المفكر المغربي كمال عبد اللطيف: أربعون سنة من شغف الكتابة والتفكير والتخييل

نحتفى اليوم، بمرور أربعين سنة على ولادة المشروع الفكري للأستاذ كمال عبد اللطيف، منذ أول كتاب صدر له، في هذا الباب، سنة 1982، بعنوان “سلامة موسى وإشكالية النهضة”، إلى واحد من آخر كتبه الصادرة سنة 2022، بعنوان “عيون الموناليزا”. وبذلك يكون هذا المشروع الفكري والفلسفي والإبداعي، الحافل بالعطاء والتراكم والأسئلة والمعرفة والإفادة والإمتاع، قد أكمل اليوم أربعة عقود من الحضور والتفكير والبحث والتأمل والكتابة، وإن كان الأستاذ كمال عبد اللطيف، في حقيقة الأمر، قد شرع في بلورة مشروعه الفكري والنظري، منذ سبعينيات القرن الماضي، في امتداد مشروعه المضيء، في شرائح مختلفة من الباحثين والمفكرين في المغرب وخارجه، بمثل امتداده في الأجيال المتعاقبة من القراء والباحثين الجدد، ليظل مسارا ديناميا، ممتلئا بالحيوية وطافحا بالأسئلة والإنتاج والتراكم…

لذا، ما فتئ الدكتور كمال عبد اللطيف، على مدى هذا المسار، يربي الأمل في الأجيال المتعاقبة، ويزرع فيها التفاؤل بضرورة الفكر والمعرفة والحياة، بما يشهد له به من حضور وازن، ومن حيوية فكرية، وتأثير في طلبته وقرائه وأقرانه ومحاوريه، وفي الوسط الفكري العربي عموما، مساهما، بذلك، في ترسيخ قيم الحوار والحداثة والتنوير في مجتمعاتنا العربية، منذ أن شرع الأستاذ كمال في بلورة أسئلة النهضة والحداثة والتاريخ في الفكر العربي المعاصر، وترسيخها، عبر أفكاره وكتاباته وأبحاثه الرصينة، وأيضا عبر دروسه ومواقفه الجريئة، وله في هذه المجالات جميعها عدد وافر من المصنفات، المنشورة داخل المغرب وخارجه، فضلا عن مساهماته المضيئة في الملتقيات والندوات والحوارات الفكرية، في عديد من المحافل ومؤسسات البحث المختلفة التي ارتبط بها كمال، في المغرب وفي أقطار عربية وأجنبية.

 وإلى اليوم، يواصل كمال عبد اللطيف، بكل حيوية وجرأة، تشييد مشروعه الفكري، ويتابع، عن كثب، التحولات الطارئة في راهننا العربي والدولي، وهو جانب تبرزه كذلك مقالاته الفكرية المتناثرة هنا وهناك، في المنابر المحلية والعربية، كتلك التي يواصل كمال نشرها في جريدة “العربي الجديد”، وفي منبره الثقافي المتميز “ضفة ثالثة”، وفي غيره من المنابر السياسية والثقافية العربية، بما تفتحه للقراء والمهتمين العرب من آفاق رحبة على السؤال، بمثل ما يواصل، كما عودنا على ذلك طيلة مساره الفكري، محاورة المفكرين الكبار، من المغرب والعالم العربي والغرب، في اختلاف نزعاتهم وتوجهاتهم ومذاهبهم الفكرية والفلسفية.

هكذا، إذن، تتقاطع في اهتمامات الأستاذ كمال عبد اللطيف وانشغالاته الفكرية والفلسفية، وعلى مدى أربعة عقود، مجالات معرفية عديدة، تمتد من الفلسفة اليونانية مرورا بالأنثروبولوجيا الثقافية، فالفلسفة السياسة الحديثة، وغيرها، وهي مجالات تؤطرها مجموعة من المحاور والأسئلة والإشكالات والتمارين الفكرية والفلسفية المتجددة، من قبيل: الخطاب الإصلاحي، والفكر السياسي العربي والإسلامي، والمرجعيات السياسية الليبرالية، والحداثة والتحديث السياسي، والخطاب الفلسفي العربي، فضلا عن انشغال مفكرنا، منذ بداية رحلته مع التفكير، بأسئلة النهضة العربية، وبمشاريع التحديث السياسي، واجتهاداته المتواصلة لإعادة قراءة متون الفكر العربي، وتطوير الخطاب السياسي العربي المعاصر، إلى جانب تفكيره النقدي في مجموعة من الأسئلة والمفاهيم الإشكالية والمثيرة للجدل في الفكر المعاصر، فضلا عن مواقفه الفكرية الجريئة من مسألة التراث والظاهرة التراثية، ومن معارك التحديث والتغيير والإصلاح ومعضلاتها، وغيرها مما تطرحه اليوم الحتميات التكنولوجية الجديدة التي يولدها المجتمع الشبكي…

وتلك مجالات وأسئلة وتمارين تؤطرها المؤلفات الأساسية للأستاذ كمال عبد اللطيف، منذ كتابه الرائد عن “سلامة موسى وإشكالية النهضة”، والذي شكل منطلقه في “التفكير في معضلات واقعنا الفكري والتاريخي”، كما جاء في مقدمة الكتاب، بما حققه من أصداء واسعة ومؤثرة داخل الأوساط الجامعية المغربية وخارجها، مرورا بسلسة مؤلفاته وأبحاثه الرصينة الأخرى. وكلها مصنفات ساهمت، إلى حد كبير، في إثارة عديد من القضايا والسجالات والإشكالات الفكرية والفلسفية والثقافية الراهنة، تلك التي ظلت تشغل الفكر العربي الحديث، وتساهم في توسيع فضاء أسئلته.

على هذا النحو، إذن، يعد المفكر كمال عبد اللطيف من بين أبرز الفاعلين والمساهمين والمؤثرين في المشهد الثقافي والفكري العربي، بحضوره الفكري الوازن، وبآرائه وفرضياته وهواجسه النظرية الثاقبة، وبأفكاره الرصينة المخلخلة للخطابات الجاهزة في الإنتاج الفكري العربي، عدا ما يعرف به من حيوية ونشاط أكاديمي لافت، من خلال دروسه ومحاضراته التي كان يتسابق عليها طلبته وغيرهم من الوافدين عليها، فإليه يعود الفضل في تخريج عدد كبير من الطلبة ومن حاملي مشعل الفلسفة الجدد في المغرب، وقد تزايد عددهم، وأثمرت جهودهم، ما يسعف بترسيخ استمرار النظر الفلسفي في الفكر المغربي، موازاة مع سعيه المتواصل إلى إقامة حوار منتج بين أقرانه، سواء داخل “الجمعية المغربية لمدرسي الفلسفة” أو داخل “شعبة الفلسفة بكلية آداب الرباط”، وخارجهما. عدا ما يشهد له به من موسوعية اطلاعه على مجموعة من المدارس والاتجاهات الفكرية والفلسفية العربية والغربية، قديمها وحديثها، فيما أصبحت مصنفاته، اليوم، تشكل مراجع فكرية، لا مناص منها، في المشهد الفكري والأكاديمي العربي.

وأمام تعدد مؤلفات الدكتور كمال عبد اللطيف، وتواتر إصدارها في المغرب وخارجه، وخصوصا بدور النشر البيروتية، فقد يصبح من الصعوبة، هنا، أن نلم بها كلها، في تعدد قضاياها، وتنوع أسئلتها وتجدد طروحاتها وموضوعاتها النظرية والتاريخية المعقدة، وتعدد نتائجها وخلاصاتها، أمام عددها الذي تجاوز اليوم عشرين إصدارا، بمثل صعوبة الإلمام بمجموع إنتاجه الفكري والفلسفي، بما يعالجه من إشكالات ومسائل راهنة، في تعددها وتنوعها، وذلك منذ كتابه الأول “سلامة موسى وإشكالية النهضة”، في تعدد طبعاته، بما حظي به، منذ لحظة صدوره، من ترحيب وتلقيات واسعة في العالم العربي.

فمن خلال قراءة موازية في عناوين مؤلفات كمال عبد اللطيف ونصوصه القوية، سنقف عند مدى تنوع موضوعاتها ومحاورها، منذ مطارحته لإشكالية النهضة عند سلامة موسى، مرورا بقضايا وإشكالات كبرى، بغاية توطين قيمها ومفاهيمها في مجتمعاتنا وثقافتنا المعاصرة، وضمنها أسئلة الفكر السياسي، والفكر العربي المعاصر، والفلسفة العربية المعاصرة، والفلسفة السياسية، والحداثة والتحديث، والفكر التاريخي، والليبرالية والعلمانية، والعقل العربي، والمرأة، وحقوق الإنسان والديموقراطية، وغيرها.

وكلها مصنفات تراهن، في مجملها، على بلورة منطلقات نظرية ونقدية واضحة، تمكن من تجاوز مظاهر القصور والمفارقات المهيمنة على كثير من تجليات فكرنا الفلسفي والسياسي، وتقلص من درجات إنتاجه، وتهدف إلى تجاوز الأسئلة التقليدية والموضوعات والمفاهيم العتيقة، من أجل بناء توجهات جديدة في الفكر، واستشراف مزيد من توطين قيم التواصل وقيم المنزع النقدي في فكرنا المعاصر.

وفي مستوى آخر، يعرف الأستاذ كمال عبد اللطيف بكونه واحدا من المفكرين المعروفين بإقبالهم اللافت على الأدب، قراءة وكتابة، وهو ما يجعله ممتلكا، أيضا، لروح الإبداع، من خلال تجربة خاصة في البوح والتعبير والكتابة عن الذات والجسد، كما في كتابه السير ذاتي “طعم الكلمات: أحوال ومعاينات” (2020)، وفي يومياته “عيون الموناليزا” (2022)، وفيهما يطلق العنان لما يختلج في الوجدان من الأحاسيس والإشارات، على حد تعبيره.

هكذا، تمكن الدكتور كمال عبد اللطيف، في زمن قياسي، من أن يحفر لنفسه مكانة خاصة ومرموقة في الأوساط الفكرية العربية، بما يملكه من كفاءة ودربة فكرية وجرأة وروح نقدية، مكنته من خوض جملة من النقاشات والمعارك الفكرية، المباشرة وغير المباشرة، بهدف إضاءة إشكالات محددة، وهو ما أكسبه ثقة كبريات المؤسسات والمراكز الثقافية والفكرية والسياسية العربية والغربية، وقد أضحى من بين الفعاليات الفكرية العربية التي يعهد إليها بإعداد تقارير ثقافية ومعرفية، عربية ودولية، وعلى أعلى مستوى، فيما تتم استضافته، أيضا، باعتباره شخصية فكرية محكمة، في عدد من اللجان والجوائز العربية ذائعة الصيت، وطبعا، إلى جانبما يتمتع به من حضور إنساني وارف، وتلك خاصية تميز شخصيته ومشهود له بها، بما يعرف عنه من خصال حميدة وتواضع معرفي نادر، وهو ما تؤكده طبيعة علاقاته وصداقاته العديدة والواسعة،داخل المغرب وخارجه.

وحصل، ذات يوم من سنة 2008، ما لم يكن في الحسبان، لقد أصيب الأستاذ كمال عبد اللطيف بوعكة صحية، شملت شلل نصفه الأيمن، وهو عطب جعل جسمه ينتقل من وضع إلى آخر، ليقعده عن الحركة لفترة. لكن كمال عبد اللطيف، بما يعرف به من صبر ومقاومة وتشبث بالحياة، ومن شغف قديم بالسرد والتخييل، لم يحصل أن أقعدته مثل هذه الوعكات عن التفكير والكتابة والتأليف وإلقاء المحاضرات والمشاركة في اللقاءات، لينتفض من داخل عزلته، مقاوما شرسا للعطب، هو الذي لم يقهره تفكيك أعطاب نهضتنا وأسباب تأخرنا، مواجها علله الطارئة ومتسلحا بما يملك من عزيمة وإصرار، متحديا العطب الذي أصاب جزءا من جسده، ما جعله، وإلى اليوم، يواصل تصفية حسابه مع تلك العلل، بترويضها وتفتيتها في بعض مقالاته وفي نصوصه الإبداعية الموازية.

وإذا كانت رِجلُ كمال عبد اللطيف اليمنى قد تخلصت، إلى حد ما، من جمودها، مثلها في ذلك مثل لسانه، مقارنة بيده اليمنى، فقد كان من الصعوبة على الأستاذ كمال أن يستكين إلى القعود، للتفكير فقط في أعطاب الحياة الشخصية، وينشغل بتلك اليد التي خذلته، فكتب عنها، رغم الخذلان، أجمل نصوصه الإبداعية، وكأنه بفعله ذاك يتصالح مع هذه اليد التي أسعفته لزمن طويل، رغم ما أبانت عنه من خذلان، لكن “ما باليد حيلة” كما يقال.

 وبما أن الأستاذ كمال ليس من أولئك الذين يستسلمون لطوارئ الحياة، فقد لجأ، معوضا بذلك هشاشة يده اليمنى، إلى إملاء أفكاره وتحاليله ونصوصه على كاتبته، في وقت قام فيه هو، بتحويل قبضة اليد، من يده اليمنى إلى يده اليسرى، فقام بترويضها، هي أيضا، بجعلها تتعايش مع هذا الضيف الغريب، الذي هو القلم، وقد تعود على الإقامة بين أصابع اليد اليمنى، منذ أن أمسك كمال بتلك الريشة من قصب، وهو في “مسجد المدينة” فكتب القرآن كاملا: “كنت كأغلبية البشر أعمل مختلف الأعمال باليمنى، وكانت اليسرى تقوم بدور المساعد وقت الحاجة”، على حد تعبيره في نصه السردي “اليد الأخرى، في مواجع الدماغ المسلية”. وها هي اليد اليسرى تباشر اليوم، نيابة عن أختها اليمنى، مهمة الكتابة ببطء وفي حدود، وهو وضع يبقى محمودا في جميع الأحوال…

موازاة مع ذلك، يعتبر الدكتور كمال عبد اللطيف من بين المدمنين على الحضور في الملتقيات الفكرية والثقافية الكبرى، داخل المغرب وخارجه، فظل دائم السفر والترحال، مجسدا بذلك لدور ذلك الرحالة الذي كان يسكنه ويحركه، منذ أن غادر بلدته الأسطورية (أبي الجعد)، رغم صعوباته الصحية اليوم، التي تعوق حركة سيره وتنقله، فقام كمال مخترقا مسافات الأرض والبحر والسماء، من غير أن يستسلم لمصيره وقدره، فكان يجد في السفر متعا أخرى، تربط لديه الماضي بالحاضر، وتجعله يواجه العالم، بكل ما أوتي من عزيمة وعنفوان متجددين، مستجيبا بذلك لرغائبه الكثيرة والمشتهاة، ومواصلا حضوره الثقافي والفكري والرمزي في عديد من الجغرافيات الثقافية والمكتبات والمؤسسات والمراكز والجامعات، رغم أن مؤلفاته وأبحاثه ومقالاته كانت تنوب عنه في ذلك، وهو وضع جعل أصدقاءه وطلبته وقراءه، ينسون أن كمال قد أصابه ما أصابه، وإن خف العطب وتحسن الحال قليلا عما كان عليه الأمر من قبل.

والمثير في هذا المسار الفكري الحافل عند الأستاذ كمال عبد اللطيف، كونه ظل مطبوعا بدينامية تصاعدية خاصة، رغم العطب، وإن ظل كمال في نظرنا جميعا يعيش بقلب طفل، وهو جانب تبرزه حركية إصداراته المتواترة في العقدين الأخيرين، حيث إنها في الفترة الأخيرة، وتحديدا منذ سنة 2000، تفوق إصداراته التي ظهرت فيما سبق من فترات، ولذلك طبعا بعض عوامله ومسبباته المتضافرة فيما بينها، منها ورطة الكتابة، وتطور درجة تمرسه بها، ومجابهته للمتغيرات العربية والدولية، محينا لأسئلتها باستمرار.

 غير أن هذا، لا يمنع من القول إن مؤلفات كمال عبد اللطيف الصادرة في العقدين الأخيرين، وهو يعيش انطلاقة جديدة على مستوى الفكر والسؤال، لا يمكن فصلها عن النواة المركزية في مجمل اهتماماته البحثية، داخل الجامعة وخارجها، كما لا يمكن فصلها عن مساهماته، بمعية أقرانه من الباحثين العرب، “في إيجاد أرضية ثقافية مناسبة لعمليات استنبات الثقافة الحداثية ومفاهيمها وقيمها في مجتمعنا”، و”في كيفيات إسناد مشروعات التغيير التاريخية بالمقدمات الفكرية المستوعبة لقيم الحداثة والتحديث”، على حد تعبيره.

وعموما، فإن مشروع الأستاذ كمال عبد اللطيف الفكري، وتمارينه وأبحاثه ونصوصه ومقالاته، رغم ما يطبعها من جدلية فكرية ووحدة في التفكير، وما يكتنفها من أجواء التفاؤل، من منطلق إيمان كاتبها بحتمية الإصلاح ورسم معالم جديدة في طريق المواجهة، وتأسيس أصول التجاوز، فهي كتابات تمنحنا، أيضا، الإحساس بحالات متناقضة قد تبلغ مقام اليأس، كما عبر عن ذلك هو نفسه، في حوار كنت قد أجريتُه معهسنة 2005، وخاصة عند مقاربته لمشروع النهضة العربية، ورصده وتشخيصه لحالات الوهن العربي والتأخر التاريخي في مجتمعاتنا العربية، بما يطبعها من انكسارات وهزائم وخيبات، وذلك في وقت “تتحول مشاريع الإصلاح الثقافي والسياسيفي واقعنا، إلى مشاريع مسدودة الأفق”، موازاة مع تنامي “صور تغلغل التقليد وآلياته في مجتمعنا وثقافتنا وأنظمتنا في التربية والتعليم”، على حد تعبيره في كتابه الجديد “في الحداثة والتنوير والشبكات”، وهو وضع تنبهنا إليه كتابات كمال عبد اللطيف،في دعواتها المتواصلة إلى ضرورة التمتع باليقظة العقلية والتاريخية…

بقلم: د. عبد الرحيم العلام

Related posts

Top