المدخل المفاهيمي لمشروع أطروحة المؤتمر الوطني العاشر لحزب التقدم والاشتراكية بين المقاربة التقنية والمقاربة السياسية

يشرف حزب التقدم والاشتراكية على عقد مؤتمره العاشر تحت شعار “نفس ديموقراطي جديد”. وفي إطار التحضير لهذا المؤتمر يقترح الحزب مشروع وثيقة سياسية واقتصادية واجتماعية كأرضية للنقاش والتفاعل مع التوجهات التي سيرسمها المؤتمر، وإن المتأمل في هذه الوثيقة لا يسعه إلا أن يعترف بالمجهود الذي بذله الرفاق في صياغة الإشكاليات السياسية المحورية المطروحة على البلاد عامة والحزب خاصة، قصد تطوير الفعل النضالي في أفق التغيير الديموقراطي. إن مشروع الأطروحة جاء غنيا على مستوى التحليل والاستنتاج إلى حد يصعب مقاربتها دفعة واحدة وبشكل كلي، لذا ارتأيت التفاعل معها عبر مقاربة بعض المفاهيم المركزية الواردة قصد تعميق التحليل خاصة في هذه المرحلة التاريخية المطبوعة بالشك والانتظارية والاختزالية.

الباب الأول
القسم الأول: محورية المسألة الإيديولوجية. (ص 11)

تمت مقاربة المسألة الإيديولوجية بشكل وصفي أكثر منه تحليلي حالت دون استجلاء الخلفيات النظرية لهذه المسألة. بالفعل وكما ورد في الأطروحة لم تنهر الإيديولوجية مع انهيار جدار برلين، لكن كيف؟ إن تفكك الإمبراطورية السوفياتية لم يؤدي إلى تفسخ السلطة ولا إلى محو الفوارق الاجتماعية لتأبين الإيديولوجية والإعلان عن موتها.
فحيثما كانت السلطة، بغض النظر عن مستوياتها وطبيعتها، كانت الإيديولوجيا. فالسلطة تخول لصاحبها الصلاحية لاستعمال مختلف الوسائل بفرض منظوره بقوة إما عن طريق العنف أو عن طريق المضمار الرمزي.
ما حدث في أواخر الثمانينات من القرن الماضي هو نتيجة عجز الإيديولوجية السوفياتية والتي لا علاقة لها بالإيديولوجية الاشتراكية على تجديد نفسها والحفاظ على حيويتها في غياب السلطة المضادة. فعندما تكون السلطة يتيمة السلطة المضادة تعيش الإيديولوجية وحدانية قاتلة.

القسم الثالث: السياق الوطني يرخي بظلاله على الموضوع. (ص 14)
تعريف الأحزاب على أساس إيديولوجي.
كان الأجدر قبل مقاربة الأحزاب المغربية بمختلف ألوانها السياسية تقديم تعريف دقيق للتباين الجوهري بين اليمين واليسار، فالأحزاب اليمينية تسعى استراتيجيا إلى تنمية الرأسمال عكس أحزاب اليسار التي تسعى إلى تنمية قوة العمل، فالأولى تعامل قوة العمل كوسيلة استغلالية لتثمين الرأسمال بينما الثانية تستغل الرأسمال لخدمة قوة العمل.

تراجع اليسار:

تم التركيز على الجانب الموضوعي أكثر من الذاتي لتفسير أسباب تراجع اليسار، بينما العكس هو الصحيح. إن تراجع قوة اليسار في العقدين الأخيرين مرتبط بتراجعه وانكماشه داخل حقل تأطير المجتمع وخاصة وسط الفئات المستضعفة التي شكلت دوما قاعدته الاجتماعية، فتقلص التكتيف النضالي عبر أدوات التعبير الاجتماعي (النقابات، الجمعيات…) والتي شكلت دوما روافده الأساسية في تقوية الحزب وتوسيع إشعاعه. عكس ذلك انفتح الحزب على فئات الأعيان. والخطير أن هذا الانفتاح لم يعد تكتيكيا أو مرحليا للخروج من دائرة العواصف السياسية بعد سقوط جدار برلين، بل أصبح استراتيجيا مما خلف تداعيات على البناء التنظيمي للحزب. لأن أغلب تلك الفئات تستمد نفوذها الشخصي من شبكة العلاقات الريعية والزبونية والشخصية وليس من الإشعاع السياسي للحزب، فيمكن لتلك الفئات أن تلتحق بأي حزب سياسي آخر كي تفوز في الانتخابات…! وبذلك فقدت أحزاب اليسار قوتها الدافعة التي تمثلها الجماهير مما أثر سلبا على صناعة خريطة موازين القوى لصالح التغيير الديموقراطي.
إن استقلالية القرار السياسي يمر حتما عبر استقلالية البناء التنظيمي للحزب والذي لا يتحقق إلا باستعادة المبادرة وسط الجماهير عن طريق التأطير السياسي والنضالي وليس التأطير الريعي الذي تتحكم فيه السلطة المناهضة للتغير الديموقراطي.

ظاهرة الإسلام السياسي.

لم تقارب الأطروحة بعمق الظاهرة الدينية في المغرب. بالفعل لقد سجل الحزب موقفا إيجابيا من المحتوى التقدمي للتراث العربي الإسلامي منذ الستينات من القرن الماضي. لكنه ظل على مستوى الموقف ولم يرق إلى مستوى استيعاب هذا المحتوى لإدماجه في الصراع الإيديولوجي خاصة في هذه المرحلة التي تعرف فيها المجتمعات العربية ومنها المغرب صحوة إيمانية (وليست إسلامية).
لقد أتبث التاريخ بأن الدين يوجد في قلب الصراع الطبقي منذ وجوده خاصة أنه حمال عدة أوجه في التفسير والتأويل:
فالمستبد يستغله لتبرير استبداده ودعم الثقافة القدرية في حين توظفه الفئات المستضعفة لرفع الحيف والظلم، فالحضارة العربية الإسلامية وصلت إلى مستوى من التقدم استنفذت معه قدرتها على التجديد والإبداع، فدخلت مرحلة التراجع والاضمحلال. فالاجتهاد ضرورة تفرضها الحاجة. فإذا قلت هذه الحاجة نتيجة توفيرها ما يلزم أو أكثر سقطت الحضارة في “وهم الخلود”، فإن هذا ستكون له عواقب وخيمة حيث ستبدأ العد العكسي وستدخل الحضارة منطقة مضطربة ستفقدها توازنها. فليس التخلي عن الدين هو السبب في الانحطاط ولكن التخلي عن الاجتهاد والإبداع هو العلة في الاضمحلال.
إن توسيع إشعاع الحزب داخل المجتمع المغربي يجد صداه بمرونة كلما امتد التواصل البسيكولوجي بيننا وبين المواطنين على مستوى المكبوت الوجداني لتحرير إرادته المسلوبة من الثقافة القدرية.

القسم الرابع: ما معنى أن تكون اشتراكيا في مغرب اليوم؟ (ص 17)
الاشتراكية:

أشار مشروع الأطروحة إلى إيمان الحزب بالفكر الاشتراكي باعتباره تنظيما اجتماعيا يكرس التوزيع العادل للثروات، كما اعتبره المكون الأساسي لهوية الحزب. لكن لا يكفي أن تعلن تشبتك بمبادئ الاشتراكية حتى تصبح اشتراكيا، فتوجد في المغرب عدة أحزاب تعلن انتماءها للفكر الاشتراكي ورغم ذلك تختلف مع الحزب في عدة موافق لماذا؟
إن هذه التعريفات للاشتراكية الواردة في مشروع الأطروحة تبقى مبتورة ما لم يتم إبراز أحد المكونات الأساسية للفكر الاشتراكي وهو طبيعة أداة التحليل، لأن عليها يتوقف الوصول من عدمه نحو بناء المشروع المجتمعي الاشتراكي. إن محورية أداة التحليل كمنهج في العمل السياسي أساسية لرسم المنحى النضالي نظريا وممارسة بتجنب الانحرافات السياسية، فهي تمكن المناضلين من وحدة الرؤيا على مستوى منطلقات التحليل والاستنتاج لبلورة مواقف حزبية جماعية لا تكتسيها الضبابية بل ترسخ القناعات الحزبية المستقلة بعيدا عن كل انقياد فكري أعمى داخل الحزب أو خارجه. فهي سلاح لفرز تناقضات الواقع الرئيسية والثانوية قصد تحويل الفكر السياسي إلى حركة.
لقد ورد في مقدمة مشروع الأطروحة جملة تتحدث عن تسلح الحزب بمنهجية المادية الجدلية، لكن هذه الجملة تبقى يتيمة لأنها لم تكشف عن المبادئ والمفاهيم المركزية لهذه الأداة حتى تكون اشتراكيا. خاصة أن هناك منخرطين جددا التحقوا بالحزب ويفترض فيهم استيعاب منهج المادية الجدلية لفهم خلفيات الخطاب السياسي. لذا يجدر التذكير ببعض المبادئ الأساسية لهذا المنهج الذي يرتكز على مبدئين:
المبدأ الأول: يتعلق بالنظرية المادية للتاريخ أي أسبقية الواقع (البناء التحتي) على الفكر (البناء الفوقي)
المبدأ الثاني: يتعلق بقوانين الجدل والتي تتمثل في قانون الوحدة والتناقض وقانون تحول الكم إلى الكيف وقانون نفي النفي.
وتؤسس هذه المبادئ على المستوى السياسي لمفهوم الصراع الطبقي كمحرك للتاريخ (الثابت) ومفهوم حركة التناقضات الاجتماعية (المتغير)، فالأول يحيل على العام بينما الثاني على الخاص وإن استيعاب جدلية العام والخاص انطلاقا من الوعي بالممارسة النضالية هي التي تفتح آفاق التطور.

البعد الايكولوجي للاشتراكية.

تعتبر هذه الفقرة إضافة نوعية في الفكر السياسي للحزب خاصة والفكر الاشتراكي عامة، لأن الاستغلال الرأسمالي الذي يلهث وراء الربح السريع يستنزف عشوائيا كل الموارد الطبيعية ويهدد مجموع البشرية، وبالتالي فإن النضال الإيكولوجي أصبح ضرورة ملحة خاصة ببلادنا التي تعاني من الهشاشة في جميع المجالات. كما يتطلب من المناضلين الاجتهاد لتحويل هذا الخطاب الإيكولوجي إلى حركة ملموسة في الواقع الجماهيري.

الباب الثاني
القسم الأول: إلقاء نظرة نقدية على المسارات الحزبية. (ص21)
الحل الوسط والتوافق:
أشارت الأطروحة إلى كون الحزب تؤطره مجموعة من المفاهيم مثل المسلسل الديموقراطي، الحل الوسط التاريخي، التوافق، التحالفات…
وسنتوقف عند بعض المفاهيم لاستجلاء المنطق الداخلي الذي يحكمها:
الحل الوسط التاريخي: لا يعتبر مفهوما كما ورد في الأطروحة وإنما مجرد مصطلح تقني يحيل على كلمة المساومة أكثر من مفهوم التوافق لأنه ينفي ضمنه الصراع الاجتماعي كأفق للنضال السياسي، لذا أقترح حذف هذا المصطلح من القاموس السياسي للحزب.
التوافق: مفهوم سياسي تتفق فيه الأطراف المختلفة على آليات تدبير المرحلة التاريخية لضمان الاصلاح في ظل الاستقرار، وفي نفس الوقت فإن التوافق يعترف ضمنيا باستمرار الصراع والتناقض بين مختلف الأطراف المتوافقة.
نستنتج مما سبق بأن هناك مفارقة غريبة داخل الحزب: فبقدر إيمانه بالتوافق على مستوى الخطاب السياسي فإنه متشبث بالحل الوسط التاريخي الذي يلغي الصراع على مستوى البناء التنظيمي، وخير دليل على ذلك هو شبه الغياب التام للحزب في مختلف المعارك والاحتجاجات المطلبية التي تعرفها عدة مناطق بالبلاد، مما يساهم في تقليص قاعدته الاجتماعية (الفئات الوسطى) ويؤثر سلبا في تغيير موازين القوى لصالح التقدم.

التحالفات.
يختلف الواقع السياسي المغربي عن الواقع السياسي الأوربي، فهذا الأخير تقدمت فيه الممارسة الديموقراطية التي أصبحت تولد إفرازات طبيعية لمختلف التعبيرات والفعاليات داخل المشهد السياسي كما تبلورت فيه بشكل واضح ثنائية الصراع بين اليمين واليسار، مما جعل المحدد الإيديولوجي حاسما في أغلب الأحيان على مستوى التحالفات الحزبية. لكن رغم ذلك فإن هذا المحدد لا يشكل قاعدة ثابتة في مجال التحالفات نظرا لطبيعة وحركية التناقضات الاجتماعية التي توجد في تغير مستمر كما وضحنا سابقا: فمثلا نلاحظ خلال الانتخابات الرئاسية الفرنسية الأخيرة أن الصراع الدائر انتهى بين ممثل الجبهة الوطنية في شخص لوبين (اليمين المتطرف) ضد الرئيس ماكرو (اليمين الليبرالي)، وفي ظل هذا الصراع اضطرت الأحزاب اليسارية إلى مساندة بشكل مباشر أو غير مباشر الرئيس ماكرو لقطع الطريق على ممثل اليمين المتطرف باعتباره يجسد التناقض الرئيسي مع أغلب الفرنسيين، وبالتالي كان المحدد السياسي وليس الإيديولوجي هو الحاسم في هذه الانتخابات. أما الواقع السياسي المغربي الذي يتميز بالهشاشة على كل الأصعدة فلا زال فيه الرهان الديموقراطي مطروحا منذ فجر الاستقلال إلى اليوم. هذا الرهان الذي تناضل من أجله التعبيرات اليسارية واليمينية الليبرالية معا ضد القوى المحافظة أي الطبقة الريعية التي تسعى إلى التسلط والاحتكار والتحكم (الأوليغارشية) باعتبارها تجسد التناقض الرئيسي المرحلي في البلاد. وفي ظل حركية هذه التناقضات أصبح المحدد السياسي هو المدخل لبناء التحالفات الحزبية: إن تحالف حزب التقدم والاشتراكية مع حزب العدالة والتنمية يندرج في هذا الإطار، فكلاهما يدعو إلى الإصلاح ومحاربة الفساد والتحكم من أجل حياة سياسية سليمة تفضي إلى تطور المسار الديموقراطي. إنه تحالف مبني على تقاطعات سياسية بين حزب التقدم والاشتراكية كحزب يساري وحزب العدالة والتنمية كحزب يميني ليبرالي محافظ رغم الاختلاف الإيديولوجي القائم بينهما، لأن الصراع القائم في المغرب حاليا هو صراع سياسي بامتياز وليس صراعا إيديولوجيا كما يسوق البعض لطمس الصراع الحقيقي بين أنصار الإصلاح والديموقراطية من جهة وأنصار الفساد والاستبداد من جهة ثانية.

القسم الثاني: تأهيل النموذج السياسي المغربي لمواصلة الإصلاح. (ص 23)
تطرق مشروع المطروحة إلى النموذج السياسي المغربي وما يكتنفه من تداخل وتعقيدات على عدة مستويات، فتوفقت الأطروحة عند عملية تفكيك هذا النموذج دون الارتقاء إلى مستوى القيام بصياغة تركيبية للتداخل القائم بين النمط الاقتصادي والنظام السياسي قصد إبراز الهوية الحقيقية لنموذج الحكم السياسي المغربي: إن النمط الاقتصادي هو عمل فكري، تبسيطي في أغلب الأحيان، ينبني على التجريد في محاولة لاختزال الواقع وفهمه: فالنمط الاقتصادي الليبرالي العادي يخدم الاقتصاد بالدرجة الأولى والبورجوازية وبطانتها بدرجة أقل، أما النمط الريعي المهيمن في المغرب فعكس ذلك، فهو في خدمة الأوليغارشية وحاشيتها في المقام الأول. من هنا فهذا النمط لا يختزل الواقع بقدر ما يختزل النظام السياسي وبالتالي فهو يعمل على تكريس النظام وتقويته بتسخير الاقتصاد وتعبئة كل الموارد البشرية منها والمادية لخدمته. فكل من أراد أن يكون له نصيبا ريعيا لا بد من الجهر بولائه للنظام والالتحاق بالبطانة. إن تعميم النمط الريعي في المجال السياسي هو الذي يحول دون تحقيق الانتقال الديموقراطي، وهذا يعقد من مهام النضال السياسي في ترتيب الأولويات والتناقضات. إن إقامة جبهة عريضة من الديموقراطيين والوطنيين تبقى هي السبيل الأوحد للتصدي لعملية الاحتكار التي تمارسها الأوليغارشية حتى يخرج المغرب من الدائرة المغلقة لوضعيته السياسية والاقتصادية.

القسم السادس: الأفق الاستراتيجي لحزب التقدم والاشتراكية، بناء توافقات متقدمة في خدمة الوطن والمواطنين. (ص 28)

أعتقد ان هذه الفقرة تتناقض مع الفقرة السابقة، فالعنوان أعلاه يمارس التشويش على سياق التحليل السياسي الوارد في الأطروحة، لأنه أدرج التوافق كأفق استراتيجي أي كغاية وليس وسيلة، بينما منحى الحزب يسعى إلى تحقيق الديموقراطية. إن مهمة التوافق هو إنجاح الانتقال الديموقراطي وليس العكس: فسيادة الشعب تبقى هي الأفق الاستراتيجي للحزب وليس التوافق المبني على اتفاقات فوقية مرحلية، إن التشبث بالتوافق كأفق استراتيجي يحيل على تأجيل الانتقال الديموقراطي.

خلاصات

أولا: حزب التقدم والاشتراكية مدرسة سياسية

إن المتأمل في السيرورة السياسية للمغرب منذ الاستقلال إلى اليوم، يلاحظ أن النخبة المغربية الفاعلة في الحقل السياسي لا تحسن التعامل مع الأزمات عكس النخبة الأوربية. فالأزمة في أوربا غالبا ما تؤدي إلى قفزة نوعية لتوطيد المشروع المجتمعي وإلى تراكمات ثقافية.. ولعل بناء الاتحاد الأوربي أكبر شاهد على هذا. أما النخبة السياسية المغربية الفاعلة فقد أتبتث عجزها على إدارة الأزمات والقيام بالتغييرات الضرورية وتحقيق إنجازات متقدمة بل أن هذه النخبة السياسية تنكرت عدة مرات لمواقف أحد مكوناتها الأساسية حزب التقدم والاشتراكية في عدة محطات تاريخية والتي عبر من خلالها عن مواقف صائبة واستشرافية للأزمات التي اعترت المغرب، لكن لا يتم استيعابها من طرف باقي الفاعلين السياسيين إلا بعد فوات الأوان، ومن تم ضياع الفرص التاريخية. إن هذه الخاصية هي التي تجعل من حزب التقدم والاشتراكية مدرسة سياسية تضع مصلحة الوطن فوق كل اعتبار وتستشرف المستقبل لتجاوز الأزمات.

ثانيا: الآفاق التنظيمية للحزب

إذ نقر بتوفق الحزب إلى حد كبير في التعامل الذكي والإيجابي مع المواعد التاريخية الحساسة بالبلاد، فإنه كذلك يجب الاعتراف في إطار النقد والنقد الذاتي البناء بأن هذه القيادات تعثرت خلال العقدين الأخيرين في تحويل هذا الفكر السياسي إلى حركة جماهيرية، مما خلف بنية تنظيمية هشة وعاجزة عن الفعل النضالي. إن هذه الوضعية ليست وليدة اليوم بل تعود جدورها إلى عدة سنوات، وإن إعادة قراءة الحصيلة الانتخابية للحزب على امتداد العقدين الأخيرين تكشف بوضوح المنحى التراجعي للحزب وسط المجتمع إلى حد لم يعد قوة جادبة داخل البلاد وأصبح مهددا في وجوده. إن هذا المآل ليس من صنع القدر بل من صنع البشر، فمن المسؤول؟ إن تعميم المسؤولية على جميع المناضلين هو إجحاف في حق الرفاق وهروب إلى الأمام. لأن درجة المسؤولية تقاس بدرجة الصلاحيات السياسية والتنظيمية التي يمتلكها كل جهاز داخل البناء التنظيمي (كما هو معروف لدى جميع الأحزاب). في هذا الإطار يشكل المكتب السياسي أداة محورية، لأن عليه يتوقف صياغة الاستراتيجيات السياسية التنظيمية وآليات مراقبتها وتنفيذها وتقييمها. فالمؤتمر الوطني العاشر المقبل يتوقف نجاحه على نجاح الرهان التنظيمي بالدرجة الأولى مما يتطلب مراجعة جدرية لمنهجية البناء التنظيمي للحزب، وذلك بإحداث قطيعة مع السلوكات الغريبة التي تسربت إلى الحزب بتزامن مع سياسة الانفتاح على الأعيان والقائمة على الولاءات الشخصية عوض الولاءات السياسية في بناء الأدوات التنظيمية. هناك قاعدة بسيطة معروفة لدى الأوساط السياسية تقول إن طريقة وكيفية الوصول إلى المسؤولية الحزبية تحدد مضمون تلك المسؤولية. وبالتالي إن المداخيل التنظيمية التي تمت المراهنة عليها خلال العقدين الأخيرين لتشكيل الأجهزة القيادية والتي همشت عدد كبير من الكفاءات السياسية والتنظيمية في حين دعمت بعض النماذج الأقل كفاءة هي التي أفضت إلى هذه الوضعية التنظيمية الهشة التي أصبحت طاردة وليست جادبة بالنسبة للمناضلين والمواطنين.

ثالثا: القيادة المقبلة في أفق تفعيل شعار من أجل “نفس ديموقراطي جديد”

فقيادة مدرسة حزب التقدم والاشتراكية المقبلة تنتظرها مهام تاريخية صعبة أهمها تحصين وجود الحزب أمام العواصف السياسية المرتقبة، مما يشترط في أعضائها حدا أدنى من المواصفات والكفاءات السياسية والتنظيمية. وأعتقد في نظري بأن هناك ثلاث قدرات أساسية يجب توفرها في العضو القيادي حسب موقعه داخل هذه الأجهزة:
الشرط الأول: أن تكون له القدرة على إنتاج وإغناء الفكر السياسي للحزب في إطار وحدة الرؤيا السياسية والتنظيمية.
الشرط الثاني: أن تكون له القدرة على تحويل الفكر السياسي للحزب إلى حركة تنظيمية تتفاعل معها الجماهير.
الشرط الثالث: أن تكون له القدرة على إقناع الرأي العام الوطني والمحلي بصحة وصواب الخط السياسي للحزب واختياراته.
فبالنسبة للجنة المركزية كجهاز تقريري له صلاحية تحويل توجيهات المؤتمر إلى استراتيجيات في الأمد المتوسط ومراقبة المكتب السياسي، فيتطلب من العضو المرشح لهذه القيادة أن يتحلى على الأقل بأحد الشروط السابقة.
أما المكتب السياسي كسلطة تنفيذية والمطلوب منه تصريف بشكل جدلي استراتيجيات إلى تكتيكات للتفاعل اليومي مع السياق السياسي للبلاد في أفق تحويل الفكر السياسي إلى حركة، فالمطلوب من العضو المرشح لهذه القيادة أن يتحلى على الأقل بشرطين من الشروط السابقة.
أما الأمين العام فبالإضافة إلى حرصه على تجسيد وتفعيل وحدة الحزب من خلال حسن تدبيره لتعدد الحساسيات السياسية فإنه يسهر على تمثيل الحزب أحسن تمثيل داخليا وخارجيا وعلى كافة المستويات السياسية والتنظيمية. وبالتالي فإن حساسية هذا المنصب تتطلب من الرفيق المرشح إليه أن تتوفر فيه الشروط الثلاثة السابقة كلية.
بالفعل إنها مجرد اقتراحات لأنه ليس هناك تصور مثالي لعضوية القيادة، لكن الثابت وفي مختلف التعبيرات التنظيمية (الحزبية والنقابية والجمعوية…) تبقى القدوة على مستوى المسؤولية أساسية لخلق إما شروط الإحباط أو شروط التحفيز لدى القواعد لتحرير إرادتها وتنشيط مبادرتها، لأن النموذج يمثل نبراسا للجميع ويستفز الكرامة الشخصية للمناضل.
في الأخير أعتقد أن جميع الرفاق والرفيقات على وعي تام بالمسؤولية الملقاة على عاتقهم لإنجاح محطة المؤتمر الوطني العاشر وكسب رهانه السياسي والتنظيمي.

> بقلم: أحمد الوهاجي

Related posts

Top