تعكس المقاهي الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية لسكان المدينة كونها فضاء مشتركا للالتقاء والتواصل بين الناس. في مجتمعاتنا العربية، كانت المقاهي في الأصل مكانا للقاء الأصدقاء والمعارف خارج البيوت لما لهذه الأخيرة من خصوصية وحرمة، ثم تطور الأمر فأصبحت المقاهي مكانا، ليس فقط للتسلية والمسامرات بل للتحاور واتخاذ المواقف وحتى تشكيل الرأي العام. لقد باتت المقهى مكانا مألوفا يفرد له زمن خاص يضاهي مختلف الأزمنة الأخرى مثل العمل والمنزل. كان ارتياد المقاهى مباحا لكل طبقات الناس، ووجدت إلى جانب مقاهى العامة مقاه لفئات وطوائف ومهن معينة، فهناك مقاه لعلية القوم وأخرى لأصحاب البدل الأنيقة والموظفين، كما وجدت مقاه لأصحاب الحرف والمهن المختلفة كعمال البناء والحدادة والنجارة وغيرهم. لم تكن المقاهي تحظى باهتمام الدارسين والباحثين ولذلك بقيت ظاهرة مجهولة من طرف المؤرخين، لا سيما، العرب. فالظاهر أن ذلك يعود إلى النظرة الموروثة التي ترى الظاهرة على أنها ذات طبيعة هامشية. غير أنه في ما بعد حظيت باهتمام الباحثين في مجالي علم الاجتماع والانثروبولوجيا قبل أن تحظى باهتمام المختصين في ميادين أخرى من ذلك علم الاقتصاد والهندسة والمعمار. بيان اليوم تنقل قراءها من بعض هذه الفضاءات التاريخية في مجموعة من الأقطار.
الحلقة الرابعة
المقهى في تونس.. رمزية المكان ودلالات التسمية
ويتابع المتحدث بأن المقاهي هي فضاءات للتلاقي والتواصل ولكن دراسة سريعة للجانب الرمزي تفضي بنا الى القول بأن المقهى يختزل الكثير من الرموز والدلالات، يبرز ذلك في مستويين اثنين:
المستوى الأول هو رمزية المكان: فالمقهى التقليدي ينقسم بدوره الى قسمين فمن ناحية نجد المقهى الذي يعمل اصحابه على تكريس نوع من الأصالة والتمسك بالتراث من حيث الطبيعة المعمارية التي كثيرا ما تأخذ شكل الأقواس والقباب انسجاما مع العمارة العربية الاسلامية، وتكون نوعية الخشب المستعمل وزوايا الجلوس والمقاعد متناغمة مع ذلك الفضاء.
ويقع تأثيث المقهى بصور تاريخية تعبر عن مرحلة تاريخية من مراحل المدينة التي يوجد فيها المقهى أو عن مراحل عدة، كما تكون الأدوات المستعملة في تقديم المشروبات وخاصة الشاي والقهوة ذات طبيعة تقليدية صنعت لأداء هذا الدور ولا غنى عن تدخين الشيشة في مثل هذه المقاهي والتي لا يسمع فيها الا لأصوات فنانين امثال ام كلثوم وعبد الوهاب وفيروز. اما النوع الثاني من المقهى فهو المقهى الأوروبي الذي لا يهتم كثيرا بالجانب المعماري وان كان شكله ينسجم مع التحولات التي تعيشها المدن اليوم فهو خليط من العمارة العربية الاسلامية والعمارة الاوروبية وكل ما يحتويه ينسجم مع ذلك الخليط في ما يتعلق بنوعية المقاعد والتأثيث الداخلي والمشروبات المقدمة والموسيقى الصاخبة احيانا والهادئة احيانا اخرى وتقديم النرجيلة، والعنصر الرئيسي هو الربح ومزيد من الربح فهو مقهى برغماتي متماهٍ ومتجانس مع طبيعة عصره.
المستوى الثاني هو دلالة التسمية: فأسماء المقاهي يمكن تقسيما الى اصناف ثلاثة:
الصنف الأول: هو التسميات ذات الدلالة التاريخية التي ترتبط بأسماء اشخاص او احداث هامة في التراث القديم او الحديث أو فترة الحركة الوطنية او غيرها من الأحداث السياسية او اسماء مدن كبيرة او قيم ذات دلالة امثال تسمية “مقهى صلاح الدين” او “مقهى القدس” او”مقهى 20 مارس” او “مقهى القاهرة” او “مقهى السلام” او “مقهى الحرية” وهذه التسمية كثيرا ما تعكس رمزية انتماء الى رأسمال ثقافي يختزل هذه الاسماء ويطمح إما الى اعادة انتاجها او احيائها في الذاكرة الجماعية التي لم تعد تخصص مساحة محترمة لذلك.
الصنف الثاني: هو التسميات الغربية المتأوربة او المتأمركة امثال مقهى “باريس” او “الشانزيليزي “او “الكوليزي” او “مقهى بونابرت” او “مقهى ميامي” او “نيويورك” او “مقهى مايكل جكسون”. وهي تسميات تعكس في الوعي أو اللاوعي التأثر العميق والشديد بالآخر وتنطبق عليها مقولة ابن خلدون في اقتداء المغلوب بالغالب والتشبه به.
الصنف الثالث: يعتمد هذا الصنف تسميات محلية سواء تعلّق الأمر بأسماء اشخاص او مدن وكثيرا ما لا تختفي وراء مثل هذه التسميات خلفيات عميقة او رمزيات تذكّر بالتمسك بإرث محلي عائلي او قبلي او مديني مثل مقهى الحاج فلان او مقهى أولاد فلان او مقهى مدينة كذا.. الخ.
هل المقهى ظاهرة هامشيّة؟
هل يمكن اعتبار المقهى إفرازا هامشيا لمجتمعنا الانساني المعاصر؟
لاشك ان المقهى بالرغم من انتمائه الى الفضاءات المخصصة لأوقات الفراغ وللمعاملات غير الرسمية والشكلية فإنه استطاع ان يلعب أدوارا كبرى وخطيرة في احداث سياسية ونقابية وفي الترويج للأفكار والايديولوجيات والآداب والفنون وفي عقد الصفقات الهامة وفي ارتباطه بأحداث وبشخصيات على درجة كبرى من الاهمية في تاريخ البشرية (مقهى جلس فيه ماركس أو سارتر). وقد بات يشكل موضوع ابداعات ادبية وفنية سينمائية ومسرحية وهو في واقع الامر نتاج لحراك اجتماعي وتاريخي عاشته البشرية في إطار اجابتها على الاسئلة والتي كثيرا ما ترتبط بالحاجات البشرية المادية والمعنوية المتجددة وهو يعيش التحولات التي يعيشها المجتمع بأكمله ويتأثّر بها ويؤثر فيها بشكل أو بآخر.
إعداد: سعيد أيت اومزيد