، كانت آلينا بلاك، وهي أم لطفلين أحدهما في الخامسة من عمره والآخر ما زال رضيعا، تبحث عن متخصص نفسي في التعامل مع آثار القلق البيئي وعلاج نوبات الهلع التي تهاجمها.
ورغم أن بلاك ما زالت في الـ37 من عمرها ولم تكن تحمل أحلاما تخص العالم؛ فإنها شعرت بقوى متصارعة تحاصرها وتقترب من الفتك بها ببطء؛ ما دفعها للبحث عن معالج نفسي من آثار “القلق المناخي”.
عانت بلاك اضطرابات في النوم وتحولت حياتها العقلية إلى خيالات تربط الواقع المحيط بها من أشياء ومعدات بالأحداث المناخية في العالم.
وصفت بلاك حالتها بأنها تحولت إلى خوف مرضي “فوبيا”، ورغم إدراكها أن مشكلتها تتسم بالرفاهية -من وجهة نظرها- فإنها أثرت في حياتها بصورة كبيرة، وفق ما نقلت عنها صحيفة نيويورك تايمز الأميركية.
ورغم أن بلاك امرأة عاملة لديها مشاغلها بجانب كونها أما لطفلين؛ فإن حرائق الغابات وموجات الحر طوال عامين في مدينة بورتلاند بولاية أوريغون الأميركية أيقظت شيئا ما بداخلها، وحولت اهتمامها نحو الآثار المناخية من حولها.
أعراض وخيالات
تستيقظ بلاك ليلا، لكنها لا تخلد إلى النوم مرة أخرى؛ حيث تقضي ليلتها تفكر في أسعار أنظمة تنقية المياه وتختار مولدا كهربائيا هدية لعيد ميلادها.
رؤية بلاك للألعاب البلاستيكية الخاصة بأطفالها في أحواض الاستحمام تثير قلقها، وحفاظات رضيعها ذات الاستخدام لمرة واحدة أثارت لديها تساؤلات حول علاقتها بحرائق الغابات!
بعد اضطراب في النوم ليلا تستيقظ مبكرا، وقبل أن تستعد للخروج إلى عملها تعتني بالرضيع وتطالع أخبار الجفاف والحرائق والانقراض، ثم تترك لخيالها العنان.
تتناول ألينا بلاك وجبة سريعة في سلسلة محال تريدر جوز الأميركية، فتلاحقها مشاعر الذنب والعار وقشعريرة بالجلد، وإذا تناولت بعض “المكسرات” المغلفة في علبة من طبقات البلاستيك تنطلق بالتفكير في أن تلك المواد البلاستيكية ستستقر في مدافن النفايات لمدة قد تصل إلى مثل عمرها هي وأبنائها.
كانت تفكر في استخدام طفلها للحفاظات والمواد المصنوعة منها، وطفلها ذي السنوات الـ5 الذي يفضل الوجبات السريعة، إلى جانب تفكيرها في وظيفتها ذات الدوام الكامل.
أفكار مثيرة للقلق
لم تكن بلاك الحالة الوحيدة الباحثة عن معالجين نفسيين لاضرابات القلق البيئي الناجم عن التغير المناخي؛ فالدكتور دوهرتي رغم أن ورقته البحثية -بالتعاون مع زميلته بروفيسور علم النفس بجامعة ووستر، سوزان كلايتون- نشرت قبل 10 أعوام؛ فإن إقبال من يعانون القلق البيئي حاليا دفعه لإقامة تدريب متكامل.
واستقبل دوهرتي مؤخرا حالة طالبة عمرها 18 عاما، تعاني نوبات تقضي على قدرتها على النهوض من فراشها، ومسن -69 عاما- يعمل جيولوجيا بالمناطق الجليدية؛ حيث يدخل في نوبات حزن عند النظر إلى أحفاده والتفكير في مستقبلهم، وآخر في الخمسينات من عمره يغضب من حديث أصدقائه عن قضاء العطلات في إقليم توسكاني الإيطالي، ويصاب بالإحباط من خياراتهم الاستهلاكية.
أعراض تعادل الخوف من”الإرهاب”
اتفق عدد من رواد مجال الصحة العقلية على أن القلق البيئي بشأن التغير المناخي يعادل -طبيا- قلق تهديدات الإرهاب أو التعرض لإطلاق النار، أو غيرها من الممارسات العنيفة.
وأعد ائتلاف علم نفس المناخ، الذي أُنشئ بين عامي 2009 و2012، دليلا للمعالجين النفسيين المهتمين بالمناخ تحت اسم “شبكة جود جريف” لبرامج الدعم النفسي للذين يعانون القلق البيئي إثر التغير المناخي.
لكن ظهور المجال واجه مقاومات عدة؛ إذ يعتمد أساس تدريب المعالجين النفسيين على فصل وجهات نظرهم عن ممارساتهم العلاجية.
كما أن تعزيز علماء النفس لهذا المجال قابله تخوف من نشطاء المناخ؛ إذ عبروا عن قلقهم من اعتبار الاهتمام بالشؤون البيئية أو القلق المناخي تفكيرا “مختلا” يحتاج للتهدئة أو العلاج.
< هبة مصطفى
(عن موقع “الطاقة”)