المقاربة التشاركية

في الوقت الذي صارت عبارة “المقاربة التشاركية” على ألسنة كل مسؤولينا وسياسيينا ومحللينا، نجد في الآن نفسه شكاوى وانتقادات لغياب هذه المقاربة من لدن المسؤولين عند إعداد نصوص قانونية أساسية ومهمة، ويكرس هذا التناقض استمرار اعتبار المقتضى الدستوري مجرد فصول وكلام بلا امتداد تطبيقي على أرض الواقع.
في الشهور الأخيرة مثلا صدرت عديد مواقف وتصريحات وبيانات لم تخف استياء أوساط جمعوية وشبابية كثيرة مما تمخض عنه كامل مسار إعداد القانون المتعلق بالمجلس الاستشاري للشباب والعمل الجمعوي.
وفي الأسابيع الاخيرة أيضا حذرت أوساط مختلفة من اعتماد ذات الأسلوب المتسم بتغييب أي حوار أو تشاور مسبق بخصوص مراجعة الإطار القانوني المنظم لعمليات الإحسان العمومي في بلادنا.
كما أنه منذ مدة يتفاعل نقاش وسط مهنيي الإعلام والصحافة حول الحوار مع السلطات العمومية بشأن القوانين والآليات والهياكل والبرامج المتصلة بالقطاع والمهنة…
وإذا اكتفينا فقط بهذه الأمثلة الثلاثة، فهي تستطيع لوحدها أن تعبر لنا عن ظاهرة مقلقة تتنامى داخل العلاقة المؤسساتية المفترض بناؤها بين مدبر الشأن الحكومي والفاعلين الخواص وغير الحكوميين داخل القطاع.
عندما نتحدث عن”المقاربة التشاركية”، فنحن نعني بذلك أحد المنطلقات الجوهرية التي ارتكزت عليها هندسة دستور 2011، وأحد مقومات صياغة السياسات العمومية اليوم.
نلفت هنا إلى أن تصدير الوثيقة الدستورية أورد “المقاربة التشاركية”، وأيضا الفصل الأول، كما أن الفصلين 12 و13 يقران بدسترة وظيفة العمل الجمعوي، ونص الفصل 14، من جهته، على المساهمة الممكنة للمواطنين في التشريع من خلال العرائض، كما أن فصول أخرى استعرضت لائحة المجالس الاستشارية المفروض إنشاؤها وإعداد قوانينها وهيكليتها…
كل هذا يعني أن “المقاربة التشاركية” ليست تعبيرا يجري لوكه على ألسنة المسؤولين فقط، وإنما هي من أركان صنع السياسات العمومية والتشريعات والبرامج في عالم اليوم، ومن ثم يجب أن يكون القول والكلام متبوعين بسلوك فعلي وممارسة يومية ممأسسة ومنظمة وتحدث الأثر الملموس.
في قانون مجلس الشباب والعمل الجمعوي مثلا جرى حوار وطني واسع على مدار عامين، وشارك فيه الآلاف، وصرفت عليه ميزانيات، وفي النهاية جاءت فصول النص ومواده من دون أي علاقة بمخرجات وتوصيات هذا الحوار، ولم تلب مطالب واقتراحات اغلب الجمعيات ومنظمات الشباب، وانتقدتها حتى مؤسسات وطنية أخرى، وبالتالي حكمت أن تكون الانطلاقة عرجاء وعقيمة منذ البداية.
إن دستور 2011 جاء إلى حد كبير مستحضرا سياقا تاريخيا وطنيا وإقليميا معروفا، كما أنه بشر بأفق عام مختلف عما سبقه، ومن ثم كان لا بد لنص يتصل بمجلس الشباب أن يستحضر بدوره نفس السياق، وأن يحضر في عقول مخططيه حراك20 فبراير والأفق الدستوري الجديد نفسه، وأيضا تنامي عديد ديناميات شبابية وجمعوية جديدة في واقعنا الوطني، وأن يقوم بنيانه على دور الشباب في ترسيخ الديموقراطية التشاركية وتحقيق المواطنة.
أما على مستوى الإحسان العمومي وتقديم المساعدات الاجتماعية، فبالفعل يتطلب هذا الميدان الكثير من التنظيم القانوني والمؤسساتي، وكان قد عانى طيلة سنوات من الاستغلال والاختراق لحسابات ذاتية وريعية وانتخابية وسياسية وحزبية، ولكن هنا أيضا لا بد من الوعي على أن الوقت لم يعد هو الوقت، والسياقات اختلفت، ومن ثم لا بد هنا كذلك من…”المقاربة التشاركية”.
جلالة الملك أمر بمراجعة القوانين المتعلقة بهذا الميدان، وذلك مباشرة عقب فاجعة سيدي بولعلام، التي كانت قد أودت بحياة خمسة عشر امرأة جراء التدافع للحصول على مساعدات اجتماعية قدمتها إحدى الجمعيات هناك، وفور ذلك كشف الأمين العام للحكومة، من خلال تقرير وزع على مستشاري الغرفة الثانية أثناء مناقشة الميزانية الفرعية لقطاعه، على أن النص المنظم للإحسان العمومي تعتريه الكثير من النقائص، تجعله غير مؤطر لكل العمليات المتعلقة بالتبرعات والإحسان العمومي، وبالتالي أصبح متجاوزا، ثم تعهد المسؤول الحكومي بمراجعة شاملة لقانون الإحسان العمومي، وأخبر أن الحكومة إنتهت من إعداد مسودة مشروع قانون يتعلق بجمع التبرعات.
وكان وزير الداخلية، بدوره، قد أفاد، أثناء جلسة برلمانية، أن اجتماعا عقد بمقر وزارة الداخلية ضم عددا من الوزراء تدارس الصيغ اللازمة لتأطير الإحسان العمومي وتقديم المساعدات الاجتماعية.
وإذن، يبقى واضحا أن التشاور لحد الساعة لا زال بين الوزراء وحبيس النظر الحكومي وحده، وهذا لا يتيح سوى تفكيرا أحاديا قد لا يكون بالضرورة منتجا في الواقع وعلى الأرض.
يجب التفكير من البداية في الانفتاح على الجمعيات الجادة العاملة في هذا المجال على أرض الواقع، وعلى أطراف مؤسساتية ومدنية أخرى، وذلك بغاية صياغة مقتضيات قانونية لها مضامين عملية وقابلة للنجاح والتطبيق، علاوة على أن المقاربة التشاركية يجب أن تكون منظومة حكم وفعل في كل ما له علاقة بالسياسات العمومية وواقع الناس، تماما كما كرسها دستور2011.
الخوف من الالتزام بهذه المقاربة التشاركية يتجلى كذلك في قطاع الصحافة والإعلام، وذلك منذ إقرار القوانين الجديدة، وخصوصا في الدراسة البرلمانية للمشاريع، ثم أيضا عند تنزيل المقتضيات ومواصلة برامج الشراكة والتعاون…
أحيانا تحدث التوترات والاحتباسات حتى من دون أي داع موضوعي لها، كما أنه مرات يجري التوجه حتى نحو تقويض وهدم بعض البناءات ومنظومات التعاون الناجحة والمجربة منذ سنوات.
في نهاية الأمر، وسواء بشأن ما يهم الأمثلة الثلاثة المذكورة هنا أو بشأن نماذج أخرى غيرها، يبقى الخوف من” المقاربة التشاركية” من طرف المسؤولين، وتبرمهم من كل إنصات للمهنيين أو الفاعلين غير الحكوميين، هو سبب البلوكاج أو صدور القرارات والقوانين بعيدة تماما عن خلاصات كل تشاور قد يكون جرى.
الأساس اليوم إذن هو القطع مع سياقات ما قبل دستور 2011 والوعي بالزمن السياسي والمجتمعي الجديد، وأيضا انكباب الجميع على إعطاء معنى في الأرض لفصول الدستور الجديد وأفقه العام، ول…”المقاربة التشاركية”.

< محتات‭ ‬الرقاص

[email protected]

Related posts

Top