بين الفينة والأخرى، يخرج علينا من يقبض على حوادث تافهة ويعض عليها بأسنانه ليسقط دلالتها على الواقع برمته، ويبدأ في عرض خلاصاته وفتاواه، ويسعى إلى إقناعنا بإمكانية بناء الديموقراطية في بلادنا وتطويرها من دون سياسة وبلا أحزاب.
لن نكرر هنا سجالا عقيما انتهى منه كل العالم قبلنا بعقود، ولن نذكر الناس بأن زمن الجائحة قدم لنا دروسا من الواجب اليوم التمعن فيها وحسن قراءتها.
بالفعل، لقد طفت في الفترة الأخيرة على ساحة الأحداث قصة أخرى لصاحب حزب، جعلته في عمق الجدل، والأمر، على كل حال، ليس جديدا على سيرته الشخصية والمهنية والسياسية، وهو الذي ما فتئ يضع نفسه في دوائر الشهرة الملفوفة بالفضيحة والصخب.
من يستعرض مسيرة المومأ إليه، منذ طفا على السطح ذات محاكمة شهيرة في الزمن الرصاصي الماضي، ستستوقفه، بدون شك، شخصيته الغريبة، وسيستغرب، أكثر، لكل العطايا والاستفادات التي غمرته، ولكل ما يتداول حوله من حكايات مثيرة وعجيبة، والتي حولته إلى أحد أباطرة حالتنا السياسية وباروناتها.
نحن هنا، لا نقصد الزيادة في إشعال الحرائق الملتصقة بتلابيب المعني بالأمر، أو تجريب لعبة اصطفافات فجة، ولسنا أيضا بصدد تعزيز أي هجوم عليه، حقيقيا كان أو متخيلا من لدنه، فكل هذا لم نألفه نحن ولا ننشغل به إطلاقا، كما أننا لا نتمنى لبلادنا أن تبتلى بأغبياء وجهلة وعديمي المصداقية، يصيرون مشاهير وزعماء، وهم لا يملكون مضمونا أو مصداقية أو مبدأ، عدا ما يميزهم من خطاب شتائمي بذيء.
في سنة انتخابية كالتي تستعد بلادنا أن تحياها العام القادم، وفِي غمرة كل ما يحيط بالبلاد من تحديات، وما يطرح أمامها من معضلات كبرى، نخشى مثل هذه المقدمات التي بدأت تتطاير حوالينا هذه الأيام.
نخشى أن الشتاء الذي يطرق أبوابنا لن يكون وحده باردا جدا، ولكن أن تشمل هذه البرودة أيضا السياسة، والنقاش السياسي العمومي، وألا تبقى فقط في الطبيعة والأجواء.
هذه البرودة، بلا شك، ستستمر، وستتفاقم كذلك التفاهة، وسيزيد السقوط والانحدار نحو الأسفل، ما دام تافهون وفارغون يكبلون حقلنا الحزبي الوطني.
قصة صاحب الحزب الرائجة هذه الأيام لا يجب أن تشغلنا بسيرة الشخص وتفاصيل لعبته اليومية وباقي الثقوب النفسية والسياسية والمهنية والكلامية والسلوكية، ولكن، بدل ذلك، يجب أن نفكر بحجم وطننا ومستقبله، وأن ندرك أن العيب ليس في الشخص بقدر ما يوجد العيب في منظور تدبيري عام، عانت منه بلادنا منذ سنوات، وأفضى، بسبب حسابات مفتقدة للذكاء وبعد النظر، إلى خلق أمثال هؤلاء المنتسبين قسرا إلى الحقل الحزبي والسياسي، والإمعان في نفخهم بأشكال مختلفة حتى صاروا على ما هم عليه اليوم.
هذه الكائنات الريعية الخاوية وجدت نفسها تملك صكوكا تجارية سميت أحزابا، وذلك من دون أي تعب أو تدرج في المسارات، وبلا نضال أو فكر أو هم يحزنون.
وعندما بدأ البلد يعي عقم كامل هذا المنظور التدبيري، ويدرك فشل اختيارات الماضي، ومن ثم يعزز مصالحاته الداخلية، ويسعى للتعافي، اكتشف أنه ورث مخلوقات غريبة وعجيبة تصر على تشويه الحقل الحزبي وفرملة التأهيل السياسي، وتنشر حواليها وفِي كل البلد الجهل والتفاهة والبذاءة و… الخواء.
هنا المشكل الأكبر، أي في الطريق الذي اقتيد إليه البلد خلال سنوات ونجمت عنه مثل هذه النتائج والمآلات، ويجب اليوم القطع مع الاختيار وتغيير الطريق، لأن النتائج والمخلوقات العجيبة ليست منحصرة في شخص واحد، بل في آخرين أيضا ولدوا من ذات المسار وعاشوا بنفس الطريقة، وجميعهم ليسوا صالحين لمغرب اليوم.
الحقل السياسي والحزبي يجب أن يحيا ضمن المصداقية والاستقلالية، ويجب أن يؤطره سياسيون حقيقيون ومناضلون يمتلكون الكفاءة والمصداقية السياسية والأخلاقية، ويفكرون بحجم الوطن، وتؤطره كذلك قوى سياسية وطنية حقيقية لها المرجعيات والرؤى والهوية والمصداقية ووضوح النظر والأفق.
< محتات الرقاص