يمر الكاتب المغربي محمد جبران حاليا بظروف صحية حرجة، نتمنى أن يخرج منها سالما معافى؛ لمتابعة شغبه الإبداعي. بالمناسبة، نفرد له هذا الحيز الذي يتحدث فيه عن تجربة الكتابة والحياة، كما ندرج نموذجا من إنتاجاته القصصية، علما بأن مجموعته القصصية الوحيدة الصادرة حتى الآن ضمن سلسلة الكتاب الأول التي تشرف عليها وزارة الثقافة المغربية، قد نفدت منذ سنوات عديدة، ولم يتم إعادة طبعها، مما يجعل الأجيال الحالية لا تكاد تعرف شيئا عن هذا الكاتب المتمرد.
أنا والكتابة
بدايات علاقتي بالكتابة هي بدايات الميت وهو يكتشف على مهل حقيقة معنى طين ترابه السادر في الحياة، لم تكن علاقة بالمعنى التعاقدي، ولا هبة امتياز كشوفات عوالم بكر، بل علاقة مبتورة من جانب واحد، تستسهل الاحتواء إلى حد الامتلاك الموهوم وفق سرعة لا متناهية، شأن غرير يطوح بعضه ببعضه في سطح ماء الكتابة وهو في غفلة من أسرار تياراتها الداخلية العنيفة ومن عمق أغوارها القاتلة.
روح الكتابة كانت رحيمة بي، تعرفني وأنا لا أعرفها ما أزال، تلملم جراح أخطاء عثراتي، تكفكف دموع أعطاب لغتي، وتحملني دائما إلى بر الأمان، هول بياض صفحة البداية مجددا.
لم أختر الكتابة في جنس القصة القصيرة. القصص التي لا تنكتب ولا تنقال هي التي عرضتني بقوة على الانتساب إلى سلالة الممجدين من كتاب القصة القصيرة. أنا في المبتدى والمنتهى، إن كنت علمت بمعنى من المعاني غيب القصة القصيرة، فلم أختر واقعها الذي يحتاج إلى درس في التخريب.
لم أتسلق كراسي الطباشير ولا مواعيد التلقي والبحوث في يوميات الدرس، بل محصلة لدم الرصيف ودلال التربية ومذاقات طعم الحلوى المرة في الفم.
العلاقة التي لدي بمرجعياتي، علاقة التباس ومحو، وشموس تطلع من ملايين الراوايات والقصص والأشعار المنسية وأرواح تشد أزر فضاءات بكر، مأهولة بالدهشة والخراب، فصيلة دمي وحدي دليلي.
أنا والمؤسسة
أنا أجلس في الصف الآخر للمؤسسة، شأن الممجدين من الكتاب المنذورين لإعلاء قامة: لا. حتى لا تنطفئ ذبالة روحي، حيا في مدافن بهرجة: نعم. أبواق المؤسسة من أشباه كتاب الحراسة أمد الله في عمرهم، هم أعدائي التاريخيين، كلما أثثوا لي قبرا عن طريق ولاءاتهم المكتوبة، غمرت يتمهم المديد وكآبة وحدتهم المريرة وردا: مقالا مفتوحا، قصة قصيرة، انفجار قهقهة حبة العنب في الدماغ.
أنا مزعج لنفسي وللآخرين
من طبيعة كاتب ملعون وغير مرغوب فيه مثلي أن ينسجم عضويا واختياراته الجمالية، بما في ذلك نظام تفكيره وأن يحارب بالتالي طواحين كتبة المستنقعات على طريقته حيث اللسان سيف من قطران وحنظل. أنا فوضوي، لكن بمعنى كشف الحجاب عن الفوضى والحث على تشريح وبائها الكامن المستشري في أوصال جسد المشهد الثقافي والفني من محسوبية داعرة واتكالية فاسدة وابتزاز مساومات تزن القصة القصيرة بميزان البطاطس، لأن الأرواح التي تؤثث المشهد الثقافي تركن الشبه الصمت عن الفوضى. فقد أهل أحيانا، حينما أكون الآخر الذي يماثلني أحيانا محتميا بخلفيات عقبة ازدهار القصة القصيرة والمسرح لأرتب نظام الفوضى، ما دام قطع دابرها واستئصالها يتجاوزني. هذه فوضاي، تصل المكتوب بغير المكتوب، الورقة والحبر، بالمقهى والفنجان.
أنا مزعج لنفسي ربما، لأن جسدي لا يطيقني ولا يحتمل اشتعالاتي، في غير قليل من تجاويفه، يتبدد لهيب طاقتي من فرط الإحباط والغمة، ويتسرب دخانا برائحة الشياط، وفي غير ما مرة، أنتبه لطيني الذي يكتب كينونتي من حيث لا أدري، وقد تحول إلى رماد مكوما في الرماد، تلك مصيبتي وحدي وضريبة فساد ثقافي مستشري. أين النقاد؟ أسأل أصابع يدي، فتداهمني الحرائق.
الذين يرجمونني بجنحة الإزعاج، يعرفون أكثر من غيرهم حجم الفساد والرذيلة التي يشهرونها في الناس عن طريق كتاباتهم الموبوءة، لذلك لا يحتاج الأمر بالنسبة إليهم إلى صلاة جنازة في مقبرة رمزية، بل إلى محاكمة نقدية لرأب صدع فيض الجنايات التي يقترفونها، آه، لو كانت لغة الضاد خلفية من حروف الاعتقال الأدبي.
أنا وطقوس الكتابة
لا طقوس ترتب الذهاب باتجاه الحدائق السرية كلما تعلق الأمر بانشغالي واشتغالي على الكتابة، هذه الأخيرة هي رائحتي وهويتي، تحملني وأحملها معي أينما حللت وارتحلت، هي كرامة الخنجر الفضي القاتل بقلبي والموت دونها أهون. لا أستأنس الاشتغال مقيدا إلى المكتب، تلك عادة تسربت من عمري كما يتسرب العمر، ولا يعرف المرء أين تواريا، هي والعمر.
فاوضت أكثر من مرة على بيع مكتبي الكبير والمصنوع من خشب باذخ، مضمخ ما يزال بعطور أحلام أشجار غابات مجهولة، ولولا روح والدي النجار، وذكريات عرق جبينه، لتخلصت منه أكثر من مرة. أدمنت الكتابة في المقاهي منذ زمن بعيد.
جسدي طقس مؤثث على الدوام لممارسة حب وحرب الكتابة، ما يلزمني لولوجه هو استحضار ساحة لروح وقت لا يشبه الوقت، ساعتان أو ثلاثة على الأقل من عمر الموتى كل صباح باكر غريب، منفلت وغير محسوب، ولأنني أكتب ما يشبه الحياة على ورق موصول برائحة الكفن ولونه، فقد يلزمني غير قليل من الإحساس بطهارة الروح غير قليل من التماعات وميض الأبهة في جسدي، هكذا كان الحال دائما، سطور قليلة ومستقيمة وفق تقويم الدم ومسطرته التي لا تمحى، فقو دأب النمال وعبث الأرضة ورطوبة النقد.
أنا والصحافة
الصحافة هي جوهر جهاز الرصد البين والاستثناء لكشف أعطاببيان كتاباتي وتقويم اعوجاج بنية خلقتها، من موقع اعتبارها تمنح نصوصي سحر أجنحة قوية للاختراق والطيران: نصوص تكتب في البدء غمتها في العزلة على حافة المعنى، لكن سرعان ما تتناهى إليك من بعيد، قيرب أصداء معناها، وقد كسرت طوق العزلة عنك وعنها، نصوص فوق احتمال الإقامة في المكان الواحد، وهذا يعني أنها وليف الصحافة، روحها من روحها، تتعدد في أشكال القراءات، تسافر عبر الأمكنة واختلاط الأجواء، وتنسج دون معرفة سابقة مستويات مختلفة من العلاقات، يظل معها الكاتب في خلفية المنتوج اسما ولا كل الأسماء، رمزا ولا باقي الرموز، نصوصا تحفر مجرى مغايرا للكلام، والكاتب من حيث يدري ولا يدري سادر في برقشة الكلام، تثير غير قليل من ماء جدل الرهان.
كل هذه الحياة وهي تنهض من صلب هامش حياتك المواراة في الغبار تمنحها لك الصحافة، هذه الحياة المليحة الأشبه بطعم شهد العسل.
أنا والمسرح
كتبت للمسرح من وطأة الإحساس بأن عبور غبار طريق الحياة الواحدة، المسطر وفق قدرة لا راد له، لا يكفي. وأن هناك بمعنى من المعاني حجرا على حرية الذات، استقلاليتها، وحلولها بالتالي في ما ترتضيه وتشتهي من ذوات أخرى مغايرة.
كنت دائما نزاعا إلى التعدد والاختلاف ومعايشة أرواح حيوات أخرى، والمسرح كشكل من أشكال التعبير، وعن طريق التماعات وميض التماهي وانخطافاته، يرتب مدارج لصعود وولوج مدارات هذه المجاهل المعلومة: أن يبزغ نجم ولادتك غير ما مرة، وأن تموت مرات، أن يتعدد لسانك ويتنوع فكرك، وتضرب مبادئ بمبادئ، وأنت في الصورة لست غير ما أنت. لكن علاقتي بالمسرح أساسا هي علاقة تنمية حرية الإدراك عند المتفرج وحثه على الاغتباط بتغيير الواقع، من منظور أن ما ينسجه المسرح ويرتبه من علاقات مرحلية منذورة حتما للتغيير بتغير المجتمع.
***
عدو الشعب.. من الإنتاجات القصصية لمحمد جبران
داخل فضاء محدد يغمره ضوء خفيف وما دون ذلك ظلام، كنت أجلس إلى مائدة من الخشب المسوس، أشرب قهوة مغشوشة مدركا كامل الإدراك أن الظلام الذي ينتهي عند حدود الضوء الخفيف غير مفهوم وأن المكان نفسه من الجائز أن يكون خلفية لكابوس حي.
كنت داخل كل هذا، عندما برز رجل من بين تلافيف الظلمة، وقبل أن يخطو داخل الضوء الخفيف، رددت مع نفسي “هذا رجل حقيقي”. كان طويل القامة مع وسامة أقرب منها إلى سر المرأة، ورغم القميص الحريري المفتوح والسلسلة الذهبية التي تتدلى من عنقه وتستريح على صدر عريض مشعر، قلت: “هذا رجل حقيقي ولكنه من الصنف البارد”، وأكملت بنوع من التحفظ: “إن هذين الخاصيتين، الوسامة والبرودة عادة ما ترتبطان في ذهني بمشعلي الحرائق”. كان الرجل الآن، قد جذب كرسيا وواجهني دون أن يكلف نفسه عناء استشارتي. اعتبرت الأمر حلقة من حلقات السلسلة والتي دونها لن يتوضح هذا الكابوس. ظل صامتا ،يتطلع بأسنانه الأمامية المرتبة، أكثر مما يتطلع إلي بعينيه، لاحظت أنه كان يلوك في فمه ما شابه الدم، يلوكه إلى أن يتحول إلى كرات صغيرة ثم يبتلعه، وهكذا إلى ما لا نهاية. الحقيقة أنني احترت في المصدر الذي كان يجلب منه هذا الدم الغزير:
“هذا رجل دموي، لا هذا رجل من دم، دم، فقط بدون رجل”.
ثم نطق موجها سؤاله إلي:
“هل فكرت في الأمر قليلا؟”
كان يتحدث بأسنناه ودمه، قلت مندهشا:
“أي أمر؟”
قال لي:
“أنا عبد الرحمان”
قلت:
“أنا لا أعرف”
ثم ركب دم الكلام، معتقدا أنه انتشلني من دوائر النسيان.
قال لي:
“إن عبد الرحمان هو اسم للتداول فقطن أما الإسم الحقيقي أو اسم الجذور، كما عبر عن ذلك، فهو إيليا، وكلا الاسمين وجهان لعملة واحدة”.
وأضاف من بين أسنانه ودمه: سعيت إلى الاتصال بهعن طريق وسيط رفيع المستوى، يشتغل بالخارجية، له اهتمامت بالعلاقات الدولية ولعبة توازن القوى، من أجل الالتحاق بصفوف الكتائب.
وعندما سألته: لماذا الكتائب؟
قال لي: أليسوا أبناء الشمس؟
أنا لا أعرف للشمس أبناء.
واصل حديثه على إيقاع ابتلاع كرات الدم الصغيرة قائلا إنه لا يعتبر مسألة النسيان بالنسبة إلي حادثة استثنائية ولا حتى ظاهرة مرضية ما دام النسيان هو العزاء أو القاعدة المشتركة بالنسبة إليه إن لم تكن نوعا من أنواع تدمير الذاكرة القسري، فهي حتما نوع من التطهير والتكفير عن الذنب.
قال لي:
“أليس المواطن العربي هو تجسيد كامل لتاريخ العجز والإذلال؟”
ثم سكت لحظة قبل أن يواصل ما كنت أعتبره بشكل غامض ليس اغتصابا لانتمائي لهذه الأرض العربية المترامية الأطراف والثروات والشذوذ ومدن الصفيح والقصور والسجون والتي يطلقون عليها اسما غريبا وقديما: البلاد العربية. قائلا: اسمع يا هذا، إنك الرجل المناسب في الوقت المناسب للوطن المناسب”.
قلت: “أي وطن؟”.
قال لي: “وطنك ووطن أبناء الشمس”.
ثم استرسل بلهجة الواثق من نفسه: “لقد اطلعت على ورقة الإرشادات، وعرفت جانبا من تاريخ حياتك، إنك بدون أم ولا أب ولا عمل، بدون مكان للإقامة، بدون حتى ولا بطاقة هوية، إنك رجل يستهلكه الحلم. حسنا، بالقياس إلى كل هذا، فقد سحبت من أجلك جواز سفر، ام االصورة فقد حصلت عليها من أرشيف إحدى الجرائد الوطنية، وبإمكانك أن تتصل بي متى أحببت، أنت تعرف مكان إقامتي، حتى تسافر باتجاه إحدى البلدان العربية الصديقة وتلتحق بإحدى الثكنات للتداريب على السلاح الذي لن تكون في حاجة إليه أبدا، وبعدها سيسفرونك إلى باريس التي لن تمضي فيها فرتة وجيزة حتى تلتحق من خلالها بوطنك، وطن أبناء الشمس”.
وانتفض واقفا، ثم وضع فوق المائدة ثلاثة أوراق من الدولار، وهو يتأملني بأسنانه ودمه، وقبل أن يخطو باتجاه الظلام، خارج الضوء الخفيف، قال لي:
“إن وطنك إلى جانب المقاتلين هو في أمس الحاجة إلى جيش صغير يحارب بالكلمات”.
وابتسم –الدماء تبتسم- قبل أن تبتلعه الظلمة، وبقيت وحدي داخل فراغات من الكائنات البشرية داخل مدينة مهجورة وغريبة الاسم: تدعى الرباط.
> أعدها للنشر: عبد العالي بركات