المغرب وفلسطين -الحلقة 16-

تاريخ مشترك وتضامن ضارب في عمق العلاقات

في ظل الأوضاع التي تعرفها فلسطين، سواء بالضفة الغربية أو قطاع غزة من عدوان شامل للاحتلال ومحاولة لإبادة جماعية لشعب فلسطين الأبي، كان للمغرب دائما حضور وازن، لا من حيث التضامن الشعبي أو الرسمي من خلال المساعدات الإنسانية وغيرها أو من خلال دعم جهود الإعمار، وكذا دعم خاص للقدس الشريف.
ومنذ 7 أكتوبر 2023 الذي أطلق فيه الاحتلال الإسرائيلي حربه المدمرة على قطاع غزة واستمراره في مسلسل الاستيطان خاض المغاربة من شمال المغرب إلى جنوبه، ومن غربه إلى شرقه سلسلة من الاحتجاجات والأشكال التضامنية مع القضية الفلسطينية.
ووفق التقديرات فإن المغاربة خاضوا أزيد من 6000 مظاهرة وأزيد من 730 مسيرة شعبية، في أكثر من 60 مدينة مغربية، إضافة إلى وقفات مركزية عديدة وبشكل دوري أمام البرلمان، بالإضافة إلى ما يزيد عن 25 موكبا تضامنيا للسيارات والدراجات، وما يفوق 120 ندوة ومحاضرة لتنوير الرأي العام وتوعيته في ما يهم معركة “طوفان الأقصى” والقضية الفلسطينية وتطوراتها.
هذا الغنى في التضامن مع القضية الفلسطينية يجعل المغرب في مقدمة الدول الأكثر تضامنا مع القضية الفلسطينية بالشارع العربي والمغربي، وهو ما يدفعنا في هذه السلسلة الرمضانية إلى العودة إلى تاريخ العلاقات المغربية – الفلسطينية، وكيف تضامن المغاربة مع القضية الفلسطينية وجعلوها قضية أولى إلى جانب قضية الصحراء المغربية.
وتستند هذه الحلقات إلى قراءة في كتاب “المغرب والقضية الفلسطينية من عهد صلاح الدين إلى إعلان الدولة الفلسطينية” للراحل أبو بكر القادري الذي شغل أول رئيس للجمعية المغربية لمساندة الكفاح الفلسطيني، وأيضا كتاب “فلسطين قضية وطنية” للكاتب عبد الصمد بلكبير، وأيضا إلى مراجع وكتب أخرى تناولت القضية

انسحاب الاحتلال من غزة سنة 2005.. لحظة تاريخية وإرادة لا تكسر

في خضم حرب الإبادة التي تخوضها قوات الاحتلال الإسرائيلية ضد قطاع غزة تعود للذاكرة قصة الانسحاب التاريخي للاحتلال من أرض غزة وتحريرها لفائدة أصحاب الأرض والحق.

تعود تفاصيل ذلك إلى الساعات الأولى من صباح يوم 12 شتنبر 2005، حيث كانت غزة على موعد مع حدث طال انتظاره. انسحبت آخر مركبة عسكرية إسرائيلية من معبر كيسوفيم، ليعلن الاحتلال رسميا نهاية وجوده في القطاع بعد 38 عاما من السيطرة.

لم تكن هذه اللحظة مجرد انسحاب عسكري، بل كانت انتصارا لإرادة شعب قاوم الاحتلال بجميع الوسائل، وفرض عليه الخروج لأول مرة من أرض فلسطينية دون اتفاق سياسي.

كان مشهد الدبابات الإسرائيلية وهي تتراجع عبر الطرقات التي شهدت مواجهات دامية لسنوات، لحظة تاريخية لا تنسى. وقف الفلسطينيون فوق أسطح المنازل، وفي الشوارع الضيقة، يشاهدون بأعينهم الاحتلال وهو ينكفئ. البعض أطلق الأعيرة النارية في الهواء احتفالا، والبعض الآخر سجد على الأرض شكرا. كان القطاع بأكمله يردد عبارة واحدة: “غزة حرة”.

لكن فرحة الانتصار لم تكن خالية من القلق. لم يكن الانسحاب الإسرائيلي مجرد تنازل، بل خطوة ضمن حسابات أمنية وسياسية معقدة. فقد ترك الاحتلال القطاع محاصرا من جميع الجهات، يتحكم في معابره ومجاله الجوي ومياهه الإقليمية. كما عمدت القوات الإسرائيلية إلى تدمير المستوطنات قبل انسحابها، تاركة خلفها خرابا بدلا من بنية تحتية يمكن استغلالها.

في مواجهة هذا الواقع، تدفقت أشكال متعددة من التضامن العربي والإسلامي لدعم غزة في مرحلة ما بعد الاحتلال. أعلنت عدة دول عربية ومغاربية عن مبادرات للمساعدة في إعادة الإعمار. ودخلت قوافل الإغاثة إلى القطاع، محملة بمواد البناء والمساعدات الإنسانية، فيما تعهدت منظمات إقليمية ودولية بالمساهمة في إعادة بناء ما دمره الاحتلال.

كانت القاهرة أول من بادر، إذ لعبت دورا محوريا في التفاوض بشأن المعابر، خاصة معبر رفح الحدودي، الذي ظل شريان الحياة الوحيد للغزيين. كما استضافت مصر لقاءات مكثفة بين الفصائل الفلسطينية لتنسيق إدارة القطاع في مرحلة ما بعد الانسحاب.

على الأرض، بدأت جهود إعادة الإعمار وسط تحديات هائلة. في الوقت الذي سعت فيه منظمات عربية إلى تمويل مشاريع الإسكان والبنية التحتية، اصطدمت هذه المساعي بواقع الحصار الإسرائيلي الذي أعاق دخول المواد الأساسية. ومع ذلك، نجح الفلسطينيون، بدعم من متبرعين عرب ومؤسسات خيرية، في بناء عدد من المدارس والمستشفيات، وإطلاق مشاريع لإيواء العائلات التي فقدت منازلها خلال سنوات الاحتلال والعمليات العسكرية.

لكن سرعان ما تبين أن تحديات ما بعد الاحتلال لم تقتصر على إعادة الإعمار، بل امتدت إلى الصراع الداخلي. فقد أدى الانسحاب الإسرائيلي إلى فراغ سياسي سرعان ما تحول إلى خلافات بين الفصائل الفلسطينية، خاصة بين فتح وحماس. ورغم المحاولات العربية لرأب الصدع، فإن الانقسام السياسي ألقى بظلاله على مستقبل غزة، وزاد من تعقيد جهود إعادة البناء.

بعد سنوات من الانسحاب، ظلت غزة تحت الحصار، وتكررت الاعتداءات الإسرائيلية التي دمرت كثيرا مما أعيد بناؤه. لكن ورغم كل ذلك، ظل القطاع عنوانا للصمود، يثبت في كل مرة أن إرادة الفلسطينيين لا تكسر، وأن الاحتلال، وإن غادر الأرض، لم يغادر عقلية القمع والحصار.

ورغم التحديات السياسية والاقتصادية، لم ينقطع الدعم العربي لغزة. ففي كل عدوان جديد، كانت الشعوب العربية تنتفض، وتعود حملات الإغاثة لتوفير ما يمكن من مساعدة. ومع أن الموقف الرسمي العربي تفاوت بين الدعم الصريح والمواقف الرمادية، فإن الشعوب لم تتخل يوما عن القطاع المحاصر، مؤكدة أن غزة ليست وحدها، حتى لو بقي الاحتلال جاثما على حدودها، يحاول أن يعيد عقارب الزمن إلى الوراء.

إعداد: محمد توفيق أمزيان

Top