تحولت المساكن الوظيفية إلى علب سوداء وعوالم خفية تحكمها المحسوبية والزبونية والولاءات. تدار بأجهزة تحكم عن بعد، خارج قوانين وأنظمة الإدارات المعنية حيث التسيب و الفوضى في عمليات الاستفادة، والتلاعب في أموال إصلاحها وصيانتها.
مجموعة من المستفيدين يرفضون إفراغ المساكن الوظيفية ويسلكون طرق وأساليب ملتوية من أجل الاستمرار في احتلالها، رغم تقاعدهم النسبي أو النهائي أو انتقالاتهم لأماكن أخرى، أو إنهاء مهامهم أو عزلهم، أو حتى تغيير وظائفهم ومهامهم.
بعضهم يبادرون إلى استخراج وثائق تثبت أن تلك المساكن غير وظيفية أو تابعة لقطاعات أخرى غير التي يعملون تحت إداراتها. يسعون وراء الحيازة والتملك، وحرمان زملائهم الموظفين الجدد، من إمكانية الحصول على مساكن وظيفية يفرضها القانون، وطبيعة أعمالهم ومسؤولياتهم. فيما يهمل مستفيدون آخرون صيانة وتأهيل مساكنهم الوظيفية، أو يتعمدون تخريبها، انتقاما، قبل مغادرتهم لها.
آلاف المساكن الوظيفية محتلة، بينما يحال الموظفون المعنيون بالاستفادة منها، على دور الكراء. ويحرمون من حقوقهم المشروعة، كما يحرمون من امتيازات أخرى تمنحها المساكن الوظيفية، منها القرب والمحيط و الحماية و..
بكل مدينة أو منطقة حضرية أو شبه حضرية، هناك مساكن وظيفية لفئات كثيرة من موظفي وزارة الداخلية «قواد، باشوات، رؤساء دوائر، رؤساء مصالح .. حراس مرافق الوزارة، .. «، محتلة من طرف من سبقوهم في نفس المناصب. منهم المتقاعدين، ومنهم المنتقلين لمناطق أخرى، وهناك من انتقل للعمل بوزارة أخرى «الخارجية، التعليم..». بل هناك مساكن وظيفية محتلة من طرف الورثة. فيما يضطر الموظف المعين حديثا إلى تدبير أمور سكنه ومواجهة سيل من المعاناة والمشاكل المترتبة عنها.
ما يقع للمساكن الوظيفية لوزارة الداخلية، يقع داخل كل الوزارات «التربية الوطنية والتعليم العالي، الفلاحة والصيد البحري، المالية، الصحة، التجهيز والنقل، السكن، ..»، وكذا للمساكن الوظيفية الخاصة بالجماعات الترابية وباقي المؤسسات العمومية والشبه عمومية. بل إن هناك وزارات ومؤسسات لم توفق حتى في جرد وإحصاء عدد ونوعيات مساكنها الوظيفية. ولم تضع أية مخطط لتقنين عمليات الاستفادة منها. أكثر من هذا وذاك، يعمد مسؤولون محليون وإقليميون وجهويون ومركزيون إلى التستر على بعض المساكن الوظيفية بعدم الإعلان عن شغورها. أو بتزوير صفة محتليها، أو بإعداد مساطر وهمية لتمليكها. بل إن هناك مساكن وظيفية شبيهة بالقصور يتم الاستحواذ عليها بطرق ملتوية. فتتحول بقدرة «قذر» وليس قادر، إلى مساكن ثانوية «سياحية أو ترفيهية أو ..»، لمسؤولين سابقين، كانوا مستفيدين في إطار مهامهم.
كيف يعقل أن يحرم مدير مستشفى أو طبيب رئيسي، أو مقتصد أو أي موظف مسؤول.. من سكن وظيفي بني من أجله. وأن تجد مساكنهم محتلة من طرف أطر أخرى عملت سابقا أو تؤدي مهاما إدارية عادية أو خارج تلك المؤسسات المعنية بالسكن، علما أنه من المفروض واللازم مثلا التواجد الدائم للمدير والمقتصد وأطباء داخل المستشفى. وأن هذا ما جعل الوزارة الوصية توفر لهم السكن الوظيفي؟. وهو ما يسري على باقي المساكن الوظيفية.
إنها نماذج من بين أخرى كثيرة ومتعددة، تؤكد ما يجري ويدور داخل تلك العوالم الخفية. مشاكل ومعاناة وحرمان تؤثر، بشكل مباشر أو غير مباشر، في العطاء المهني والأخلاقي لمجموعة كبيرة من المسؤولين والموظفين، وتضعف خدمات عدة مرافق.
عوالم المساكن الوظيفية، يخفي كذلك، ما يتم من استغلال فاضح لعتاد وممتلكات المرافق العمومية والشبه العمومية، التي تحضن السكن الوظيفي. وخصوصا الاستفادة المجانية من عمليات التزود من الماء والكهرباء والهاتف والانترنيت.. وقد سبق للدولة أن فرضت على المستفيدين من السكن الوظيفي، أن يتحملوا مصاريف التزود بالماء والكهرباء. وأن يلجئوا إلى المصالح المختصة محليا من أجل ربط منازلهم بعدادات خاصة بأسمائهم. لكن هناك العديد من قاطني السكن الوظيفي يستمرون في استغلال مياه وكهرباء المرافق التي يعملون بها. كما لا يتردد بعضهم في الانتفاع الشخصي والأسري بكل ما يمكن أن توفره تلك المرافق العمومية التي يديرها أو يعمل داخلها.
لتبقى تلك العوالم جد مكلفة ماليا ومهنيا. ومحبطة للأطر الجادة. ويبقى السبيل الوحيد لتنقيتها وتطهيرها. هو إحداث لجن حكومية أو برلمانية أو مختلطة. من أجل جرد وإحصاء كل المساكن الوظيفية. وإفراغ المحتلة منها. ووضع شروط ومعايير دقيقة للاستفادة منها. وقوانين واضحة، توجب الإفراغ وفق آجال محددة. وتفادي إحالة ملفاتها على القضاء. حيث المساطر الطويلة والأحكام المتأخرة، التي تضر بسير المرافق العمومية. وتفقد الوظيفة أحد أهم وأبرز مكاسبها المتمثلة في الاستفادة من السكن الوظيفي. والذي غالبا ما يكون الحافز الأكبر للقبول بالوظيفة أو المسؤولية.
بقلم: بوشعيب حمراوي
[email protected]