> بقلم: سعاد مسكين
إن المتتبع لمسار الكتابة عند الروائي يوسف فاضل، يجد نفسه أمام كتابة واعية ومتجددة، تؤسس لأفق روائي يُبنى على المغايرة في طرح قضايا الفرد والمجتمع، وتتأسس هذه المغايرة على التنويع في بنى قوالب الحكي: لغة وسردا ووصفا. الشيء الذي يدفعنا بأن نفترض أننا أمام كتابة- مشروع، وسنعمل على تجميع بعض القرائن النصية لتأكيد هذه الفرضية.
كثيرا ما ينطوي المشروع في العلوم والأبحاث على بحث أو تصميم، وهو مخطط بعناية لتحقيق هدف معين.
فهل يمكن للوعي بالمشروع أن يتحقق في مجال الإبداع الأدبي؟ وهل للكاتب أن يصل عبره إلى أهداف ومقاصد معينة؟
بالعودة إلى تجربة الكاتب يوسف فاضل الروائية نقر بأننا أمام كاتب يتجاوز كون الكتابة حاجة نفسية واجتماعية وفكرية، كما يتجاوز كونها لحظة تعبيرية وفنية، وإنما يكتب من أجل التأسيس لوعي متجدد يراهن على المغايرة في طرق الكتابة بناء وتخييلا، ولتحقيق هذا الرهان لا يمكننا النظر إلى كتابته إلا على كونها مشروعا فنيا وجماليا. فأين تكمن القرائن التي تجعلنا نتبنى هذا الطرح؟
قرائن المشروع
التراكم المنتظم:
نقصد به إنتاج الكاتب أعمال روائية تمتد من مرحلة الثمانينات وصولا إلى الألفية الجديدة، وداخل هذا الامتداد والصيرورة يأخذ مسافة زمنية بين عمل وآخر، إحساسا منه بمسؤولية فعل الكتابة. (الخنازير/1983، أغمات/1990، سلستينا/1992، ملك اليهود/1996،حشيش/2000، ميترو محال/2006، قصة حديقة حيوان/2007، قط أبيض جميل يسير معي/2011، طائر أزرق نادر يحلق معي/ 2013)..
التكامل:
نحس ونحن نقرأ أعمال يوسف فاضل بأن كل عمل روائي يخرج من صلب عمل آخر، كما لو أنه وهو يؤلف عملا ما تتوالد لديه أفكار أعمال أخرى جديدة، مما يعطي نوعا من الوحدة التكاملية وتبرز هذه الوحدة في:
– قيام الأعمال الروائية على مظهرين: المظهر الاجتماعي الذي يبدو مهيمنا على سطح معظم الأعمال الروائية، مظهر يتجلى في سوداوية قاتمة ويبدو في مرارة حارة. بينما يتمثل المظهر الثاني في المظهر السياسي القهري -المرتبط بسنوات الجمر والرصاص والانقلابات السياسية والمتغيرات الحكومية- الذي يشكل محفزا على بروز وتولد المظهر الأول.
– الاهتمام بتفاصيل المجتمع المغربي من خلال تسليط الضوء على المركون والمسكوت عنه في ثنايا طبقات المجتمع السفلى، لتعرية كل مظاهر الفقر والتخلف والبؤس والشقاء التي عرفها، نتيجة تشوه العلاقات بين الجماعات والأفراد إثر التفسخ الأسري، واستبداد السلطة، وسيادة القيم المبتذلة.
ـ استنطاق الذاكرة المشتركة الفردية أو الجماعية من أجل تبئير قيمة”الإخفاق” أمام تبدد أحلام وانكسار آمال وعي شقي، فشل في تحقيق العدالة وانكسرت كل
أحلامه.
الرواية- الشخصية:
تندرج روايات يوسف فاضل ضمن الرواية- الشخصية، وتمثل العتبات النصية (العناوين) دليلا واضحا على احتفائه بالشخصية باعتبارها مكونا مركزيا في تشييد عوالم الكتابة، لأنه يتوخى عبرها التعبير عن مواقف ورؤى نقدية تخص علاقة الفرد بالمجتمع، وعلاقة الفرد بالسلطة أيضا. وفي رصده لصور هذه العلاقات نصطدم بشخصيات مضطربة داخليا وخارجيا لأنها تعرف تمزقا وشرخا بين الممكن المأمول والكائن المرفوض. الأمر الذي يدفعها إلى أن تعيش العبث، وأن تلعب على حافة الموت. كما ينحو منطق الرواية – الشخصية بالكاتب نحو اختيار يجعل كل شخصية تتحدث عن حدثها وحدها وبذلك يخرب فكرة السارد العليم ويدفع بالسرد إلى أن يتكون من حلقات أو طبقات، وحدها الشخصية المركزية من تلحم بين طيات هذا السرد وفجواته.
دينامية السرد:
يتميز السرد في روايات الكاتب بالدينامية والحركية نتيجة تشكله من طبقات ومحكيات متعددة تأتي على لسان الشخصيات الروائية، ويلحم بين هذه المحكيات محكي إطار يتعلق بالشخصية المركزية، ويهدف الكاتب من وراء هذا البناء إلى تكسير البنية الخطية للسرد، والدفع به إلى أن يتنامى بعيدا عن التسلسل الزمني وعن منطق السببية. لا يعني هذا القول بأن السرد يخضع إلى المصادفة أو القدرية، وإنما يتأسس على منطق يقوم على التناوب الحكائي بين الشخصيات، وعلى اللعب السردي في مد وجزر بين حاضر الحكي واسترجاع الذاكرة. تنجم عن هذه الدينامية، خاصيتان:
التكثير:
توسيع العالم الدلالي وفتح آفاقه على التفاصيل الجزئية التي في تراكمها تشكل ذاك الكلي المضمر من الأنساق الاجتماعية والثقافية والسياسية؛
التضعيف:
يتجلى هذا الملمح في بروز صوت الشخصيات وهو يتصادى داخل العالم الروائي، مبرزا تعدد أوجه المعاناة، واختلاف المآسي نتيجة قساوة المحيط الخارجي وعنف مؤسساته.
الهامش:
يحتفي يوسف فاضل بالهامش عبر استنطاق الطابوهات وفضح المسكوت عنه: القصر/ الحكم/ السلطة/ الدعارة/ الجنس/ التهريب/ الاغتصاب/ الخيانة/ القتل… استنطاق جريء وفاضح بأسلوب جمالي صادق يسعى إلى التعبير عن موقف وجودي وفكري من الحياة والواقع والآخر؛ على اعتبار أن الكتابة إلى جانب كونها حاملا جماليا وإبداعيا فهي حامل فكري وموقف من العالم. لا تعبر مركزية الهامش في الإبداع الروائي عن تقليعة التجريب في الكتابة، وإنما تم الاشتغال عليها، كي تؤدي وظائف بنائية وقيمية، منها:
الوظيفة البنائية:
يَبرز التحقق الفعلي للهامش على مستوى الكتابة الروائية في إعادة الاعتبار للمقصي والمنسي من الفضاءات:السجن/ بيوت الدعارة/ الصحراء/ البوادي/ القرى الريفية… والتركيز على عوالم صادمة التي تتلاشى فيها كل القيم الإنسانية، وتدفع بالشخصيات إلى هوة التلاشي وكبوة الأسى والخيبات.
الوظيفية القيمية: يهدف خطاب الهامش إلى خلخلة كل المبادئ التي تشي بالاستقرار والسكونية والثبات، ويكشف عن عرف آخر مختل تتشوه فيه السلط المؤسساتية، وتأفل فيه القيم الأخلاقية، وتتفكك العلاقات العائلية.
اللغة:
اخترق يوسف فاضل في كتاباته الروائية اللغة الأحادية، وفتح عوالم الحكي على ثلاثة مستويات لغوية:
اللغة الفصحى البسيطة والصافية التي ابتعدت عن المعجم الكلاسيكي والبلاغة القديمة، لغة تنسجم مع أوعاء الشخصيات الحكائية، وتعكس أدوارها الاجتماعية والثقافية والسياسية والفكرية.
اللغة الوسطى: هي تلك اللغة التي تحمل فكرا مغربيا ويتم تسريدها باحترام قواعد التركيب اللغوي الفصيح.
الدارجة المغربية: وهي تلك اللغة المحكية التي تعكس البيئة المغربية فكرا ولغة، وتراعي اللهجات المستعملة الخاصة بكل جغرافيا من جغرافيات المغرب.
وتمثل تجليات اللغة بمختلف مستوياتها، طموح الكاتب بأن يجعل من رواياته ذات وجهين: وجه خاص؛ ينغمس في التربة المغربية، ويتجذر فيها، ويسعى إلى تبيئة الرواية ومغربتها. ووجه عام: ينفتح على الإنساني والكوني، إذ يمكن لأحداث وقضايا رواياته أن تمس أي وجدان وأي ذات تعاني الغبن والتهميش والاستبداد.
آفاق وأهداف المشروع
بعد هذه الوقفة السريعة التي رصدت خصائص الكتابة في مشروع الروائي يوسف فاضل لنا أن نخلص إلى بعض المقاصد التي يتوخاها، والآفاق التي يراهن عليها:
التجديد في الكتابة الروائية وتطويرها؛
جعل الكتابة الروائية “صنعة” وليست “تصنعا” أو “ترفا” عبر التعاطي لها بمسؤولية ووعي كبيرين، ومع خرق منطق الكتابة من أجل الكتابة، ونبذ الاستسهال الذي يراهن على الكمي عوض النوعي؛
تعدد قنوات الكتابة ومرجعياتها بالانفتاح على الذاكرة والطفولة والمحكي الشعبي والمحكي التاريخي والمحكي السياسي والعجائبي …..؛
المزج بين مظهرين في الكتابة: المظهر الاجتماعي السوداوي المؤلم والمظهر السياسي القهري، وفي امتزاج المظهرين ينحو الكاتب نحو ما يمكن تسميته “بالتخييل السياسي”، نمط من الكتابة تفرد به يوسف فاضل، ودفع مدونته الروائية بأن تخرج عن سياق كتابة المذكرات أو الشهادات أو السير الذاتية..
شكل الاهتمام بمحفل التلقي وعيا ضمنيا في فعل الكتابة لدى الكاتب فقد راهن في كل عمل على توظيف تقنيات خطابية تشد القارئ إلى عوالم الروايات، وتأسر أفق انتظاره قولا وتخييلا عبر التنويع اللغوي والسرد الأليغوري، وعبر السخرية السوداء والمضحكة في الآن نفسه؛
ونتيجة لأهمية كتابات الروائي يوسففاضل وجديتها وتجددها فقد حصد جوائز مغربية وعربية، تحقق بدورها مقصدين اثنين هامين: يرتبط الأول؛ بتوسيع دائرة القراءة محليا وعربيا. ويمثل الثاني؛ توسيع انتشار الأعمال الروائية عبر ترجمتها إلى لغات أخرى.
وختاما؛ يحق لنا أن نفخر بتغريدات هذا الطائر الذي يفرد جناحيه في علياء سماء الإبداع، كي يغني الخزانة الروائية المغربية والعربية بأعمال جريئة من حيث الطرح القضوي، ومتجددة من حيث تقنيات الكتابة وطرق السرد.