لم تكن هناك أبداً موجة عاتية أكبر من تلك التي ضربت التعليم الخاص، موجة سببها مجموعة من المتدخلين في زمن الحجر الصحي بسبب فيروس كوفيد – 19. لقد أبان مسلسل الهجوم على مؤسسات التعليم الخاص عن رغبة خفية كانت تنتظر اللحظة المناسبة فقط للانخراط في استراتيجية تواصل حقيقية بهدف قتل هذا الصيد الذي طال انتظاره. لا شك أنه لا يوجد دخان بدون نار. هذا الأمر لم يتأكد اليوم بوضوح للعيان. بل على العكس، يبدو أن هذا الكم الهائل من الإهانات وأحيانًا السب البذيئ يتم تحضيره بروح القسوة والشهوة. إن الارتباك والكارثة التي أوجدتها هذه الأجواء الكاذبة وغير اللائقة قد أغرقت المجتمع المغربي في هاوية من الحيرة غير المسبوقة. ولتلطيف النقاش من ثقله وحمولته الأخلاقية ومن أجل مساعدة العقول على فهم صحيح من دون غبش، أقدم هنا بعض عناصر التفكير لضبط عقارب الساعة كي يتسنى البدء في عملية تقييم سليمة وتقدير مناسب لهذا القطاع الاستراتيجي..
> عندما نطرح سؤالا على القادة السياسيين حول حجر الأساس وسر نجاح بلدانهم من حيث الخيارات الاستراتيجية، فإن الجواب يكون دون أي تردد ودون أي غموض، هو تنمية الموارد البشرية وبناء الثقة. التثمين والثقة، هما كلمتا السر لرغبة حقيقية لتنمية المجتمع والانتعاش الاقتصادي. يبدو أن التقييم والثقة هما القاعدة الأساسية لبناء اقتصاد مستقل ومستدام على المدى الطويل.
يعتمد اختيار المشروع المجتمعي بشكل أساسي على اختيار النظام التعليمي. مانديلا قال: “عندما نريد تدمير مجتمع ما نبدأ بتهميش وبإعطاب نظامه التعليمي”. وبعيدا عن الاختيارات التربوية والتعليمية، فإن أفضل طريقة للي عنق النظام التعليمي هي التقليل من قيمة الأطر التعليمية والحط من شأنهم. الانحطاط يتجلى بتدهور القيم الأخلاقية. ودور الدولة على هذا المستوى جلي، فالاختيار الاستراتيجي لنظام تعليمي ملائم هو أمر يخص السلطات. لذا، إذا أصدرنا حكماً بالفشل على نظام التعليم في المغرب، فيجب علينا البحث عن أسباب الفشل مع السلطات العمومية التشريعية والتنفيذية. إذا أردنا تقييم وتحليل وإصدار حكم محايد على نظام التعليم في المغرب، فإن الخيارات الاستراتيجية للسلطات العامة هي التي يجب أن نتفحصها وليس في العناصر الفرعية أو نتائج هذه الخيارات.
> يعتقد الكثير أن التعليم الخاص هو كتلة متجانسة ومماثلة. وهذا ليس صحيحا على الإطلاق. وغالبًا ما يتم تداول وإعادة تداول هذا الخطأ عن طريق المناقشات في الشبكات الاجتماعية، وفي بعض وسائل الإعلام وفي بعض الدوائر الثقافية والسياسية.
في الواقع، أكثر من 80٪ من المدارس الخاصة هي منشآت متوسطة وصغيرة وصغيرة، جدًا وتولد قيمة مضافة منخفضة نسبيًا، وتتمركز في المدن الصغيرة والقرى النائية. في حين أن نسبة المدارس الخاصة الكبيرة منخفضة للغاية، وتتركز بشكل خاص في المدن الكبرى كالرباط والدار البيضاء. وتختلف الرسوم الدراسية بين المؤسسات الخاصة بشكل كبير؛ إذ تتراوح بشكل عام بين 300 درهم وأكثر من 5000 درهم. وأغلبها يدور حوالي 400 درهم. هذا هو الواقع وإذا أردنا أن نصدر حكما على المنظومة، فيجب أن نتوفر على المعلومات الصحيحة والحقيقية وإلا فإننا نسقط في المزايدات والمغالطات.
> مثل أي شركة إنتاج، تعمل المدارس الخاصة في بيئة تنافسية وودية. في الواقع، تضطر هذه المدارس، من أجل البقاء، إلى اتخاذ التدابير وانتهاج السياسات المناسبة للاحتفاظ بعملائها. نشهد في الأيام الأخيرة نقاشا ملتويا حول دور التعليم الخاص، نقاشا يتطاول على الجانب التجاري لهذا القطاع. ولا يمكننا فهم واستيعاب هذه التطاولات طالما أن هذا القطاع، مثل أي قطاع إنتاج، ملزم بالامتثال لسلوك عالم الأعمال وللمعايير التي تتطلبها المنافسة .ولهذه الغاية، يلتزم رؤساء المدارس الخاصة باختيار أفضل المعلمين وأفضل الموظفين الإداريين. وملزمون بالإشراف عليهم، وتقييمهم باستمرار، وتحسين أدائهم، وتحفيزهم بكل الوسائل اللازمة لإنجاز مهامهم بنضج. إنهم مجبرون على اختيار أفضل البرامج التعليمية وأفضل الأدوات التعليمية وأفضل البرامج التنشيطية (الموسيقى والمسرح وأجهزة الكمبيوتر والرحلات وما إلى ذلك). بالإضافة إلى ذلك، فإنهم ملزمون بجعل التلاميذ يستفيدون من بيئة مناسبة تساعدهم في التحصيل الدراسي (مبنى المدرسة، المقاصف، الحافلات، إلخ).
> في أي اقتصاد، هناك الأوليغارشية، اللوبيات التي تسعى بكل الوسائل لتحريك الهياكل لصالحها. ويستخدم هؤلاء كل ما يملكونه لإخلاء وتدمير الهياكل القائمة للتحكم في زمام الأمور. يتم استخدام العديد من التقنيات لتدمير هذه الهياكل. وهذه التقنيات يتم اختيار الأنسب منها وفقًا لطبيعة وخصائص القطاع.
تعرضت العديد من القطاعات في المغرب لضغوط في السنوات الأخيرة، بما في ذلك القطاع العقاري والسياحي والزراعي والتجارة المحلية. قطاع التعليم وفق عدة مؤشرات (المراجعة الضريبية لعام 2016، الالتزام بتجديد مركبات النقل المدرسي، التصريح الناري لوزير الشغل حول المدارس الخاصة، إهمال أطر هيئة التدريس للمؤسسات التي أضعفها كوفيد – 19، وما إلى ذلك)، لم يكن استثناء لهذه القاعدة. إن الاندفاع نحو تشويه التعليم الخاص الذي شهدناه في الفترة الأخيرة هو بلا شك جزء من استراتيجية اللوبي الذي يريد اغتنام الفرصة التي يبدو أنها مثمرة.
> التعليم قطاع كأي قطاع آخر ويجب التعامل معه وإدارته مثل أي مؤسسة إنتاج، مع مراعاة جميع خصائصه. تتميز كل واجهة إنتاج بمجموعة من المؤشرات الدقيقة. يتمتع قطاع التعليم بخصائصه الخاصة ويجب على الاستثمار (المشروع) في هذا القطاع أن يأخذ هذه الخصائص بعين الاعتبار لتحقيق نتائج هذا المشروع. هذا لا يمنع النقاش حول فعالية وملاءمة دور هذه المؤسسات. ولا يمنع متابعة ومراقبة وتقييم مهمة هذه المؤسسات. ولا يمنع اتخاذ إجراءات عقابية في حق المؤسسات التي لا تحترم دفتر التحملات وأخلاقيات المهنة.
العديد من الانتقادات تم التعبير عنها في المناقشات التي جرت في الآونة الأخيرة بشأن المدارس الخاصة. وأغلب الانتقادات آخذت على المستثمرين في التعليم الخاص سعيهم لتحقيق ربح سهل ومضمون، بل إن البعض استخدموا عبارة الربح السريع والمضمون. وهذا النوع من المواقف ينبع من جهل بالقطاع ومجال الاستثمار وعالم الأعمال. فلا يوجد شيء سهل في الحياة والاستثمار في قطاع التعليم، مثل أي مشروع استثماري، يتم إعداده بعناية ويستدعي العديد من الدراسات قبل اتخاذ قرار بشأن تنفيذه.
بالإضافة إلى ذلك، لا يوجد مشروع بدون مخاطر. فهناك عدد من مؤسسات التعليم الخاص التي أفلست بعد بضع سنوات من العمل. يجب إذن اللجوء إلى جميع التقنيات المناسبة في إعداد وتحليل المشروع وإدارته (التحليلات الأولية، والتحليلات المتفرعة، والتتبع والمراقبة، وما إلى ذلك)، بطريقة أو بأخرى، إذا أردنا إنجاح المشروع الاستثماري .
بقلم: محمد غرماوي